افتتاحية قاسيون 1169: بأي اتجاه ينبغي السير داخلياً؟
نقطة الانطلاق الأهم للخروج من المأساة السورية، هي معرفة الأسباب التي أدخلتنا فيها، وعلى الخصوص معرفة وفهم أخطاء الماضي والاتعاظ بها لعدم تكرارها. حينها فقط يمكن الحديث ليس فقط عن سبل الخروج من الأزمة، بل وأيضاً عما ينبغي فعله في المستقبل، وبأي اتجاه ينبغي أن نمضي. وإذا كان هذا الكلام يصح على كل أنواع السياسات، فإنه يصح بشكلٍ خاص على السياسات الاقتصادية- الاجتماعية.
تحدثت افتتاحية قاسيون الماضية، بقدرٍ من التكثيف، عن تنفيذ الحكومات السورية المتعاقبة لوصفات صندوق النقد والبنك الدوليين؛ الوصفات الليبرالية التي تلطت تحت مسمى «اقتصاد السوق الاجتماعي» منذ عام 2005 رغم أنها كانت قد بدأت قبل ذلك التاريخ بأشكال أكثر استتاراً، وبسرعات أقل وضوحاً. النتيجة الملموسة لهذه السياسات، وبعيداً عن الغرق في التنظيرات الأيديولوجية، بين الاشتراكية أو الرأسمالية، هي أنّ نسبة الفقر في سورية ارتفعت خلال سنوات الخطة الخمسية العاشرة من 30% إلى 44%، إضافة إلى الدمار الكبير الذي أحاق بالثروة الزراعية والحيوانية والصناعية نتيجة رفع الدعم الجزئي في حينه عن المحروقات وغيرها من الممارسات الانسحابية لقطاع الدولة من الحقل الإنتاجي، والاقتصادي عموماً.
هذه النتائج كانت هي ذاتها جزءاً أساسياً من مقدمات الأزمة التي نعيشها حتى اليوم، والتي لم يدفع الوقوع فيها للتعلم من دروس الماضي لعكس اتجاه السير الذي أدخلنا للأزمة، بل ما جرى حتى الآن، وما ينذر به سلوك الحكومات المتعاقبة بشكلٍ متسارع، هو أنّ الطريق نفسه والاتجاه نفسه ما يزالان سائدين في السلوك العملي.
مرة أخرى، وبعيداً عن الكلام الأيديولوجي، فإنّ التقدم بمعناه الاقتصادي الاجتماعي وانعكاساته الشاملة على كل مناحي الحياة، إنما يقاس بعاملين معاً، النمو الاقتصادي والعدالة الاجتماعية.
إذا نظرنا إلى التاريخ الحديث للاقتصاد السوري من هذه الزاوية، وجدنا أنه حقق أرقام نمو مقبولة في السبعينيات، بمتوسط هو 5%، وحدث في حينه قدرٌ من التنمية سرعان ما توقف تقدمه؛ فنمو وتضخم الشرائح الطبقية -الحديثة النشأة في حينه- المتمثلة بالبرجوازيتين البيروقراطية والطفيلية، أدى إلى تمركزٍ في الثروة أثر بشكلٍ مزدوج على العدالة الاجتماعية من جهة، وعلى معدلات النمو من جهةٍ أخرى؛ فالنمو لا يمكن أن يستمر دون اكتمال دورة الإنتاج عبر الاستهلاك، وحين يتم تخفيض قدرة عموم الناس على الاستهلاك عبر انخفاض حصتهم في الدخل الوطني، فإنّ ذلك سيؤدي بالضرورة إلى تعطل تجديد دورة الإنتاج، ناهيك عن توسيعها، أي إنه سيؤدي حكماً إلى تراجع النمو.
هذه العمليات السلبية تعمقت مع قانون الاستثمار رقم 10 لعام 1991، وتعمقت بشكلٍ متسارع وكارثي منذ 2005 وحتى الآن.
المخرج الفعلي بالمعنى الاقتصادي-الاجتماعي، يرتكز إلى معيارٍ مركبٍ هو أعمق عدالة اجتماعية وأعلى نمو؛ والنمو هذا ينبغي ألا يقل رقمه عن 10% على مدى عدة سنوات قادمة.
وهذا المخرج يتطلب السير باتجاه معاكس تماماً للاتجاه الذي أدخلنا نحو 2011، وبالملموس فإنه يعني فيما يعنيه:
1- تحكماً عاليَ المستوى للدولة في الصناعات الكبرى الاستراتيجية والاستخراجية، وبإنتاج الطاقة الكهربائية.
2- تحكماً مطلقاً يصل حد الاحتكار لجهاز الدولة لقطاع التجارة الخارجية، وتجارة الجملة الداخلية وخاصة في المواد الأساسية (ضمناً الغذاء بكل أشكاله ومصادره).
3- تطويرَ البنى التحتية بشكلٍ حاسم، وخاصة النقل بما في ذلك شبكة سكك حديدية تربط كل المحافظات السورية.
4- اجتثاث الفساد الكبير وتحويل موارده السابقة قدر الإمكان والحالية إلى عملية النمو، وتقليص الهوة بين الأجور والأرباح وصولاً لإزالتها.
هذه الخطوات وغيرها قابلة للتطبيق العملي، حتى ضمن ظروف الحصار والعقوبات التي ستستمر لسنوات أخرى على أقل تقدير، ولكنّها تحتاج لإرادة سياسية حقيقية للقيام بها، وخاصة عبر الاستفادة من الصراع الدولي والتموضع في ضفة التاريخ الصحيحة إلى جانب القوى الصاعدة... هذه الإرادة السياسية بدورها، تحتاج حلاً سياسياً شاملاً على أساس القرار 2254 يعيد توحيد الأرض السورية، والشعب السوري بوصفه صاحب المصلحة الأولى في ضرب وصفات صندوق النقد والبنك الدوليين وفي اجتراح طريقه الخاص في النمو والتنمية، تحقيقاً لأعلى نمو وأعمق عدالة اجتماعية...
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1169