أن يكون القرار «غير ملزم» فهذا يعني إلزامية إعادة تركيب الأمم المتحدة!
تبنّى مجلس الأمن الدولي في 25 آذار الماضي القرار رقم 2728، والذي دعا فيه إلى وقف إطلاق نارٍ فوري في غزة، الأمر الذي – وكما هو متوقع – تجاهله الكيان الصهيوني واستمر بعدوانه.
ولكن الأمر الذي أثار التحليلات والتساؤلات كان طريقة تعاطي الولايات المتحدة مع القرار، سواء داخل مجلس الأمن أو بعد تمريره، حيث امتنعت الولايات المتحدة عن التصويت على القرار، ما أدى لتمرير القرار بموافقة الأعضاء الأربعة عشر الباقين، مقارنة مع المرات السابقة التي استخدمت فيها حق النقض «الفيتو» لإعاقة تمرير مشاريع القرارات السابقة حول الموضوع نفسه.
الأمر الآخر، هو أنه بعد اعتماد القرار، صرحت واشنطن من خلال ممثلتها في الأمم المتحدة أثناء الجلسة ذاتها ولاحقاً من قبل مسؤولين في الإدارة الأمريكية بأن «القرار غير ملزم».
وتطرقت قاسيون في مادة سابقة إلى هذا الموضوع، وقالت فيها بأن «واشنطن عبر قولها: إنّ «القرار غير ملزم»، لا تنتقص فقط من قيمة هذا القرار القانونية، بل تمتهن وتزدري علانيةً، مجلس الأمن والأمم المتحدة وميثاقها والقانون الدولي... ورغم أنّ ازدراء واشنطن للمؤسسة الدولية ليس بالأمر الجديد، ولكن هذه الدرجة من الوقاحة، ربما تؤشر إلى دخول واشنطن طوراً ثالثاً جديداً في التعامل مع الأمم المتحدة؛ فإذا كانت راضية عنها ردحاً من الزمن وتستخدمها لمصالحها... فإنها... قد دخلت في طور تعطيل المؤسسة بأكملها، عبر منع تمرير عدد كبير من القرارات باستخدامٍ مكثف لحق الفيتو بوجه دول الجنوب العالمي على العموم، وبوجه القوى الصاعدة على الخصوص. وأما الطور الثالث الحالي، فهو ربما يكون طوراً لم تعد واشنطن قادرة فيه حتى على الاستمرار في تعطيل المؤسسة، ولذا فقد بدأت بالعمل على تقويضها بشكلٍ علني عبر ازدرائها وازدراء قراراتها؛ فحين تكون قرارات مجلس الأمن غير ملزمة، فليس لهذه المؤسسة أي قيمة فعلية».
تأكيداً على ما سبق، بات من الصعب حتى على الغرب نفسه تجاهل هذا التوجه لدى الولايات المتحدة ضمن المنظومة الدولية؛ ففي مقالة نشرها موقع «Responsible Statecraft» الأمريكي قبل أيام، تنظر الكاتبة في تصريح واشنطن بأن القرار غير ملزم، وتدحض هذا الادعاء استناداً إلى عدد من المراجع ذات الصلة بالأمم المتحدة بما فيها ميثاق الأمم المتحدة، وقرارات سابقة مرتبطة بمجلس الأمن وقراراته بما في ذلك قرار لمحكمة العدل الدولية.
الأهم من ذلك، هو ما قالته الكاتبة حول ما يعنيه هذا التصريح من قبل الولايات المتحدة، حيث بدأت المقالة بقولها: «يقول الخبراء إن الولايات المتحدة تضر بمكانتها الدولية بإصرارها على أن الدعوة الأخيرة لوقف إطلاق النار في غزة «غير ملزمة». وتضيف لاحقاً: «يشكو الخبراء من أن واشنطن تبدو وكأنها تفسر القانون الدولي بشكل انتقائي لمصلحة أهدافها السياسية – في هذه الحالة لحماية إسرائيل – وهو إجراء يمكن أن تكون له عواقب على شرعيتها في نظر بقية العالم في المستقبل». وتختم الكاتبة بالقول: «لا يخلو الموقف الأمريكي من عواقب محتملة... إن إصرار واشنطن على أن هذا القرار غير ملزم في مواجهة التفسير الراسخ لأحكام الميثاق، يؤدي مرة أخرى إلى تآكل القوة المعيارية للنظام القانوني الدولي»، ... «ويساهم في تصور متزايد بأن القانون الدولي هو أداة للسلطة السياسية للولايات المتحدة وحلفائها».
بعض الجهات الغربية الأخرى لم تذهب إلى هذا الحد من الاستنتاجات، ولكن بطريقة غير مباشرة قامت بذلك من خلال مقالات تدحض ادعاء واشنطن بأن القرار غير ملزم. موقع «The Conversation» الأسترالي، نشر مقالة مطولة حول الموضوع تؤكد أن القرار ملزم وفق المراجع الدولية والأممية ذات الصلة، لكنها لم تصل إلى حد اتهام الولايات المتحدة بالتجاهل الانتقائي للقوانين والأعراف الدولية.
حتى بعض الجهات الإعلامية للكيان، ولكن طبعاً بطريقتها، تطرقت إلى الموضوع، حيث إن مقالة في «The Times of Israel» نوهت إلى أنه: «من غير المتوقع أن تلتزم إسرائيل بدعوة القرار إلى وقف فوري لإطلاق النار، ... على الرغم من أنها طرف في ميثاق الأمم المتحدة وعدم الالتزام بقراراتها قد يؤدي إلى دعوات لفرض عقوبات. ولكن مع تأكيد الولايات المتحدة على أن القرار غير ملزم، فمن غير المرجح أن تسمح واشنطن للمجلس بفرض عقوبات على إسرائيل لعدم التزامها بالقرار». ويضيف المقال: «نظراً لأن الولايات المتحدة يمكنها منع الأعضاء من محاولة فرض عقوبات على إسرائيل بسبب فشلها في الالتزام بالقرار، يبدو أن تفسير واشنطن يحمل وزناً أكبر. وبناءً على ذلك، فهو يوضح التأثير المحدود للغاية الذي تتمتع به الأمم المتحدة عندما تفكر في الصراعات حول العالم». أي، وبطريقة غير مباشرة، تؤكد هذه المقالة النقطة ذاتها، وهي أن الولايات المتحدة تفسر القوانين الدولية وقرارات مجلس الأمن كما تشاء، وتعمل بطريقة تقوّض وتعطّل عمل الأمم المتحدة متى شاءت.
بالتأكيد، هذا الكلام بأن الولايات المتحدة تفسر القانون الدولي بطريقة انتقائية تخدم مصالحها ليس اكتشافاً جديداً، بل هو معروف ومنذ زمن بعيد، ولكن ما هو جديد وقد نشهد تزايداً له هو أن درجة الوقاحة في طريقة تعامل أمريكا وصلت إلى مرحلة لا يمكن تجاهلها أو القبول بها، حتى من قبل أقرب حلفائها ومن قبل الإعلام الغربي.
ربما الأمر الأكثر أهمية في هذا السياق، هو أنّ المسألة لن تقف عند حدود تكوين رأي عامٍ شعبيٍ ودوليٍ بأنّ واشنطن تخرق المواثيق الدولية كلها، وتزدري المؤسسة الأممية وقراراتها، بل إنّ الأمور ستمضي أبعد من ذلك في إطار الصراع العالمي الجاري...
قاسيون، وبعد أيام قليلة من بدء المعركة في أوكرانيا، (تحديداً يوم 27 شباط 2022) حددت في افتتاحيتها رقم 1059 وعنوانها «عالم ما بعد أوكرانيا»، ستة عناصر عامة أساسية لعالم ما بعد أوكرانيا، وفي البند الأول بين هذه العناصر، قالت ما يلي:
«انتهت الصلاحية التاريخية للنظام السياسي العالمي بشكله القائم، وممثلاً بالأمم المتحدة وبالمنظمات الدولية الأساسية جميعها، والتي ما تزال تعكس في تركيبتها وآليات عملها توازنات دولية عفا عليها الزمن. انتهاء الصلاحية هذا لا ينعكس في عدم قدرة هذه المؤسسات الدولية على حل المشكلات العالمية المختلفة فحسب، بل وأكثر من ذلك في كونها مسهماً في تعقيدها وتعميقها وإطالتها، انطلاقاً من التلاعب الغربي ضمنها، ما يعني أنّ إعادة النظر في تركيبتها جذرياً، وبما يناسب توازنات القوى الواقعية، بات أمراً ضرورياً وملحاً، وبشكل خاص ضرورة تمثيل دول وقارات ذات أوزان فعلية وبشرية كبرى في مجلس الأمن، (الهند وإفريقيا على سبيل المثال لا الحصر».
اعتبار الولايات المتحدة، بشكل علني، قراراً صادراً عن مجلس الأمن الدولي، قراراً غير ملزم، هو جزء من هذه العملية نفسها التي أشارت إليها افتتاحية قاسيون آنفة الذكر، ومرحلة متقدمة ضمن هذه العملية...
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1169