بانتظار التوافق الدولي... فلتذهب البلاد وأهلها إلى الجحيم!

ما الذي تعنيه هذه المقولة؟

إذا حاولنا إمعان النظر فيما تعنيه هذه المقولة، أو بالأحرى فيما تخفيه تحتها من آليات تفكير، إذاً لظهرت أمامنا جملةٌ من الأمور:
1- دورنا كسوريين، سواء في المعارضة أو في النظام أو في المجتمع، هو دور هامشيٌّ لا قيمة له... ونحن باختصار: لا حول لنا ولا قوة.
2- بما أنّ الأمر كذلك، فعدم حصول توافق دولي هو بمثابة شهادة براءة ذمة بالنسبة للسياسيين، سواء في النظام أو في المعارضة.
3- إلى حين حصول التوافق، فإنّ علينا أن ننتظر زمناً (ما)، أشهراً - سنوات - عقوداً... وبينما نحن ننتظر، فالواقع نفسه لا ينتظر ويستمر بالحركة، ونحو الأسوأ... وفي حال تمّ تفتيت سورية نهائياً وإنهاء وجودها ضمن هذا (الزمن الـ ما بانتظار التوافق الدولي)، فإنّ ذلك ليس ذنبنا.
4- صحيح أنّ ملايين السوريين يعانون بشكلٍ يومي من الفقر والجوع والمرض والبرد وغياب الأمان، وفي كل مناطق وجودهم، ولكن مرةً أخرى: نحن لا ذنب لنا، فالتوافق الدولي لم يحصل بعد...
يمكن المضي أبعد من ذلك في الاستنتاجات المستخلصة من مقولة «في انتظار التوافق الدولي»، ولكن سنكتفي بهذا القدر هنا، لننتقل إلى لفت النظر لأمرٍ طريفٍ حدث قبل نحو أسبوعين من الآن، ويفيد عرضه في تعميق فهم سياسة «الانتظار» هذه.
على هامش أحد اجتماعات المعارضة مؤخراً، وفي إطار لقاءٍ مع مندوبي دول غربية، عبّرت دبلوماسية أمريكية عن «نصيحتها للمعارضة» عبر الفكرة التالية: «عند ترويض الخيول الجامحة، يتم ربط الخيل الجامح فترة من الزمن، تطول أو تقصر، ريثما يخف هياجه ويصبح من الممكن تطويعه. إذا فقد المروض صبره فإنه سيخسر المعركة. على المعارضة أن تتحلى بالصبر إلى حين تتم عملية الترويض». الخيل المقصود هو النظام، وآليات ربطه هي العقوبات والضغوطات الغربية.
أي إنّ نصيحة الأمريكي هي بالضبط: «انتظروا، ابقوا كما أنتم، لا تحركوا ساكناً، وانتظروا...». هذا الأمريكي نفسه الذي يقدّم هذه النصائح ويحثّ على الثبات والصمود، يحثّ أيضاً على الكسل العقلي: أي لا حاجة للقيام بأي مبادرة، لا حاجة للتفكير، النتيجة مضمونة والمسألة مسألة وقت... لا ينبغي الالتفات إلى حجم الآلام والآهات والخسائر اليومية التي يعانيها السوريون في كل مناطق وجودهم، ولا ينبغي مساءلة العقوبات وواضعيها عن دورها ودورهم في هذه المأساة المستمرة، فلكل شيء ثمنه... ينبغي على عموم السوريين أن يدفعوا الثمن...
هذا الأمريكي نفسه، الذي يقول لقسم من المعارضة (انتظروا)، ويرسل إلى ذلك القسم تمثيلاً من الدرجة السادسة أو السابعة، يقوم بتشكيل معارضةٍ أخرى في واشنطن تحت مسمى «مجتمع مدني» و«رجال أعمال»، ويحتفي بهم بتمثيلات من الدرجة الثالثة والرابعة.
أهم من احتفائه بهؤلاء، أنه يمضي معهم ومع المتشددين من الطرف الآخر، ضمن السياسة المعلنة منذ سنوات، والمسماة «تغيير سلوك النظام»، وعبر «خطوة مقابل خطوة»، والتي تستهدف في نهاية المطاف أمرين واضحين: 1- إطالة الأزمة وتعميقها وتكريس تقسيم الأمر الواقع. 2- إبقاء سورية مستنقعاً للروس وللإيرانيين، وصولاً إلى دفعهم خارجها بعد استكمال تقسيمها وإعادة موضعتها إقليمياً بالعلاقة مع الكيان الصهيوني.
وهل للكلام السابق أي علاقة بالقرار 2254؟ نعم، له علاقة مباشرة بأنه نقيض كامل للقرار 2254، ونقيض كامل لفكرة الحل السياسي الذي يحافظ على وحدة البلاد وشعبها، ويمكّن هذا الشعب من تقرير مصيره بنفسه.
المتابع الموضوعي لدور الولايات المتحدة ومعها الغرب عموماً، في سورية، وفي غيرها من الأزمات، وخلال عقودٍ مضت، وخاصة مع المثال الفلسطيني القديم المستجد، وبشكله الفاقع الذي نشهده الآن؛ حيث تتحول الدعاية الديمقراطية الغربية إلى مهزلةٍ لا قيمة لها، وتتحول الإنسانية المدَّعاة، إلى وحشية وهمجية ودناءة منقطعة النظير... نقول إنّ المتابع الموضوعي لدور واشنطن، لن يغيب عنه أنها لا تريد حلاً سياسياً في سورية، ولا تريد استقراراً فيها، بل إنّ ما تريده بالضبط هو الفوضى الشاملة الهجينة في كامل الإقليم...
ينبغي أن نتذكر دائماً، أنّ استقرار هذا الإقليم هو مصلحة مباشرة للقوى الصاعدة وللقوى الإقليمية الأساسية (عدا الصهيوني بطبيعة الحال)؛ فاستقرار منطقتنا يعني فتح الباب واسعاً أمام استكمال تنفيذ الحزام والطريق والمشروع الأوراسي، ويعني أيضاً إيقاف استنزاف مجمل القوى الإقليمية الأساسية التي ستشكل حاملاً أساسياً من حوامل المنظومة الدولية الجديدة... نقصد هنا تقاطع المصالح بين كل من إيران وتركيا ومصر والسعودية، كأهم قوى إقليمية في منطقتنا، مع مصالح القوى الصاعدة الدولية.
هذا كلّه يصب عكس مصلحة الأمريكي، الذي لم يعد لديه مشروع يقدمه للعالم سوى الحروب والخراب والانقسامات والفوضى؛ فمن اعتمد طوال 80 عاماً على أنّ ناتجه الأهم هو مجرد أوراق (الدولار) يسيطر بها دون وجه حق على ثروات واقتصادات العالم، لم يعد قادراً على العودة نحو الإنتاج الحقيقي، حتى على المستوى السياسي والفكري، بات نتاجه محمولاً على الكذب والتضخيم والنفاق.
بالعودة إلى الوضع السوري، وإذا افترضنا أنّ الأمريكي سيتخلى «بقدرة قادر»، «يوماً ما»، عن استراتيجيته التدميرية التي تشمل كامل الشرق الأوسط، لمصلحة استراتيجية أعدائه، أي لمصلحة استراتيجية التهدئة والاستقرار، سيبقى السؤال قائماً متى يمكن أن يكون هذا الـ«يوم ما»: متى يمكن أن يحدث التوافق، وأن يتم حل الأزمة في سورية على أساسه؟
مرة أخرى، فإنّ طبيعة الصراع الجارية عالمياً، تقول إنّ توافقاً كهذا لن يحصل قبل سنوات طويلة، هذا إنْ حصل... فالصراع مستمرٌ ومتصاعدٌ بشكل دائم، وطبيعة الأزمة البنيوية التي تعيشها الهيمنة الغربية والدولارية خاصة، تجعل من هذا الصراع صراع بقاء، وصراع وجود، ولذا ليس من المتوقع بحالٍ من الأحوال أن يتم الوصول إلى توافق في وقت قريب، وليس من المتوقع أيضاً أن يأخذ التوافق -في حال الوصول إليه- شكلاً تقليدياً مشابهاً لتوافقات دولية سابقة.

إذا انتظرنا هل سينتظر الواقع؟!

إذا قبلنا بالفرضية التي تتبناها أوساط عديدة، والقائلة بأن الحل يمر حصراً عبر توافق دولي بين الغرب والشرق، بين الأمريكان والروس، وإذا قبلنا فوق ذلك، بأنّ دورنا الحالي هو «الصبر والانتظار»، والحقيقة أنّ الصابر الأساسي هو الشعب السوري وليس القسم من النخب السياسية، وخاصة المتشددة، التي تمر عليها سنين الأزمة مروراً ناعماً لطيفاً، بل ويتحسن وضعها من سنة إلى أخرى، سواء منها المقيم داخل سورية في أي منطقة من مناطقها أو خارجها... فصاحب قرار الانتظار، ينبغي على الأقل أن يكون متحملاً لتبعاته، لا أن يكون منتفعاً من تلك التبعات...
بكل الأحوال، إذا قبلنا بأنّ المطلوب هو الانتظار، فما هي مدة هذا الانتظار، وما الذي يمكن أن يحدث خلاله؟ وهل سينتظر الواقع كما هو؟ وهل سينتظر الأمريكان الذين يطالبون بالانتظار؟
الواقع لن يبقى كما هو؛ احتمالات تقسيم سورية نهائياً وإنهائها، تزداد مع كل يوم تأخير إضافي، مزيد من السوريين يتم تهجيرهم، الوضع الاقتصادي ينحدر بشكل يومي، وضع التعليم يتردى، الانحلال الاجتماعي بكل أشكاله وبكل مناطق سورية يزداد على أساس يومي كنتيجة مباشرة لسيادة الاقتصاد الأسود الإجرامي، والذي يجري تبنيه وتشجيعه من كل من العقوبات الغربية، ومن الفاسدين الكبار والمتشددين في النظام وفي المعارضة.
الواقع لن يبقى كما هو؛ فالأمريكان الذين يَعِدون بعضَ من في المعارضة بأنّ «الصبر مفتاح السلطة»، يطبخون وصفة أخرى لسورية، ليس فيها أساساً أي وجود وأي دور لهؤلاء الموعودين الواهمين... تنفع في هذا السياق العودة إلى مادة نشرت في شباط من هذا العام في قاسيون بعنوان: «من تغيير سلوك النظام إلى خطوة مقابل خطوة. أين وصلت اتفاقات تحت الطاولة مع الغرب؟»
وهذا الأمر بحد ذاته، أي تهميش القسم من المعارضة الذي جرى تعميده والترويج له سابقاً، لا ينبغي أن يثير دهشة أحد، هو فقط يثير دهشة ذلك القسم نفسه، والذي يقول لسان حاله: «ما الذي يجري ولماذا؟ لقد قمنا بتطبيق الوصفة بحذافيرها: رفضنا الحوار، رفضنا الحل السياسي، طالبنا بالتسليح، طالبنا بالتدخل الخارجي، وبمناطق الحظر الجوي، وحين لم ينفع ذلك ولم تتدخلوا عسكرياً بالشكل المطلوب، ذهبنا للقبول الشكلي بالحل السياسي على أمل أنكم ستكسرون ذراع الروس وغيرهم في سورية سياسياً، لنصل إلى النتيجة المطلوبة بطريقٍ آخر... أنتم المذنبون (أي الغرب)، فنحن قمنا بما يترتب علينا ضمن تقسيم المهام، أنتم الذين لم تقوموا بدوركم... في العراق وفي ليبيا قمتم بدوركم، ولكن في سورية لم تفعلوا، ونحن ننتظر أن تفعلوا...»

وما العمل إذاً؟

ينبغي فهم أنّ المتشددين من كل الأطراف السورية، هم دائماً الذين كانوا أقرب إلى الغرب، ودائماً كان هواهم غربياً، سواء بشكلٍ معلن أو غير معلن... والحقيقة أن هذا الهوى بمعظمه معلن من كل هذه الجهات المتشددة، فأولئك الذين لا يعلنون هواهم بشكلٍ صارمٍ واضحٍ سياسياً، يعلنونه اقتصادياً بشكل كامل عبر الامتثال لوصفات صندوق النقد والبنك الدوليين، وسياسياً بشكلٍ جزئي.
هذا من جانب، ومن جانب آخر، ينبغي على الوطنيين السوريين بغض النظر عن اصطفافاتهم، أن ينطلقوا في فهم مصالح الدول في سورية من مصالح الدول تلك وليس من رغباتهم؛ والنظر الموضوعي إلى طبيعة الصراع العالمي وطبيعة المصالح، يسمح باستنتاج واضح هو أنّ عدم الاستقرار وتعميق عدم الاستقرار، بما في ذلك التقسيم، في سورية، هو مصلحة أمريكية-صهيونية. بالمقابل، فإنّ مصلحة ثلاثي أستانا، والصين، ودول عربية أساسية، هي في تحقيق استقرارٍ في سورية، وفي إنهاء أزمتها... ولذا فإنّ المظلة الدولية الإقليمية الممكنة نظرياً لحل الأزمة السورية، تتسم بالخواص التالية:

نواتها هي ثلاثي أستانا.

تتطلب قدراً من التوافقات بين ثلاثي أستانا ودول عربية أساسية، وعلى رأسها السعودية ومصر...
تشمل بالتأكيد حضوراً للصين، سواء في الكواليس أو على الطاولة.
بالنسبة للأمريكان، فإنّ حضورهم يعني عدم الوصول إلى حل، ولذا فأفضل موقعٍ للأمريكان بالعلاقة مع المظلة اللازمة لحل الأزمة في سورية، هو أن يكونوا خارجها، وليفعلوا ما بدا لهم، فهم أساساً يفعلون ذلك...

ما العمل بالملموس؟

ينبغي على القسم الوطني من المعارضة أن يتخذ زمام المبادرة، وأن يقطع الطريق على العمل الأمريكي الصهيوني، عبر مبادرات شجاعة ومبدئية، الدعوة لنقل أعمال اللجنة الدستورية إلى دمشق تحت إشراف الأمم المتحدة وبضمانات أستانا، هو مجرد مثالٍ على النوع المطلوب من المبادرات، والذي ينبغي أن يجمع حوله أكبر قدر من السوريين المنهوبين الموزعين تحت مسميات معارضة وموالاة، في حين أنهم يشكلون أكثر من 90% من السوريين.
حتى بالنسبة لأولئك الانتهازيين والذين يشتغلون لمصالحهم قبل أي شيء آخر، ينبغي القول: على الانتهازي أن يكون ذكياً وأن يفهم اتجاه تغير الوقائع واتجاه تغير الموازين...

(English Version)