من «تغيير سلوك النظام» إلى «خطوة مقابل خطوة» أين وصلت اتفاقات تحت الطاولة مع الغرب؟
يرى البعض أنّ المشروع المسمى «خطوة مقابل خطوة» (خ.م.خ)، والذي بدأه ديمستورا في 2017 (عبر خطته التي لم تر النور في حينه وكان اسمها «المرحلة ما قبل الانتقالية») والذي يتابع بيدرسن العمل عليه تحت مسماه الحالي، يرى البعض أنه قد وصل إلى حائطٍ مسدود، وأنّه قد تم طويه.
يستند أصحاب هذا الرأي إلى مجموعة مؤشرات، بينها:
1- لم يجر حتى الآن أيّ رفعٍ جدي للعقوبات- وأحياناً تمّ تشديدها، وذلك رغم الإجراءات والتغييرات القانونية والإدارية التي تقوم بها السلطات السورية والتي يجري تصنيفها بوصفها مؤشراتٍ على الانخراط في (خ.م.خ).
2- لم يظهر أي تعاطٍ رسمي سوري إيجابي مع مشروع (خ.م.خ)، بل ويمكن القول: إنّ التعاطي الرسمي المعلن كان متحفظاً وأقرب إلى الرفض.
3- الافتراضات التي تمّ بناؤها من أنّ تطبيع العلاقات مع الدول العربية سيقود نحو انفراجات على صعيد إعادة الإعمار، أو على صعيد التمويل الاستثماري، لم تتحول إلى واقع، ولا حتى جزئياً.
4- «التطمينات» التي يتلقاها قسم من أصحاب هذا الرأي، خاصة ضمن المعارضة، من جهات غربية وأممية بأنّ المشروع قد وصل إلى حائط مسدود وأنه قد تمّ طويه مرةً وإلى الأبد.
السّياق الفعلي
رغم أنّ مشروع (خ.م.خ)، يتم نسبه إعلامياً إلى الأردن بالدرجة الأولى، والإمارات بالدرجة الثانية، وبيدرسن بالدرجة الثالثة، باعتبار أنّ الأردن كان من بين أول القائلين به، إلا أنّ ذلك لا ينبغي له أنْ يُحدث تضليلاً في فهم ومعرفة أصحاب المشروع الحقيقيين.
أكثر من ذلك، فإنّ من شأن تصدر الأردن للواجهة الإعلامية لمشروع (خ.م.خ) في بدايات طرحه، أن يكون هو بذاته مؤشراً مساعداً على فهم مصدر المشروع؛ مع الأخذ بعين الاعتبار السّياق الذي تطورت ضمنه الأزمة السورية في حينه من جهة، والعلاقات المعروفة بين الأردن وبريطانيا من جهة أخرى.
التركيز على بريطانيا في هذا السياق ليس مجرد ربطٍ سببي بسيط بين الأحداث؛ فلنتذكر أنّ الغرب بأكمله، وحتى بعد تبني مجلس الأمن الدولي للقرار 2254 نهاية عام 2015، كان ما يزال يقول بإسقاط النظام السوري. كان البريطانيون هم أول من غيّر هذا الخطاب على المستوى الغربي، عندما استحدثوا في 2016 (أي بعد وقت قصير من الدخول الروسي العسكري المباشر في سورية) تعبير «تغيير سلوك النظام»، واستحدثوا بعد ذلك بفترة، على المستوى الأوروبي، ما أسموه (اللاءات الثلاث: لا للتطبيع مع النظام، لا لإعادة الإعمار، لا لرفع العقوبات)، وشيئاً فشيئاً، بات هذا هو الشعار المتبنى من الغرب بأكمله، أي شعار «تغيير سلوك النظام».
جوهر (خ.م.خ)، على الأقل ضمن حدود المعلن من هذا المشروع، أنّ الغرب مستعدٌ للتنازل تدريجياً عن لاءاته الثلاث مقابل خطوات معينة يقوم بها النظام السوري. أي أنّ جوهر هذه الخطة، هو ذاته جوهر شعار «تغيير سلوك النظام».
جوهر الجوهر
ولكن ما المقصود، وما المطلوب، في نهاية المطاف، من «تغيير سلوك النظام» عبر «خطوة مقابل خطوة»؟ (لعله من المفيد في هذا السّياق العودة إلى مادة مركز دراسات قاسيون المنشورة بتاريخ 19/01/2021، على الرابط التالي: أين وصلت عملية «تغيير سلوك النظام»؟ سياق.. أدوات.. نتائج).
كي لا نطيل الطريق التحليلي اللازم للوصول إلى النتائج، سننطلق من مجموعة مقدمات مكثّفة، نزعم أنها صحيحة، وتسمح بالوصول إلى فهم جوهر المسألة موضع النظر:
أولاً: الهيمنة الغربية بأسرها، والأمريكية خاصة، تعيش في ظلّ تهديد ضخمٍ نابعٍ من الأزمات الداخلية بالدرجة الأولى (التحول المالي وانتقال مركز الإنتاج شرقاً وإلخ)، والخارجية، وعلى رأسها صعود قوى عديدة حول العالم اقتصادياً (وخاصة إنتاجياً)، وعسكرياً وسياسياً وحتى ثقافياً.
ثانياً: الأداة الأساسية، والوحيدة تقريباً، في يد الأمريكي في منع سقوط هيمنته هي الحرب وتوسيع نطاق الحرب. بالذات الحرب الهجينة: الفوضى الشاملة الهجينة، كأداة في استنزاف القوى الصاعدة، وفي محاولة نسفها من محيطها ومن داخلها، لمنع السير الطبيعي للتاريخ باتجاه ترجمة الأوزان الاقتصادية الجديدة كأوزان مالية وسياسية جديدة.
ثالثاً: منطقتنا، «الشرق الأوسط»، واحدة من أهم ساحات الصراع الجيوسياسي العالمي، التي من غير المسموح لها أن تمضي نحو الاستقرار، لأنّ ذلك يعني ببساطة استكمال المشاريع الجيوسياسية الكبرى للقوى الصاعدة، وخاصة الصين وروسيا، عبر الحزام والطريق والمشروع الأوراسي، ولذا فإنّ هذه المنطقة كلها، مطلوبٌ أمريكياً، حرقها بالفوضى الشاملة الهجينة.
رابعاً: البحث عن استقلالٍ نسبيٍ للمواقف الأوروبية عن المواقف الأمريكية، هو بحثٌ مشروعٌ نظرياً، ولكنْ ليس قبل أن تحدث تغييرات داخلية عاصفة في أوروبا نفسها؛ فما جرى ويجري بخصوص أوكرانيا، وبما يتعلق بسياسات الطاقة والغاز المسال، وكذا السياسات البيئية والسياسات الزراعية، وأيضاً المواقف مما يجري في البحر الأحمر؛ كلّ ذلك يقول: إنّ الموظفين الرسميين في أوروبا (أي قادتها الحاليين)، هم بالفعل موظفون وليسوا قادة، وهم متماهون إلى حدٍ بعيد مع المصالح الأمريكية، وبالضد تماماً من المصالح الأوروبية.
على أساس هذه المقدمات، يمكننا قول التالي بما يخص سورية:
أولاً: تنفيذ 2254 لم يكن، ولا في أي يومٍ من الأيام، هدفاً حقيقياً للأمريكي. الهدف الحقيقي كان وما يزال هو «تحويل سورية إلى مستنقع» وفقاً لكلام المبعوث الأمريكي السابق إلى سورية، جيمس جيفري.
ثانياً: قبول الغرب بـ 2254 نهاية 2015، لا يختلف نهائياً، عن قبوله باتفاقات مينسك بخصوص أوكرانيا، والتي أفصح قادته لاحقاً، (وبينهم ميركل)، عن أنّ القبول به لم يكن لتنفيذه، بل لإعطاء أوكرانيا وقتاً للتجهز للحرب. وكذا الأمر في سورية، فإنّ قبول 2254 لم يكن بهدف تطبيقه، بل بهدف أخذ وقتٍ إضافي (بعد فشل تنفيذ السيناريو العراقي/الليبي)، للوصول إلى النتائج نفسها لهذين السيناريوهين، ولكن بأدوات أخرى اقتصادية/سياسية، مع استمرار استخدام الأدوات العسكرية بشكلٍ جزئي، خاصة داعش.
ما هو المشروع إذاً؟
المشروع من حيث الجوهر يتضمن ما يلي:
1- منع إعادة توحيد سورية، والأداة الأهم في ذلك، هي إيجاد طريقة لشرعنة كل السلطات المسيطرة حالياً، على كل مناطق النفوذ في سورية (ضمناً «سورنة النصرة»).
2- إغراء القوى المهيمنة ضمن مناطق النفوذ في سورية، برفع اللاءات الثلاث عنها، مقابل «تغيير السلوك»، والذي يتكون من عدة مفردات، اقتصادية، وسياسية، واستراتيجية.
3- بين المفردات الاقتصادية الأساسية، استكمال تنفيذ مشاريع صندوق النقد والبنك الدوليين في سورية التي بدأت منذ 2005؛ أي الوصول بسورية إلى حالة قانونية اقتصادية، تشبه تلك التي يعمل عليها الرئيس الأرجنتيني الحالي: إنهاء أي دور للدولة: وإنهاء أي دعم من أي نوع، والتعويم الكامل، وإنهاء أي حقوق أو مكتسبات تاريخية حصلت عليها الطبقات المنتجة، وإنهاء أي طابعٍ إنتاجي ضمن البلاد، وتعميق النشاط المالي الإجرامي وتكريسه بوصفه النشاط الأساسي السائد (الأمر الذي تم إنجاز قسمٍ مهمٍ منه، وباستخدام العقوبات كإحدى أدوات التحفيز الأساسية بهذا الاتجاه).
4- بين المفردات السياسية، تكريس الضعف العسكري في سورية وقوننته، ليس عبر تعزيز تقسيم سورية فحسب، بل وعبر الانطلاق القانوني المسبق من اشتراطات تتعلق بحجم الجيش العامل، وأصناف الأسلحة، وإلخ (على الطريقة اللبنانية مثلاً).
5- بين المفردات السياسية أيضاً، النقل النهائي والعلني للبارودة من كتفٍ إلى كتف، أو حتى إلقاؤها أرضاً. أي الانخراط في عملية تطبيع مع الكيان برعاية إماراتية أردنية... يتضمن ذلك بطبيعة الحال إخراج القوات الإيرانية من سورية (والقوات الإيرانية فقط، مع بقاء الآخرين، بل ومع احتمال دخول قوات جديدة على الخط «أردنية مثلاً»).
6- تحويل فكرة «اللامركزية»، من شعارٍ وأداة للحكم يمكن للسوريين الاتفاق عليها وعلى حدودها بما يخدم مصالحهم، إلى أداة تنفيذية لعملية «تغيير سلوك النظام»... ولعل نشاط الأمم المتحدة مؤخراً في هذا الصدد، دون غيره، يسمح ببناء هكذا افتراض، خاصة أن علامات التجاوب ضمن السياق نفسه، قد ظهرت من عدة أطراف بالتزامن.
7- مشروع (خ.م.خ)، مشروع طرفاه هم الغرب والنظام، والمعارضة السورية ليست طرفاً فيه، والقرار 2254 ليس أساساً له. ولذا فإنّ على أولئك الذين يطمئنهم كلام الغربيين عن «طي صفحة هذا المشروع»، أن يفكروا بطريقة معاكسة تماماً: فطرح المشروع بوصفه أداة لتنفيذ 2254، كان الخطوة الأولى (في الحقيقة الثانية بعد شعار تغيير سلوك النظام)، في الانسلاخ التدريجي عن 2254. والآن حين يقال للبعض: إنه قد تم طي صفحة المشروع، فالمقصود فعلياً هو أنّ المسرحية التي كانوا جزءاً ضرورياً منها قد انتهت، وبالتالي، سيتم الانتقال للعمل الفعلي الذي لا مكان لهم فيه... (لا لجنة دستورية، ولا تفاوض، ولا انتقال سياسي... هنالك فقط «تغيير سلوك»، وترتيبات ثنائية).
ما هي حظوظ نجاح المشروع؟
رغم كثرة المؤشرات حول الحماسة المحمومة التي يعمل بها الغرب، والتي تعمل بها جهات سورية رافضة للحل السياسي، باتجاه تنفيذ الخطوة مقابل خطوة، إلّا أنّ حظوظ تنفيذ هذا المشروع- برأينا- منخفضة جداً، للأسباب التالية:
أولاً: رسمة المشروع تفترض أنّ «الطرف الإسرائيلي»، طرفٌ قوي وفاعل بالإطار الإقليمي، وهو الأمر الذي لم يعد يعتقد به سوى المصابين بقصر نظر سياسي حاد (إنْ أردنا استخدام تعبيرٍ لطيف).
ثانياً: الرسمة قائمة على أنّ «الطرف الإيراني» ضعيف ومحاصر، ويمكن تطويقه وإخضاعه عبر الترهيب والترغيب، وهو الأمر الذي ينطبق وصف القائلين به على الوصف السابق.
ثالثاً: افتراض أنّ الأمريكي في حالة مريحة تسمح له بتنفيذ مشاريعه، والتأكد من اكتمالها قبل أي تفكير في الانسحاب من المنطقة، وأنه إضافة لذلك، قادر على احتواء تركيا وأخذها إلى صفه ضمن التنفيذ...
رابعاً: افتراض أنّ الصين وروسيا، ستقفان مكتوفتي اليدين أمام هذا المشروع، الذي يستهدفهما مباشرة عبر استدامة وتعميق الفوضى الشاملة الهجينة في الشرق الأوسط. (من الطريف في هذا السياق، أنه وكما روّج الإعلام لفكرة أنّ السعودية قبلت بالتطبيع مقابل وقف العدوان على غزة وانتهى الأمر، كذلك تروّج لأنّ روسيا قبلت بـ«الخطوة مقابل خطوة»، مرةً مقابل شيء ما في أوكرانيا، ومرة مقابل شيء ما يخص العقوبات، وإلخ من تخرصات بائسة).
خامساً: الرسمة الكاملة للمشروع، وخاصة بمنتهاها المتعلق بالتطبيع مع الكيان، تتطلب بالضرورة اشتراكاً فاعلاً للسعودية، خاصة في تمهيد الأرضية بهذا الاتجاه. وهذا الركن تلقى ضربة علنية مهمة مع البيانين الأخيرين لوزارة الخارجية السعودية.
سادساً: الافتراض الخاطئ وقصير النظر بأنّ حالة الإنهاك القصوى التي وصل لها الشعب السوري، يمكن أن تدفعه للقبول بأي شيء وبكل شيء، بما في ذلك القبول بالتطبيع مع الصهيوني.
دور الوطنيين السوريين
رغم أنّ كل العوامل السابقة تصب في نهاية المطاف بأنّ احتمال تنفيذ هذا المشروع منخفض جداً، إلا أنّه يبقى موجوداً. هذا من جانب، ومن جانب آخر فإنّ عدم العمل ضده، وعدم القيام بمبادرات فاعلة باتجاه الحل السياسي المتمثل بالتنفيذ الكامل للقرار 2254، وبالاستفادة من كل من أستانا والصين والدول العربية الأساسية، وخاصة السعودية ومصر، والتقاطع الموضوعي القائم بين مصالحها... دون القيام بمبادرات فاعلة، فإنّ العذاب سيطول والكارثة ستتعمق... لأنّ كلّ خطوة إضافية إلى الأمام ضمن «خطوة مقابل خطوة»، حتى وإنْ لم تصل إلى نهايتها، هي عشر خطوات للوراء بما يخص الاقتصاد السوري ومعيشة السوريين وحجم كارثتهم...
ولذا ينبغي على الوطنيين السوريين، وعلى المعارضة السورية، أنْ تأخذ زمام المبادرة باتجاه الدفع نحو تنفيذ 2254، وبغض النظر عن رغبة الأمريكان، وبالذات دون الوقوع في حبائل التضليل والتطمينات الغربية الفارغة...
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1161