معركة «العلمين» غرضها نسف الذاكرة ونسف البلد!
بعد بضعة أشهر من انفجار الأزمة السورية عام 2011 ظهر علم النجوم الثلاث، وبدأ استخدامه يتسع شيئاً فشيئاً بوصفه «رمزاً للمعارضة» أو «رمزاً للثورة». ترافق ذلك مع الانتقال نحو العسكرة عبر إنشاء «الجيش السوري الحر».
في حينه، كان من الواضح تماماً لكل ذي عقل، أنّ المطلوب هو قسم السوريين بشكل حادٍ وعنيف بحيث تتحول المعركة السياسية من أجل التغيير إلى معركة فناء صفرية لا تبقي ولا تذر؛ فحين يكون هناك علمان متحاربان و«جيشان» متحاربان ومناطق سيطرة، يصبح المشهد مشهد حرب وجودية بين دولتين، وليس مشهد عملية تغيير أو مشهد حراك سياسي ضمن دولة واحدة.
بكلامٍ آخر، فإنّ أولئك الذين دفعوا بعلم النجوم الثلاث إلى الواجهة في 2011 (ونقول الذين دفعوا باتجاهه وليس الذين حملوه، لأنّ الغالبية العظمى من حامليه لم تكن لديهم أية نوايا معادية لسورية وللشعب السوري)، كان هدفهم هو دفع سورية نحو التدمير الذاتي، ووصولاً إلى التقسيم إنْ أمكن... والحق أنّ الهدفين قد تحققا وإنْ بشكلٍ غير كامل؛ فعن الدمار حدث ولا حرج، وعن التقسيم فإنّنا نعيش تقسيم أمر واقع بين عدة مناطق نفوذ.
خلفية تاريخية ضرورية!
قبل المضي أبعد من ذلك في التحليل، وقبل الوصول إلى المشهد الراهن المتعلق بالعلمين، لا بد من الإضاءة على بعض الحقائق التاريخية الخاصة بكلٍ من العلمين، أي علم النجوم الثلاث وعلم النجمتين، وهي كالتالي:
من الصحيح أنّ علم النجوم الثلاث قد تم رفعه لأول مرة عام 1932 أي في ظل الانتداب الفرنسي. ولكن ما يتم إغفاله في هذه المسألة هو الحقيقة التالية: اختيار هذا العلم بهذا الشكل قد تم على يد اللجنة البرلمانية التي صاغت الدستور السوري لعام 1930. هذه اللجنة التي اختارت العلم، والتي عينتها الجمعية التأسيسية التي فرض المستعمر الفرنسي حلّها، كانت برئاسة الزعيم الوطني إبراهيم هنانو، أحد قادة الثورة السورية الكبرى. أضف إلى ذلك أنّ الفرنسي قام بحل الجمعية ورفض الدستور ولكنه اضطر للقبول به بعد الإضراب الكبير الذي شمل المحافظات السورية في حينه.
استمر علم النجوم الثلاث علماً لسورية طوال الفترة من 1932 وحتى 1958، وعاد بعد ذلك ليكون علم سورية في الفترة من 1961-1963. أي إنّ هذا العلم كان علم سورية الذي رفعه قادة الثورة السورية الكبرى في نضالاتهم للوصول إلى الاستقلال، وبذلت لرفعه دماء ونضالات وإضرابات، وهو العلم الذي رفعوه حين نيل الاستقلال، وبقي مرفوعاً حتى حصول الوحدة مع مصر.
حين جرت الوحدة مع مصر، لم يكن علم النجمتين معادياً لعلم النجوم الثلاث! فشكري القوتلي وكل من ناصَرَ الوحدة في حينه كانوا يرفعون قبلها علم النجوم الثلاث ويعتزون به، وانتقلوا إلى علم النجمتين طوعاً وبإرادتهم ورغبة في تحقيق مشروع الوحدة... أي إنّ الانتقال من علم النجوم الثلاث إلى علم النجمتين لم يكن نتاج معركة بينهما أو بين المقتنعين بهما، بل كانت انتقالاً سلساً باعتبار كل منهما رمزاً وطنياً جامعاً ومحترماً.
علم النجمتين، أي العلم الوطني الرسمي حالياً، ارتفع لأول مرة كما أسلفنا وقت الوحدة مع مصر لمدة ثلاث سنوات، وأضيفت له نجمة ثالثة خضراء في الفترة بين 63 و72.
تحت هذا العلم، علم النجمتين، خاض السوريون حرب تشرين وبذلوا دماءهم في وجه الصهيوني، ورفعوا علمهم هذا على مرصد جبل الشيخ في صورة محفورة في تاريخ وذاكرة السوريين، وتشكل جزءاً أساسياً من هويتهم الوطنية.
مفارقات مدهشة
بعد هذا العرض المختصر، من المفيد أيضاً الوقوف عند بعض المفارقات المدهشة في كيفية تعامل المتشددين من النظام والمعارضة مع العلمين.
النشيد الوطني السوري الحالي، كما هو معروف، هو نشيد «حماة الديار». هذا النشيد تم اعتماده أول مرة نشيداً رسمياً لسورية عام 1938، وكان يتم إنشاده تحت علم النجوم الثلاث!
اليوم، متشددو النظام يسمون علم النجوم الثلاث علم الانتداب أو علم المعارضة، ولكن يسموّن نشيد حماة الديار الذي كان يُنشد تحته، بالنشيد الوطني.
بالمقابل، متشددو المعارضة يسمون علم النجوم الثلاث علم الثورة، في حين يسموّن نشيد حماة الديار نشيد النظام!
متشددو المعارضة يسمون علم النجمتين علم النظام، ويعتمدون علم النجوم الثلاث وينسبونه لهم ويرفضون النشيد الذي كان يتم إنشاده تحته ويسمونه نشيد النظام!
شيزوفرينا
المحصلة هي أنّ المتشددين في النظام والمعارضة يقومون بتقاسم الذاكرة السورية بشكل عبثي ومصلحي وانتهازي، وليس على أي أسس مبدئية. وفي خضم هذه العملية يقومون بتقسيم الشعب السوري والذاكرة السورية وصولاً إلى إصابة المجتمع وذاكرته بحالة من الانفصام، الأمر الذي يؤدي بالمحصلة إلى تفتيت الذاكرة وإلغائها، وضمناً تفتيت النواة الثقافية للمجتمع وتفتيت وحدته وبالنتيجة النهائية تفتيت دولته.
أيّ إنّ المتشددين لم يكتفوا بتقاسم النهب والثروات وبتقاسم المنهوبين بوصفهم أدوات يتم ضربها ببعضها البعض، بل وأيضاً يريدون تقاسم ذاكرة سورية والسوريين بحيث يتم ضرب نواة المجتمع وروحه... وهذا لا يختلف من حيث المبدأ والأهداف عن حرق ساروجة.
ما العمل؟
قد يسأل سائل موضوعي ووطني، سؤالاً محقاً هو التالي، نعم العلمان هما علمان سوريان، وهما جزء من تاريخ وذاكرة سورية، ولكن لا يمكن أن يكون لدولة واحدة علمان في الآن نفسه، ولذا فإنّ وجود علمين هو دفع باتجاه التقسيم.
نعم هذا صحيح، وهذا ما كان يقول به كل الوطنيين العاقلين في بداية الأزمة عام 2011، ولكن اليوم، وبعد أن تم وضع العلمين في مواجهة بعضهما البعض، وبات كل منهما يشكل رمزاً بالنسبة لملايين السوريين، فإنّه ينبغي البحث بمسؤولية وطنية عالية عن مخرج حقيقي يوحدهما، ويوحد السوريين.
في السياق ينبغي أن نسأل ليس فقط عن وجود علمين، بل وأيضاً هل توجد دولة واحدة وفيها أربع مناطق نفوذ مختلفة على الأقل؟ هل توجد دولة نصف شعبها فيها ونصفه الثاني مهجر؟ هل توجد دولة يتم التداول ضمنها بثلاث عملات مختلفة (ليرة سورية، دولار، ليرة تركية)؟ إلخ...
لذلك كلّه، فإنّ المخرج الوحيد في هذه المسألة وغيرها يتلخص بالنقطتين التاليتين:
أولاً، ينبغي التعامل مع كلا العلمين بوصفهما جزءاً من التاريخ السوري وبوصفهما علمين سوريين، ليس علم النجوم الثلاث ملكاً للمعارضة وهي أقل من أن تحوز ملكية بهذه الأهمية، والأمر نفسه ينطبق على النظام وعلم النجمتين، فهذا علم سورية وليس علم النظام.
ثانياً، الوصول إلى علم واحد لكل السوريين يتم ضمن الحل السياسي الشامل الذي يوحد سورية مرة أخرى جغرافياً وشعبياً، ضمن دستور جديد يقره السوريون ضمن مرحلة الانتقال السياسي، وعلى أساس التنفيذ الكامل للقرار 2254.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1138