لماذا موسكو؟
لا شك بأن حديث الساعة بما يتعلق بالأزمة السورية تحديداً، وبمعنى أعمق التغييرات على المستوى الدولي، هو اللقاء الرباعي المرتقب المزمع عقده في موسكو الأسبوع المقبل بين كل من سورية وروسيا وتركيا وإيران، الذي تحدث عنه وزير الخارجية التركي مولود تشاووش أوغلو، والذي لا يمكن رؤية زيارة وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان لكل من تركيا وسورية إلا بأن أحد أهدافها العمل التحضيري للقاء، الذي يمكن اعتباره تطويراً مهماً لصيغة أستانا.
من المعروف بأن هذا اللقاء سيكون أحد أهم ركائزه، هو العمل على التسوية السورية التركية، والتي تحدثت وتتحدث قاسيون عنها مفصلاً بمعانيها ودلالاتها وضرورتها وأثرها على الأزمة السورية، وهو ما لن نكرره في هذه المقالة، وما يمكن ملاحظته ببساطة بالنظر إلى الموقع المقرر انعقاد هذا الاجتماع فيه، هو أن هذا المكان يشكل حالياً مركز الثقل للحل السياسي والعملية السياسية، فلماذا موسكو؟
بالنظر إلى عملية الحل السياسي بوصفها عملية كسر لمشروع الفوضى الهادف في نهاية المطاف لإنهاء وجود سورية التي نعرفها، مشروع تحطيمها من الخارج والداخل (بكل الوسائل من عسكرية واقتصادية، وحتى ضمن الحل السياسي من خلال تشويهه وتطبيقه بوصفة تلائم رغبات المعلم الأمريكي) وهنا لا يسعنا سوى استحضار تصريح جيمس جيفري حول الهدف الأمريكي بتحويل سورية إلى «مستنقع» للروس، وانطلاقاً من أن الأزمة السورية هي واحدة من نقاط الحرائق العالمية الأساسية، والتي تعتبر عملية إخمادها تعبيراً عن الصراع بين القوى المشعلة للنزاعات والحروب، لأهميتها بالنسبة لها كأهمية الأوكسجين الذي تملأ بها رئتها الحديدية، وبين القوى الساعية لإخماد هذه الحرائق. هذا الصراع المرتبط والمعبر عنه بتغير موازين القوى العالمية والمرتبط بدوره بتعمق أزمة النظام العالمي، نظام القطب الواحد الذي كانت فيه الولايات المتحدة (المركز الإمبريالي) تلعب دور شرطي العالم، وهي التي تحدد ما يجوز وما لا يجوز، مستبيحة حرمات الدول دون حسيب أو رقيب. هذا النظام وهذه المنظومة التي تسببت بما لا يحصى من المآسي لأغلبية شعوب الأرض، والتي روجت لتسميتها بـ العالم الثالث، هذا النظام القائم على أعلى درجات الاستغلال والتكبر على الدول الأخرى (بما فيها بعض من يعتبرون نفسهم حلفاءً للأميركي وأتباعه).
بدأ هذا النظام- الذي كان عنوان المرحلة السابقة بإدارة شؤون العالم والهيمنة عليه- بالتراجع، منذ تصاعد أزمات مركزه الإمبريالي، وكتاريخ تقريبي يمكننا أخذ عام ٢٠٠٨ (الأزمة المالية العالمية وأزمة الرهن العقاري) كنقطة تحول- دون الخوض بتفاصيل تلك المرحلة من ناحية الأسباب القريبة والبعيدة تاريخياً- وبوصفها مرحلة انتقالية بين الاستعمار الجديد (الاقتصادي) والاستعمار ما بعد الجديد (المركب، العسكري الاقتصادي).
هذا التحول ترافق بما لا شك فيه بتراجع أميركي وغربي بالعموم، هذا التراجع الذي أنكره العديد ممن ادعوا العمل بالسياسة، وسخروا من القوى التي لاحظته وتنبأت به وبتعاظمه مع الوقت، والذي بات اليوم واقعاً ملموساً يعترف به المتراجعون أنفسهم قبل غيرهم، هذا التراجع كان يقابله صعود تدريجي وهادئ لقوى عالمية أخرى، كانت وأصبحت مراكزاً وسنداً للقوى المناوئة للهيمنة الغربية بالمعنى السياسي والاقتصادي، والتي مثلت بوادر أقطاب جديدة تفرض على النظام العالمي القديم وجودها، وتنهي بذلك نظام القطب الأوحد هذا، وتؤسس لنظام التعددية القطبية بكل ما يحمله هذا النظام من تغييرات ايجابية لصالح الشعوب، والدول المستضعفة والمستباحة من قبل الغرب، وهذا لأن أهم مميزات هذا النظام البديل التعددي هي فكرة التعددية القائمة على كسر الهيمنة بما يعنيه ذلك من عدم التكبر والتطاول على الدول الأُخرى، والتعاون والاحترام المتبادل ونبذ الحروب والصراعات بكل ما سيعنيه ذلك من انعكاسات على شعوب العالم، بحيث تتاح الفرص أمام الشعوب المستصغرة لأخذ أحجامها الفعلية، ويضاف إلى ذلك، أن هذه الدول تاريخياً ليست دولاً استعمارية، وإنما كانت بغالبيتها ضحية للاستعمار الغربي، لذا فإن ما يجمعها مع بقية شعوب العالم هو جوهري وحقيقي، وكون أن الحديث يتمحور بشكل أساسي عن أزمتنا السورية، فلا يخفى على أحد أن روسيا وبحكم علاقات الصداقة القوية والموروثة من أيام اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفييتية (الاتحاد السوفييتي)، تعتبر من أهم أصدقاء سورية بالمعنى الدولي، وأهم مراكز الدبلوماسية العالمية ومن أهم إطفائيّ حرائق الهيمنة الغربية، إضافة لوزنها العسكري الهام جداً بحفظ توازنات القوى العالمية، لهذا كله فإن موسكو تفرض نفسها كمركز عالمي للحلول السياسية للأزمات المتصاعدة، وبشكل خاص أزمتنا السورية، والتي عرفت القوى السياسية الجدية الوطنية السورية منذ اندلاعها، أن لا حلول عسكرية لها، وأن إنهاءها ممكن فقط عبر الحل السياسي، الذي يعتبر الترياق للسُم المركب الذي جرعه أعداء الشعب السوري الخارجيين والداخليين لسورية، والجميع يعرف ما تسبب به هذا السُم من كارثة لم تتوقف بعد ولن تتوقف، حتى إتمام عملية الحل السياسي، متمثلة بالتطبيق الفوري للقرار الأممي ٢٢٥٤ والذي سيسمح بمرحلة تخفيف الخسائر إلى الحد الأدنى، والبدء بالتعافي من الخسائر السابقة..
مما سبق قوله، يمكننا استخلاص أن موسكو تعتبر من أهم الأماكن وأكثرها كفاءة بالمعنى السياسي لإنجاز عملية التوافق، بحكم علاقاتها المتوازنة مع الأطراف الأخرى الفاعلة في الأزمة السورية، وبما عملت وتعمل عليه معاً من سحب بساط العملية السياسية من تحت الأمريكي، الذي لا يرى فيها إلا وسيلة لتحقيق أهدافه ولإفراغها من مضمونها، وبالتالي، فإن عملية التوافق ستدفع العملية السياسية خطوات كبيرة وجدية إلى الأمام، وصولاً إلى التسوية النهائية، التي يحب أن تُفضي للتغيير المنشود، وهذه التسوية النهائية يجب أن تتم في أفضل مكان، وفي المكان الصحيح، وهذا المكان ليس موسكو ولا غيرها وإنما دمشق!
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1113