من يساعد السوريين إنسانياً متهمٌ عند أمريكا... حتى تثبت براءته!
ريم عيسى ريم عيسى

من يساعد السوريين إنسانياً متهمٌ عند أمريكا... حتى تثبت براءته!

أصدر مكتب مراقبة الأصول الأجنبية في وزارة الخزانة الأمريكية قراراً في 9 شباط الجاري تحت عنوان «ترخيص المعاملات المتعلقة بجهود الإغاثة من الزلازل في سورية»، والذي ينص في مقدمته على السماح بترخيص «جميع المعاملات المتعلقة بجهود الإغاثة من الزلزال في سورية والتي كانت محظورة بموجب لوائح العقوبات السورية... حتى 8 آب 2023». وتباهت الولايات المتحدة بهذه الخطوة كدليل على «إنسانيتها» من خلال تقديمها «استثناءً إنسانياً» كاستجابة للكارثة التي حلّت بالشعب السوري نتيجة الزلزال الذي ضرب سورية وتركيا بعد الساعة 4 صباحاً بقليل يوم الإثنين الماضي، 6 شباط.

هذا القرار يتطلب الوقوف عنده والنظر فيه من زوايا مختلفة، لا سيما أنه من المفترض أن العقوبات الأمريكية – والغربية بشكل عام – مصممة وفقاً لواضعيها بـ«طريقة ذكية» ولا تشمل أو تؤثر على الشعب السوري، وفيها استثناءات تضمن ذلك، متعلقة بالمساعدات الإنسانية والطبية والغذائية، إلخ. لذلك، السؤال الأول الذي يطرح نفسه هو لماذا هنالك حاجة إلى قرار منفصل مرتبط بكارثة إنسانية إضافية ويسمح بتعاملات مرتبطة بذلك إذا كان أساساً أي شيء مرتبط بالمساعدات الإنسانية مستثنىً من العقوبات؟

مراجعة لـ «الاستثناءات الإنسانية من العقوبات»

نشرت قاسيون عدداً كبيراً من المقالات حول العقوبات على سورية منذ بداية الأزمة وبالأخص بعد بدء فرض العقوبات الغربية وبالأخص الأمريكية على سورية بشكل متزايد منذ 2011، والتي أتت إضافة إلى عقوبات أمريكية كانت أولها في 1979، والتي ما زالت سارية المفعول. وضّحت هذه المقالات جوانب عديدة من الآثار الكارثية لهذه العقوبات على كافة جوانب الحياة في سورية، وبالأخص الجانب الاقتصادي وكيفية استفادة القوى الناهبة وتجار الحرب منها، بينما دفع الشعب السوري الثمن وكان فعلياً هو المستهدف الوحيد من هذه العقوبات. في الوقت ذاته حاولت الدول الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة، أن تدّعي أن هذه العقوبات لا تستهدف الشعب السوري وتشمل استثناءات لضمان عدم التأثير على الشعب بما في ذلك استثناء المواد الغذائية والطبية والمساعدات الإنسانية. وبما أن هذه الكذبة تم تكرارها كثيراً من قبل أولئك الذين فرضوا العقوبات وأتباعهم من السوريين وكأن تكرارها بشكل مكثّف يجعلها حقيقة، كرّست قاسيون عدداً من المقالات للنظر في هذا الموضوع وكشف حقيقة ما سمّوه بالاستثناءات الإنسانية من العقوبات.
في مقالة نشرتها قاسيون قرابة شهرين بعد دخول «قانون قيصر» حيز التنفيذ، والذي كان أيضاً خلال الفترة الحرجة من جائحة «كورونا»، وضحت المقالة أن «قانون قيصر» - والذي يُعتبر من أشد العقوبات الخانقة التي فرضت على سورية – أن «الشيء الوحيد المذكور حول الإعفاء لأسباب إنسانية... يوفر للمنظمات ذات الصلة القليل من التوجيه فيما يتعلق بما إذا كان بإمكانها المضي في أنشطتها دون التعرض للعقاب» وبالرغم من أن القانون ظاهرياً «يوفر الكثير من التفاصيل فيما يتعلق بالأنشطة الخاضعة للعقوبات؛... فإن أجزاء كثيرة منه تعطي قدراً كبيراً من السلطة التقديرية للرئيس الأمريكي والكيانات الأخرى داخل حكومة الولايات المتحدة لاتخاذ قرارات تستند إلى أشياء مثل مصالح الأمن القومي للولايات المتحدة».
وكان أحد الجوانب الذي تم تسليط الضوء عليه هو الجانب القانوني على أساس القاعدة القانونية المعروفة والمتبّعة – على الأقل نظرياً – في كل مكان، وهي أن «الشخص بريء حتى تثبت إدانته». إلا أن طريقة تطبيق «قانون قيصر» فعلياً تفترض أن الجهات التي تعمل في سورية أو مع سورية هي مذنبة حتى تثبت براءتها، وبالتحديد كان الكلام حول المساعدات الإنسانية التي من المفترض أنها مستثناة من العقوبات، إلا أن «الكيانات التي تحاول تقديم مساعدات إنسانية يجب أن تحصل على الإعفاءات الإنسانية من العقوبات» وهو الأمر الذي يستغرق وقتاً طويلاً عدا عن التكاليف العالية التي ترافقه، ما «يضع هذه الكيانات في موقف تحمل عبء إثبات أنها لا تنتهك العقوبات» قبل الشروع في تقديم أي عمل أو خدمة أو مساعدة إنسانية.
وكانت أهمية تسليط الضوء على هذا الموضوع آنذاك بالإضافة إلى توضيح التأثيرات السلبية على العمل الإنساني تحت وطأة «قانون قيصر»، أنها كانت في خضم جائحة «كورونا» أي في الوقت الذي كانت الدول في حاجة أكبر للتسهيلات لمواجهة الجائحة التي حصدت الملايين من الحيوات حول العالم. ومن المفيد التذكير هنا أن «قانون قيصر» دخل حيز التنفيذ مع هذه «الاستثناءات الإنسانية» والتي وضعت صعوبات وعوائق أكثر أمام العمل الإنساني في منتصف حزيران 2020، أي حوالي ثلاثة أشهر بعد أن شلّت الجائحة العالم بأسره. ومع تطبيق «قيصر» كانت واضحةً منذ البداية تأثيراته الكارثية على القدرة على الاستجابة للجائحة في سورية، وكان واضحاً أن تأثيره كان غير إنساني وأيضاً غير قانوني.
وفي مقالة لاحقة نشرتها قاسيون في نهاية عام 2020، عندما كانت لا تزال الجائحة قائمة وتعيق الكثير من جوانب الحياة، بما في ذلك التعليم، ما دفع معظم دول العالم إلى اللجوء إلى «التعليم عن بعد»، وتم تقديم خدمات التعليم افتراضياً من قبل الحكومات القادرة على ذلك أو عن طريق البرامج التعليمية عبر المنصات الإلكترونية، رأينا أن العقوبات التي من المفترض أن تستثني كل ما يمكن أن يؤثر سلباً على المدنيين بحكم «الاستثناءات الإنسانية»، رأينا أن هذه العقوبات كانت سبباً في حرمان قسم من الطلاب السوريين من التعلم. وعلى هذا الأساس كان الاستنتاج أنه إما لا يوجد فعلاً «استثناءات إنسانية» في هذه العقوبات... أو أن التعليم ليس قضية إنسانية!

1109-12

القرار الأخير وما وراءه

كما ورد في بداية هذه المقالة، القرار الذي صدر قبل عدة أيام على أنه استثناءات تسمح بإجراء «جميع المعاملات المتعلقة بجهود الإغاثة من الزلزال في سورية والتي كانت محظورة بموجب لوائح العقوبات السورية»، وكما أوضح القرار المقتضب هذا يشمل «التعامل أو تحويل الأموال نيابة عن أشخاص من دول أخرى من وإلى سورية» وأن «المؤسسات المالية الأمريكية وشركات تحويل الأموال المسجلة في الولايات المتحدة يمكن أن تعتمد على منشأ تحويل الأموال» فيما يتعلق بجهود الإغاثة من الزلزال. ويستثني القرار «استيراد النفط أو المنتجات البترولية ذات المنشأ السوري إلى الولايات المتحدة» وكذلك «أية معاملات تنطوي على أي شخص تمّ حظر ممتلكاته ومصالحه في الممتلكات بموجب لوائح العقوبات السورية، بخلاف الأشخاص الذين يستوفون تعريف مصطلح الحكومة السورية، ما لم يتم التصريح بذلك بشكل منفصل».
ما هو غير واضح هو أنه إذا كان هناك أساساً «استثناءات إنسانية» من العقوبات التي فرضتها أمريكا على سورية، والتي لأكثر من عقد وبالأخص خلال السنتين والنصف الأخيرتين منذ دخول «قانون قيصر» حيز التنفيذ كررت أنها وُضعت لضمان عدم تأثر الشعب السوري بالعقوبات وأن المستهدف هو النظام السوري، ورفضت على هذا الأساس تخفيف العقوبات، بل شددتها بشكل أكبر من خلال «قيصر» الذي شرّع للأمريكي استهداف أي طرف آخر في حال مخالفة هذه العقوبات، في ضوء كل ذلك، لماذا هناك حاجة لاستثناءات للاستجابة لكارثة إنسانية بحتة مثل تلك التي حصلت يوم الإثنين الماضي؟
الجواب الأبسط لهذا السؤال أنه اعتراف واضح بأنه فعلاً وكما ورد في عدد من مقالات سابقة في قاسيون أنه لا يوجد فعلياً ما يسمى بـ «الاستثناءات الإنسانية» في العقوبات الأمريكية.
ما هو غريب، هو أن المتحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية، نيد برايس، قال في مؤتمر صحفي في ذات اليوم الذي صدر فيه القرار أن «هناك العديد من العقبات التي يجب التغلب عليها عند تقديم المساعدة الإنسانية في سورية وخاصة بعد الزلازل المدمرة هذا الأسبوع، لكن سياسة العقوبات السورية لدينا ليست من بينها». وليس واضحاً ما إذا كان هذا الكلام قبل أو بعد صدور القرار، ولكن في ذات المؤتمر الصحفي، قال برايس: «في سورية، الشركاء العاملون في المجال الإنساني الذين تمولهم الولايات المتحدة يستجيبون، بما في ذلك باستخدام الموارد الأمريكية، منذ لحظة وقوع الزلزال»، ما يعني أنه منذ وقوع الزلزال فإن التمويل الأمريكي كان يدعم الاستجابة للزلزال، وهو ما يوحي بأنه وفق كلام برايس أنه لم تكن هناك حاجة للقرار، بما أنه قال أيضاً أن سياسة العقوبات السورية لا تعيق المساعدات.
وعندما سأله أحد الصحفيين «العقوبات المفروضة ستوقف وصول الحكومة السورية إلى المعدات التي قد تحتاجها. وأمر آخر، بموجب هذه القوانين أيضاً، لا يستطيع السوريون إرسال الأموال إلى عائلاتهم... هل سترفع الحكومة الأمريكية القيود أو تنشئ شيئاً مؤقتاً مثلاً ليتمكن السوريون من إرسال أموال إلى عائلاتهم بمبالغ أكثر من 400 دولار من خلال النظام المصرفي الأمريكي؟» وكان ضمن ما ورد في جواب برايس: «لقد عملنا بشكل وثيق للغاية في حكومتنا، وفي منظومة الأمم المتحدة، ومع المؤسسات المالية على مدار برنامج عقوباتنا على سورية لتحديثها، وعند الضرورة، لتوضيح التراخيص الموجودة، وفي بعض الحالات منح تصاريح إضافية، للتوضيح للجميع أننا لا نعيق بأية حال من الأحوال تدفق المساعدات الإنسانية إلى الشعب السوري». وكرر لاحقاً في رد على سؤال آخر: «ليست لدينا عقوبات على المساعدات الإنسانية».
ومن السياق، وبالتحديد بسبب عدم ذكر أي شيء حول قرار الخزانة الأمريكية الذي صدر في ذات اليوم، يبدو أن هذا المؤتمر الصحفي أتى قبل صدور القرار، أو ربما لم تصل بعد الرسالة التي تحمل في طياتها القرار من مبنى الخزانة الأمريكية إلى مبنى وزارة الخارجية، واللذين تفصل بينهما مسافة أقل من 2 كم في واشنطن. وبرايس يقول بوضوح إنه لا توجد أية عوائق بموجب العقوبات التي تفرضها الولايات المتحدة على سورية وأنها لم تحل دون الاستجابة للزلزال، على الأقل في أول ثلاثة أيام بعد حصوله.
إذاً، يمكننا القول إن الدافع «الإنساني» فيما يتعلق بالاستجابة للزلزال لم يكن هو المبرر الحقيقي لقرار الخزانة الأمريكية وهذه «الاستثناءات الإنسانية» الإضافية.
علاوة على ذلك، ورد في بيان صحفي لمكتب مراقبة الأصول الأجنبية حول القرار: «وفق هذا القرار، يجب أن يكون لدى المؤسسات المالية الأمريكية والوسيطة كل ما تحتاجه لمعالجة جميع معاملات الإغاثة من الزلزال على الفور. إذا كان الأشخاص، بما في ذلك المؤسسات المالية، منخرطين في أنشطة الاستجابة للكوارث في سورية، لكنهم يعتقدون أن أنشطتهم غير مشمولة بالتراخيص أو الإعفاءات الحالية، نحث أولئك الأشخاص على الاتصال بمكتب مراقبة الأصول الأجنبية مباشرة للحصول على تراخيص أو إرشادات محددة»... وهو ما يعني وضوحاً أنّ الولايات المتحدة تمنح نفسها الحق الحصري في إسباغ الصفة «الإنسانية» على أي نوع من المساعدات، وأيضاً على نزع تلك الصفة؛ أي إنّ أية مساعدة إنسانية يمكن أن تصل إلى سورية ينبغي أن تكون بعلم الولايات المتحدة وبموافقتها، ما يعني أيضاً أنّ تسييس المساعدات والتحكم بما يخدم السياسة الأمريكية في سورية هو على رأس أولويات واشنطن، ولم تكن الإغاثة الإنسانية ذاتها، وليست الآن، محل اهتمام واشنطن.
اللافت للنظر هو أنّ قسماً من المتشددين ضمن النظام، وكذلك بعض الأبواق الاقتصادية المعروفة بارتباطها المباشر بفاسدين كبار، بدأوا مباشرة بالتهليل للولايات المتحدة الأمريكية، وبإطلاق الوعود ورفع سقف الأحلام حول ما يمكن أن يتدفق من خيارات على سورية نتيجة هذا القرار الأمريكي... وهذا ليس بمستغرب بطبيعة الحال، فبالنسبة لهؤلاء، فإنّ ما يجري بين سورية وأمريكا هو عبارة عن سوء تفاهم مؤقت يمنون النفس بأن يتم حله بأقرب وقت، وهؤلاء أنفسهم يرون في التحالف مع روسيا وإيران والصين، تحالفاً مؤقتاً يمنون النفس بسرعة التخلص منه...

(English version)

معلومات إضافية

العدد رقم:
1109
آخر تعديل على الإثنين, 13 شباط/فبراير 2023 18:40