المقررة الأممية للعقوبات الأحادية تفتح ثغرة في جدار السردية الغربية!
بعد غياب الموضوع، على الأقل إعلامياً، لما يقارب السنة، عاد إلى الواجهة- لفترة وجيزة قبل حوالي الشهر- موضوع العقوبات عقب زيارة إلى سورية، أجرتها المقررة الأممية الخاصة المعنية بالأثر السلبي للتدابير القسرية أحادية الجانب، مثل تلك التي تفرضها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي على سورية. ونرى هنا فرصة لإعادة تسليط الضوء على العقوبات من خلال مراجعة تصريحات المقررة الأممية بعد زيارتها، وردود الأفعال على تلك التصريحات، وما قلناه سابقاً حول موضوع العقوبات.
زيارة المقررة الأممية إلى سورية
أجرت السيدة ألينا دوهان- المقررة الخاصة المعنية بالأثر السلبي للتدابير القسرية الانفرادية في التمتع بحقوق الإنسان- زيارة إلى سورية بين 30 تشرين الأول و10 تشرين الثاني من هذا العام، ووفق البيان الصحفي الذي نشره الموقع الخاص بالمقررة قبيل الزيارة، كانت هذه الزيارة الثانية التي يقوم بها مقرر خاص إلى سورية، بعد الزيارة التي قام بها المقرر الخاص السابق في عام 2018. وفقاً للسيدة دوهان كان هدف الزيارة «جمع معلومات مباشرة عن تأثير التدابير القسرية الانفرادية على الوفاء الكامل بجميع حقوق الإنسان». حسب البيان: أرادت السيدة دوهان أن تولي «اهتماماً خاصاً لقضايا مثل العقوبات الثانوية، والامتثال المفرط للعقوبات، والعقبات الناجمة عن العقوبات أمام تحقيق أهداف التنمية المستدامة والحق في التنمية» وأن تحدد «الممارسات الجيدة، فضلاً عن مبادرات وسياسات التخفيف من حدة التحديات والتكيف معها». في هذا السياق، خططت «السيدة دوهان للقاء كبار المسؤولين الحكوميين، وأعضاء البرلمان والسلطة القضائية، وممثلي المنظمات الدولية، والسلك الدبلوماسي، وكذلك منظمات المجتمع المدني، وخبراء الصحة، والمؤسسات المالية، والجهات الفاعلة الإنسانية، ومجتمع الأعمال، والأوساط الأكاديمية».
في نهاية زيارتها، نشر الموقع الخاص بالمقررة خبراً صحفياً حول الزيارة ونتائجها، وتضمن الخبر الصحفي رابطاً لتقرير حول النتائج الأولية للزيارة، وشمل التقرير «معلومات مفصلة عن الآثار الكارثية للعقوبات الأحادية على جميع مناحي الحياة في البلاد». عقب الزيارة إلى سورية حثّت دوهان «الدول التي تفرض العقوبات على رفع العقوبات الأحادية الجانب عن سورية، محذرة من أنها تعمل على استمرار وتفاقم الدمار والأذى الذي يعاني منه الشعب السوري منذ عام 2011». وقالت دوهان: «أنا مندهشة من انتشار الأثر الحقوقي والإنساني للتدابير القسرية الأحادية المفروضة على سورية، والعزلة الاقتصادية والمالية الكاملة لبلد يكافح شعبه لإعادة بناء حياة كريمة، بعد الحرب التي استمرت عقداً من الزمن». وأشارت دوهان إلى أن «90 في المائة من سكان سورية يعيشون حالياً تحت خط الفقر، مع وصول محدود للغذاء والماء والكهرباء والمأوى ووقود الطهي والتدفئة والنقل والرعاية الصحية، وحذرت من أن البلاد تواجه هجرة هائلة للعقول بسبب الصعوبات الاقتصادية المتزايدة». كما أشارت إلى أثر العقوبات على القدرة على التعامل مع أن أكثر من نصف البنية التحتية الحيوية إما مدمرة كليّاً أو متضررة بشدة، ونوهت إلى دور العقوبات في «النقص الحاد في الأدوية والمعدات الطبية المتخصصة، وخاصة للأمراض المزمنة والنادرة». ونوهت دوهان إلى مشكلة «الإفراط في الامتثال (للعقوبات) من قبل الشركات والبنوك» ما يساهم بشكل إضافي في الآثار المدمرة للعقوبات.
بعض ردود الأفعال
كما هو متوقع، كانت هناك ردود أفعال من عدة جهات رافضة أو مستاءة من تصريحات دوهان، من بينها جهات سوريّة ودولية، اعتبرت أن تصريحات وتقرير دوهان منقوصة لأنها لم تذكر الأسباب التي أدت إلى فرض هذه العقوبات من الأساس، وبعض الجهات رأت أنه كان يتوجب على دوهان أن تقدم مطالب للنظام متعلقة بالممارسات الأمنية والسياسية... ولكن من المفيد التذكير، أن هذه الأمور ليست ضمن ولاية أو تفويض دوهان والتي ينحصر تركيز عملها على النظر في التأثير السلبي للعقوبات أحادية الجانب على حقوق الإنسان في الدول التي تُفرض عليها هذه العقوبات.
أيضاً من المفيد هنا التذكير، أن هذا المنصب والذي يعمل كخبير في مجال معين لتقديم رأي مستقل للأمم المتحدة تم اعتماده في عام 2014 بموجب قرار خاص طرحته كوبا لأول مرة، وصوتت العديد من الدول الأوروبية ضد القرار، بما في ذلك ألمانيا وفرنسا والمملكة المتحدة، وكذلك الولايات المتحدة.
بعض الانتقادات كانت ظاهرياً أكثر موضوعية، حيث إنها لم ترفض النتائج رفضاً تاماً، وركزت على أن تقرير دوهان لم يظهر السببية بما فيه الكفاية، أي أنه من وجهة نظر بعض أولئك لم يحتوِ التقرير على ربط كافٍ بين العقوبات والآثار التي ذكرتها دوهان. وبعض أولئك أضافوا أنهم يعرفون صعوبة إظهار ذلك، وعادوا إلى ذات النقطة، حول كيف أن الأسباب تكمن ضمنها أمور متعلقة بالنظام والسلطة وممارساتها السياسية والاقتصادية، الأمر الذي هو أيضاً خارج نطاق تفويض عمل دوهان.
كانت هنالك أيضاً ردود أفعال من المتشددين في المعارضة، الذين لا يضيعون أية فرصة لدعم فرض العقوبات على سورية، والمطالبة بالمزيد منها دون إيلاء أية أهمية لتأثيراتها على السوريين، وعلى المستوى المعيشي والحد الأدنى من الظروف الإنسانية لحياة كريمة للإنسان السوري، وبغض النظر عن معرفتهم بأنّ العقوبات الغربية عبر خمسين عاماً مضت، لم تغيّر أياً من الأنظمة التي ادّعت أنها مفروضة ضدها.
أما على المستوى الدولي، فحسب عدة مصادر– أبرزها تغريدة لصحفي ألماني– كان هناك تصريح من قبل الخارجية الألمانية ورد فيه ما يلي: «لقد لحظنا تصريحات السيدة دوهان، ولا نعرف كيف توصلت المقررة الخاصة إلى استنتاجاتها– أي في أية انطباعات وبمساعدة أية منهجية. من الواضح لنا: أن نظام الأسد يتحمل مسؤولية الوضع الكارثي في سورية. يواصل النظام شن حرب وحشية ضد شعبه، وهو يرتكب باستمرار انتهاكات حقوق الإنسان، ويمنع أي حل سياسي للصراع. نعلم أيضاً أن النظام وداعميه– مثل روسيا– يستمرون بتهكمٍ بإلقاء اللوم على عقوبات الاتحاد الأوروبي في المعاناة في البلاد. عقوبات الاتحاد الأوروبي تستهدف بشكل خاص أولئك المذنبين بارتكاب جرائم خطيرة في سورية، وفي الوقت نفسه، تنص على استثناءات إنسانية واضحة جداً وبعيدة المدى». ومن الجدير بالذكر هنا، أنه بالرغم من أن عدة جهات تكلمت حول هذا التصريح إلا أنه ليس موجوداً على الموقع الرسمي للخارجية الألمانية.
ماذا قلنا سابقاً عن العقوبات؟
نشرت قاسيون خلال السنوات الماضية الكثير من المواد التي سلطت الضوء فيها على موضوع العقوبات الغربية المفروضة على سورية، وتناولته من عدة زوايا، وتطرقت إلى الآثار الكارثية للعقوبات والعوامل التي أدت إلى تعميقها، كما قدمت قاسيون الكثير من المقترحات للتعامل معها في ظل استمرارها لتخفيف آثارها.
كانت وما زالت العقوبات الاقتصادية التي يفرضها الغرب- وبالأخص الولايات المتحدة- وسيلة لما يسمونه «تغيير سلوك» أنظمة وحكومات مختلفة حول العالم، ولكن فعلياً ما تحققه هذه العقوبات هو أهدافها الحقيقية التي تكمن في إضعاف الدول ومؤسساتها إلى حد الانهيار وإفقار الشعوب، ضمن محاولاتها لتحقيق مصالح سياسية معينة. وأفضل مثال للنظر إلى هذا الجانب هو: العقوبات التي تفرضها الولايات المتحدة على سورية والتي توضحت أهدافها بشكل أكبر بعد إقرار ما يسمى بـ «قانون قيصر». والذي يحمل بين طياته أهدافاً سياسية أبرزها متعلق بالدفع باتجاه التطبيع من الكيان الصهيوني من خلال نص في القانون يقول: «سياسة الولايات المتحدة هي أنه يجب استخدام الوسائل الاقتصادية الدبلوماسية والقسرية لإجبار حكومة بشار الأسد على وقف هجماتها القاتلة على الشعب السوري، ودعم الانتقال إلى حكومة في سورية تحترم سيادة القانون وحقوق الإنسان، والتعايش السلمي مع جيرانها». وهنا يمكن العودة إلى مادة في قاسيون بعنوان «عليكم بالتطبيع... وإلا!»
وطالما كان للعقوبات مناصروها من بين السوريين، وبالأخص ضمن بعض قوى المعارضة، والذين اعتادوا على تكرار تبريرهم لدعم العقوبات، أنها تشمل استثناءات في القطاعات الإنسانية والطبية، ولكن كما ناقشنا في مادة سابقة «هل هنالك أي معنى لما يسمى «الإعفاءات الإنسانية من العقوبات»؟» فإن تطبيق هذه الإعفاءات المزعومة شبه مستحيل، سواء مما ورد في القانون نفسه من خلال إعطاء الرئيس الأمريكي والحكومة الأمريكية بشكل عام قدراً كبيراً من النفوذ في اتخاذ قرارات حول هذه الاستثناءات، عدا عن أن القانون لا يوفر ما فيه الكفاية من التفاصيل، لتتمكن المنظمات المحلية والدولية من معرفة الأنشطة التي يمكنها القيام بها، ما يدفع الكثير من الجهات التي يمكنها أن تعمل ضمن هذه «الاستثناءات» إلى العزوف عن أي عمل خشية التعرض لمساءلة قانونية. وهذا ليس مفاجئاً، حيث هناك الكثير من الإشارات الأخرى أن تضرر المدنيين ليس ضمن أولويات أو اهتمامات الولايات المتحدة، وأفضل من عبّر عن ذلك كان المبعوث الأمريكي السابق للملف السوري، جيمس جيفري، والذي قال في لقاء معه بعد دخول «قانون قيصر» حيز التنفيذ: إن «القانون له تأثيرات ثانوية وثالثية محتملة يمكن أن تؤثر على الناس بشكل عام، وهذا صحيح عموماً عند تطبيق أية عقوبات اقتصادية، لا يمكنك التأكد من ماهية الآثار جميعها». ما يعني أن تخفيف التأثير السلبي على الناس ليس ضمن حساباتهم كما يحاولون الادعاء هم وكل من يدعم عقوباتهم.
حتى موضوع التعليم، الذي لا يمكن اعتباره إلا موضوعاً يجب أن يكون بديهياً ضمن الاستثناءات لم ينج من التأثر بالعقوبات الأمريكية كما بيّنا في مادة بعنوان «وفقاً لـ «قيصر»: التعليم ليس قضية إنسانية!» وفي هذا الصدد يمكن التنويه إلى أحد الأمثلة المتعلقة بشكل مباشر بموضوع التعليم ،وهو أن العقوبات ولأنها تشمل كافة مؤسسات الدولة فإنها تساهم بتسرب الأطفال من المدارس، لأن المدارس بحاجة إلى ترميم وإعادة تأهيل وبناء، ولكن الجهة المشرفة على هذا الأمر هو وزارة التعليم، والتي تم شملها ضمن العقوبات، ولذلك لا يمكن استثناء إعادة تأهيل أو بناء المدارس الحكومية من العقوبات.
أما على الجانب السوري، في نيسان الماضي نشر مركز قاسيون للدراسات مادة بعنوان «كيف ساهم الحرامية الكبار و«ليبراليتهم» الاقتصادية في مضاعفة وتعميق آثار العقوبات الغربية؟» والتي نظرت في كيفية تعامل الحكومات السورية مع العقوبات الغربية. وفي هذا السياق ركزنا على الدور الأكبر للسياسات الاقتصادية القائمة في إعطاء المجال لتأثير العقوبات الغربية على اقتصاد سورية بالشكل الذي أثرت به، واستمرار نهشها لما تبقى من الاقتصاد السوري، نتيجة عدم تعديل هذه السياسات بطريقة على الأقل تخفف من تأثير العقوبات على الاقتصاد السوري والسوريين، بل إنها ساهمت في تعميقها لتصل الأمور ما وصلت إليه اليوم من كارثة في تدني المستوى المعيشي. واستعرضت تلك المادة بعضاً من الاقتراحات التي قدمناها خلال السنوات الماضية لخطوات يمكن القيام بها لوقف النزيف، ولكن هذا يتطلب الإرادة السياسية، الأمر الذي ما زال غير موجود لدى الجهات المتنفذة، التي بالإضافة إلى عدم اتخاذ أية إجراءات لتخفيف وطأة العقوبات على المواطن، تقوم بإجراءات تزيد من معاناة المواطن، رفع الدعم مثالاً.
وأعدنا التذكير بأن إحدى أهم وسائل مواجهة التحديات الاقتصادية تكمن بالعودة إلى الاعتماد على الذات من خلال إصلاح وتفعيل القطاع العام. وأشرنا في هذا السياق إلى بعض الأمثلة في قطاع الزراعة وبالتحديد القمح، وقطاع الطاقة. كما سلطنا الضوء على بعض الممارسات التي يمكن أن تكون لها آثار إيجابية، مثل بعض الإجراءات المرتبطة بعملية الشحن، والتي كان لها الأثر الكبير في وقف تدفق الكثير من المنتجات والمواد الأولية إلى سورية بما في ذلك النفط، بالإضافة إلى تحصين الاقتصاد من تأثير العقوبات الغربية من خلال الحد من الاعتماد على عملات، مثل: الدولار واليورو، وعقد اتفاقات مع دول لا تعير العقوبات أي اهتمام، على أن تكون هذه الاتفاقات بعملات محلية بدل الدولار واليورو. ويمكن العودة إلى عدد من المواد السابقة التي تم إدراجها في تلك المادة، والتي تغطي بالتفصيل تأثير العقوبات على القطاعات المختلفة واقتراحاتنا لتخفيفها.
وفي تلك المادة، أشرنا إلى أن «إمكانية تخفيف تأثير العقوبات لا تكمن فقط في البدائل والسياسات الاقتصادية التي تضع الاقتصاد الوطني والإنتاج الوطني والسوق الوطني والمستهلك السوري أولوية لها، ولكن في الإرادة السياسية، وهذه تتطلب تغييراً جذرياً للوصول إليها... فالنخبة المتنفذة والمستفيدة من استمرار الأزمة بكل جوانبها، والمتحكمة بمفاصل الدولة، أظهرت بما يكفي من الوضوح: أنها غير مستعدة للقيام بأي دور إيجابي، ولم يعد الناس ينتظرون منها سوى المزيد من المصائب». وهذا يعني باختصار «إنّ تجاوز الانهيار الاقتصادي القائم ممكن، ولكن الطريق نحوه لم يعد اقتصادياً أو مالياً، بل بات سياسياً بالدرجة الأولى... ما يحول تطبيق الحل السياسي الشامل عبر 2254، أي البدء بتغيير جذري للبنية والمنظومة القائمة، أداة أساسية ووحيدة في حل الأزمات الاقتصادية وفي تجاوز العقوبات».
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1099