ما الذي أيقظ الأمريكان على الملف السوري؟
المتابع للشق الدبلوماسي من العمل الأمريكي اتجاه سورية، يمكنه أن يلاحظ بوضوح أنّ الشهرين الأخيرين قد شهدا كثافة عالية من الاجتماعات والزيارات والنشاطات، خلافاً للوضع طوال سنةٍ مضت على الأقل، بدا فيها وكأن الاهتمام الأمريكي بسورية، بجانبه الدبلوماسي على الأقل، قد انخفض إلى مستوىً غير مسبوق.
خلال السنة الماضية، تراجع بشكلٍ كبير نشاط الأمريكان بما يخص سورية بجانبه السياسي- الإعلامي، وأحد تمثيلات ذلك التراجع هو ضمور حالة «المجموعة المصغرة» الغربية، بل وأيضاً التغير المستمر في تركيبتها، وحتى اسمها طوال السنوات الخمس الماضية: من مجموعة «الدول المتشابهة التفكير»، إلى «المجموعة المصغرة»، إلى «مجموعة التواصل» مؤخراً. وقد كان واضحاً منذ اللحظة الأولى لتشكل هذه المجموعة أنها موجهة للعمل ضد ثلاثي أستانا الذي نشأ نهاية 2016... وقد ساعدت صراحة ووقاحة المبعوث الأمريكي الأسبق جيمس جيفري على تثبيت هذه الحقيقة بكلماته هو بالذات، وقد وفّر على من يريدون التحليل والبحث بالعمق جهداً كبيراً عبر طريقته الاستعراضية في فضح السياسات الأمريكية اتجاه سورية وعلى رأسها سياسة «المستنقع» والجمود هو «الاستقرار»... وكذا الأمر مع خليفته جويل ريبورن الذي كان أكثر خفةً حتى من سلفه، إذ لم يوفر فرصةً إلّا وعبّر فيها عن عظيم سعادته بتحطم مستوى معيشة السوريين، وبتدهور سعر صرف عملتهم...
عود على بدء، فإنّ النشاط الأمريكي خلال الشهرين الأخيرين، أي بعد قمتي طهران وسوتشي، قد أخذ زخماً لم يكن عليه طوال سنة أو أكثر؛ من دعوات لاجتماعات في مجلس الأمن، أو على هامشه حول سورية، إلى الزيارات المكثفة للشمال الشرقي السوري، إلى دعوة «هيئة التفاوض» أي الائتلاف إلى سلسلة اجتماعات في جنيف مع دعوة لاجتماع «مجموعة التواصل»، وإلى غيرها الكثير من النشاطات الأقل ظهوراً هنا وهناك.
إدارة الصراع
التسريب الصوتي الشهير لوزير خارجية أوباما، جون كيري، يكشف، ومنذ وقت مبكر، سياسة أمريكا اتجاه سورية وأزمتها؛ في التسريب يتحدث كيري عن أنّ الأمريكان راقبوا داعش وتمددها، ولم يتدخلوا، وكانوا يعولون على أنّ تمددها سيضعف النظام السوري ويجبره على الدخول في التفاوض، ولكن تدخل الروس لاحقاً غيّر المعادلات.
أي أنّ الأمريكان، ومنذ اللحظة الأولى، لم يكونوا معنيين بإسقاط النظام، بل بإسقاط البلاد عبر إضعاف كل أطرافها وقواها، ولو عبر استخدام داعش، أو بالحد الأدنى غض النظر عنها.
هذا النوع من السياسات ليس جديداً في القاموس الأمريكي، وقد مارسته السلطات الأمريكية على مستوى الدول فيما بينها، وعلى مستوى دولة بعينها؛ مثلاً: في الحرب العراقية الإيرانية، كان الأمريكان يبيعون السلاح لطرفي الصراع، ويوازنون عمليات الإمداد بحيث يستمر الصراع أطوال فترة ممكنة، ويحدث أكبر ضرر ممكن. وعلى المنوال نفسه، عمل الأمريكان في صراعات عديدة حول العالم، ضمن منطق «إدارة الصراع» بحيث تكون نتيجته إضعاف كل الأطراف المتصارعة، وزيادة النفوذ الأمريكي عليها كلّها، وصولاً لإنفاذ المشاريع والمصالح الأمريكية... والأمر في سورية لم يكن استثناءً من هذا القاموس، بل تطبيقاً «إبداعياً» له، إنْ جازت تسمية السلوك الإجرامي إبداعياً...
الهدوء يعني أن الخطة تسير بنجاح
بهذا المعنى، يمكن تفسير تراجع كثافة النشاط الدبلوماسي الأمريكي خلال سنة مضت، (ليس بالأزمة الأوكرانية بطبيعة الحال فهو سابق عليها)، بل بأنّ الأمور كانت ما تزال سائرة ضمن المخطط المطلوب، أي إنّ عملية «إدارة الصراع» ضمن هدف إدامته وإضعاف واستنزاف كل أطرافه، ومعهم سورية نفسها وشعبها، كانت تسير بالاتجاه المطلوب أمريكياً...
ليس أدلّ على ذلك، من أنّه بينما كانت اللجنة الدستورية تناقش جنس الملائكة ولا تحقق أي تقدم فعلي، فإنّ الأوضاع الاقتصادية الاجتماعية في سورية، كانت تسير بتسارع كارثي نحو الهاوية، وبكل المعاني: عمليات رفع الدعم جارية على قدم وساق، وباتجاه تدمير ما تبقى من صناعة وزراعة، وباتجاه تطفيش ما تبقى من السوريين وخاصة من الكفاءات. وكذلك عملية «التحول الهيكلي» والبنيوي في الاقتصاد السوري باتجاه سيادة ونفوذ تجار الحرب، وتجاراتهم السوداء هي الأخرى سائرة على أحسن ما يرام أمريكياً وصهيونياً... وربما الأخطر ما تنتجه هذه العملية من تفتيت وتدمير لروح المجتمع وثقافته وبنيته، وهو ما باتت علاماته المخزية واضحة في كل المجالات.
بالتوازي، فإنّ المناطق التي تسيطر عليها المعارضة، لم تكن بأحسن حالاً على الإطلاق، إذ رغم أنّ بعض أشكال النشاط الإنتاجي المحمول على وجود وصلٍ كهربائي أفضل ما زالت قائمة، إلا أنّ عمليات النهب والسطو والفساد تمتص أية إمكانيات استقرار، وتدفع نحو الانخراط أيضاً في الأشكال السوداء والإجرامية من الاقتصاد.
وبكلمة، فإنّ الأمور خلال السنوات الثلاث الماضية، وخلال السنة الأخيرة خصوصاً، تسير على أحسن ما يرام من وجهة النظر الأمريكية، أي باتجاه الخراب الشامل والانهيار الذاتي... ولذا لم يكن هنالك من داعٍ لنشاطٍ أمريكي فاعلٍ في «إدارة الصراع»، أي في العمل للحفاظ عليه سائراً بالاتجاه المطلوب.
ما المستجد؟
الجديد بعد أوكرانيا، وبعد قمتي طهران وسوتشي خاصة، هو أنّ الموازين الدولية الجديدة التي تمظهرت في أوكرانيا نفسها، وفي الاقتصاد العالمي وفي أزمات الطاقة والغذاء، وفي ارتداد العقوبات الغربية على الغرب، وفي اتساع رقعة التحالف الصيني الروسي، وتحالف بريكس وتعمق قوته ونفوذه العالمي، وخاصة في منطقتنا عبر سلسلة مصالحات بين الدول جرت مؤخراً، وخاصة بين السعودية وتركيا، وبين مصر وتركيا، وكذلك بداية حلحلة المعضلة السعودية الإيرانية، وأيضاً العمل الروسي الإيراني المشترك مع تركيا للدفع نحو تقارب تركي سوري، إضافة إلى أنّ هذه الدول كلها (السعودية، تركيا، مصر، وغيرها) أخذت شكلياً موقف الحياد من الصراع الشرقي/ الغربي، ولكن عملياً وقفت في صف روسيا والصين، ابتداءً من سياسات الطاقة، ووصولاً إلى الموقف من المشاريع السياسية المطروحة غربياً، وعلى رأسها مشاريع من نمط «الناتو العربي» وما شابهه...
كل هذه العوامل، دفعت بالأمريكان للتحرك بنشاطٍ عالٍ، إنْ لم نقل بنشاطٍ مسعور، لمنع هذه المعادلات الجديدة من التحول إلى حقائق ثابتة على الأرض، وبالتحديد لمنع ثلاثي أستانا من الوصول إلى تطبيق حقيقي للقرار 2254؛ والذي باتت الطريق إليه ممهدة أكثر من أي وقت مضى، بتضافر مجموعة عوامل على رأسها:
تعمق التفاهم بين أطراف ثلاثي أستانا.
التعاون المحتمل والممكن للثلاثي مع الصين في معالجة الجانب الاقتصادي من حل الأزمة السورية.
ارتفاع إمكانيات وصول ثلاثي أستانا، إلى قدرٍ معقول من التفاهم مع كلٍ من السعودية ومصر، حول الحل السوري.
هذه العوامل بمجملها، وبما يمكن أن تنتجه، تعني الانتقال من «إدارة الصراع» إلى حلّه، وتعني إنهاء الدور الأمريكي في سورية... وليس مستغرباً والحال كذلك، أنّ هذا «النشاط» الأمريكي، يتزامن ويترافق مع «نشاطٍ» إجرامي «إسرائيلي» غير مسبوق في كثافته ووتائره ووقاحته في الاعتداء على سورية وعلى مطاراتها...
منع الأمريكان والصهاينة من الاستمرار في «إدارة الصراع»، أي من الاستمرار في تخريب سورية وتهديمها والعمل على إنهائها، لا يمكن أنْ يتم بالاستناد إلى الظروف الدولية والإقليمية فحسب، وهي ظروف تصب في مصلحة سورية والشعب السوري، ولكنها تحتاج إلى عملٍ وطني جاد بالذهاب سريعاً إلى التفاوض المباشر، وفي منع المتشددين وتجار الحروب من مختلف الأطراف من الاستمرار بلعب أدوارهم في منع الحل، والتي لم يعد من الممكن فهمها بحدود المصالح الضيقة فحسب، بل بات من الضروري رؤيتها كجزءٍ أساسي من عملية «إدارة الصراع» الأمريكية...
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1088