التفاوض السياسي المباشر... مدخلاً إجبارياً للحل
سعد صائب سعد صائب

التفاوض السياسي المباشر... مدخلاً إجبارياً للحل

رغم مرور 12 عاماً على انفجار الأزمة السورية، إلا أنّ التفاوض المباشر بين الأطراف السورية لم يجر فعلياً إلّا في ثلاث مناسبات، وبشكلٍ عابرٍ لم يتم استكماله ولا البناء عليه؛ مرةً في مؤتمر جنيف2 والذي لا يمكن اعتباره تفاوضاً مباشراً بقدر ما هو استعراضٌ سياسي لم يمتلك طرفاه السوريان أيّة رغبةٍ حقيقية في الوصول إلى حل، بقدر ما استخدما المنابر التي وفرها ذلك المؤتمر لكيل الاتهامات وتصعيد الصراع.

المناسبتان التاليتان، واللتان كانتا محدودتي النتائج، هما اجتماعا موسكو التشاوريان الأول والثاني في النصف الأول من عام 2015، واللذان عقدا بتيسير روسي، وحصل ضمنهما حوارٌ مباشر وحقيقي، ولكن لم يتم استكمالهما وصولاً إلى البدء الفعلي بالحل.

سنوات من التبارز الإعلامي

بعد صدور القرار 2254 نهاية عام 2015، وقد كانت في حينه المعارك العسكرية سيدة المشهد، بقي الحديث عن المسارات السياسية ضعيفاً وثانوياً، وكانت شعارات «الحسم» و«الإسقاط» هي الشعارات الأعلى صوتاً. ورغم أنّ جنيف3 قد بدأ عام 2016 إلا أنه سرعان ما توقف بنتيجة التعليق غير المفهوم لوفد المعارضة في حينه للمفاوضات التي لم تكن قد بدأت فعلاً.
ورغم عودة اجتماعات جنيف عام 2017 للانعقاد بتواتر أسرع، إلّا أنها بقيت دون تفاوض مباشر، وبقيت ساحة للتبارز والتراشق الإعلامي، الأمر الذي استمر حتى توقف هذه الاجتماعات في مطلع 2018 دون أن تصل إلى لتفاوض المباشر، وبدأ العمل على تشكيل اللجنة الدستورية، الذي استمر عامين كاملين، لتعقد اجتماعها الأول في تشرين الأول 2019.
من حيث الشكل، بدت اجتماعات اللجنة الدستورية، رغم أنّ موضوعها الأساسي ليس التفاوض على الحل، بل التفاوض والحوار على دستورٍ مستقبلي، بدت وكأنها تفاوض مباشر... لكنّ الأمر لم يكن كذلك كما أشارت كل الحقائق اللاحقة، ومن بينها اعتبار الحكومة السورية أنّ الوفد الذي يحضر من طرفها ليس ممثلاً لها بل مدعوماً منها، بما يعني بشكلٍ واضحٍ التنصل من أية نتائج يمكن أن يتم التوصل إليها، وأهم من ذلك البقاء ضمن حالة عدم الاعتراف بضرورة التفاوض المباشر الذي يحتاج قبل كل شيء لاعتراف متبادل بين الأطراف المتفاوضة.
وعلى ضفة المعارضة، تمت السيطرة على الملف من متشددين ضمن المعارضة، كانوا هم أنفسهم من رفض علناً القرار 2254 عند صدوره، ورفضوا بيان جنيف عند صدوره، ثم عادوا للموافقة عليهما في إطار تكيّف ضروري يضمن استمرار وظيفتهم في تعطيل الحل من داخل أروقة الأمم المتحدة... وقد عبّر هؤلاء بالسلوك الملموس عن تعسفهم وعن «ديمقراطيتهم» ابتداءً من طريقة تركيب وفد المعارضة ضمن اللجنة الموسعة والمصغرة، والذي تم فيه إقصاء المكونات السياسية للشمال الشرقي السوري، ومروراً بتوزيع المقاعد بطريقة تضمن لهم دور «الحزب القائد»، ووصولاً إلى فصل «المخالفين» الذي تمثل بأكثر من حالة، بينها فصل ممثل منصة موسكو عقاباً على دعوة المنصة لنقل العمل إلى دمشق مع توفير الضمانات اللازمة لذلك...
بالمجمل، فإنّ كلّ عمليات «التفاوض» التي جرت حتى اللحظة، عدا لقائي موسكو الأول والثاني، كانت عمليات تبارز إعلامي لا تعترف خلالها الأطراف المشاركة ببعضها البعض، وتأخذ شكل التفاوض غير المباشر بين الدول المتحاربة أكثر بكثير مما تأخذ شكل التفاوض السياسي، الذي يسعى أصحابه لإيقاف نزيف بلادهم، وإيقاف الحرب فيها، وإعادة توحيدها وإنهاء وجود القوات الأجنبية فيها.

أهمية التفاوض المباشر

التفاوض المباشر يعني بالدرجة الأولى اعترافاً ملموساً من الأطراف المتفاوضة بأنّ المخرج هو الحل السياسي ولا مخرج غيره؛ لأنّ الاعتراف اللفظي من الأطراف المختلفة بالحل السياسي قد أثبت بالممارسة أنه مجرد اعترافٍ لفظي و«تكتيكي»، يسعى كل من أطرافه إلى سحق الأطراف الأخرى معولاً على استطالة الزمن، بينما واقع الأمور أنّ كل الأطراف السورية قد تمّ سحقها وسحق قدراتها، ومعها تم سحق سورية وقدراتها وإمكاناتها وتهجير نصف شعبها، والجزء الأكبر من كفاءاتها... وهذه الأطراف نفسها قد باتت أضعف، وتزداد ضعفاً مع كل يومٍ إضافي؛ لأنّ القوة مفهوم شامل لا يعبّر عن نفسه بسطوة أمنية فحسب؛ مع أنّ هذه نفسها باتت أضعف من حيث أداء الجزء الإيجابي الطبيعي من مهامها في حفظ الأمن... فالقوة تتضمن أيضاً القدرة على إدارة المجتمع، وعلى التنمية، وعلى تأمين دوران عجلة الاقتصاد، وعلى تأمين الخدمات الأساسية للناس وإلخ... وهذه كلها قد باتت في أيدي مجموعة من تجار الحروب والمتنفذين والفاسدين الكبار والمحتكرين الكبار الذين يمسكون بقبضاتهم رقاب العباد والبلاد.
بالعودة إلى فكرة التفاوض المباشر، فهي كما أسلفنا اعتراف ملموس بالقبول بالحل السياسي وبكونه المخرج الحقيقي من الأزمة... فأياً تكن آراء هذا الطرف السياسي من السوريين أو ذاك، ومن يوالونه، بالأطراف الأخرى، فإنّ الحقيقة التي لا يمكن لأحد إنكارها هي أنّ شروخاً عميقة قد تمّ إحداثها بين أبناء الشعب الواحد، ناهيك عن انقسام البلاد إلى ساحات نفوذ مختلفة، وفوقها وجود قوات أجنبية من عدة دول على أراضيها.
عملية استعادة وحدة البلاد ووحدة الشعب لا يمكن أن تتم دون الوصول إلى تغيير شاملٍ لا يتم عبر كسر عظام طرفٍ لآخر، ليس لأنّ ذلك مستحيل فقط، بل وأيضاً لأنّ عمليات كسر العظم المفترضة هي تعميق للشروخ والجروح بين السوريين أنفسهم، وتهديد لمستقبل البلاد ولوحدتها.
ولذلك كلّه فإنّ الوصول إلى اعتراف متبادل بين الأطراف المختلفة على أساس القرار 2254 عبر التفاوض المباشر، هو الأرضية الأساسية التي لا غنى عنها في الانتقال للحل الشامل ولإنهاء الأزمة... وإذا كان هنالك ضمن الأطراف المتشددة في النظام أو المعارضة من يحاول التذرع بأنّ الاعتراف المباشر هو خسارة «وطنية»، فتلك ذريعة لا قيمة لها لأنّ الوطن بأسره هو ما نخسره أمام أعيننا عبر استمرار الأزمة واستمرار الكارثة. ومع الأخذ بعين الاعتبار أنّ منتهى الحل السياسي هو انتخابات حرة ونزيهة يُسأل فيها الشعب السوري عن رأيه بالجميع، فإنّ هذا القول هو تعبير صريح عن أحد أمرين: فإما أن الأطراف المتشددة تعرف مسبقاً رأي السوريين بها ولذا تخشى أي حلٍ يكون منتهاه سؤال السوريين عن رأيهم، أو أن هذه الأطراف لا تعتبر الشعب السوري «مؤهلاً» لتقرير مصيره بنفسه وتريد هي أن تقرر عنه... ويصعب الحسم في أيّ الرأيين أكثر سوءاً من الآخر، وأيّ العذرين أقبح من الآخر.
إذا كان الغرب وبالتحديد الأمريكان والصهاينة يبذلون قصارى جهدهم لإبقاء البلاد مستنقعاً، ودفعها نحو التفتت الشامل، ويعطلون أية إمكانية للحل الحقيقي، عبر دعم مباشر وغير مباشر للمتشددين ولطروحاتهم، فإنّ واجب الوطنيين السوريين أن يدفعوا باتجاه الحل وعبر التفاوض المباشر ووصولاً للتطبيق الكامل للقرار 2254، وبالتعاون مع تلك الدول التي من مصلحتها فعلاً إنهاء الأزمة وإنهاء الحالة المستنقعية... وهذا التعاون باتت إمكانياته أعلى بما لا يقاس من سنوات مضت، فإضافة إلى تعمق التفاهمات ضمن ثلاثي أستانا، فإنّ مؤتمر شنغهاي الأخير ونتائجه تظهر أنّ إمكانيات تأمين توافق إقليمي ودولي مضاد للتخريب الغربي/ الصهيوني باتت أعلى وباتت أقرب إلى التحقق...

 

(English version)

معلومات إضافية

العدد رقم:
1088
آخر تعديل على الثلاثاء, 20 أيلول/سبتمبر 2022 23:00