كيف سينعكس الوضع الدولي الجديد على القضية الفلسطينية.. وعلى مجمل منطقتنا؟
في كلمة له في مجلس الأمن يوم الثلاثاء الماضي، 26 تموز، قال المندوب الروسي إلى الأمم المتحدة في جلسة حول الوضع في الشرق الأوسط، بما في ذلك القضية الفلسطينية: «ندعو باستمرار إلى استئناف المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية المباشرة، التي ينبغي أن تؤدي إلى إقامة دولة فلسطينية مستقلة، عاصمتها القدس الشرقية... نعتقد أنه من الضروري تكثيف الجهود المتعددة الأطراف لهذا الغرض، بما في ذلك في شكل اللجنة الرباعية للشرق الأوسط للوسطاء الدوليين... ويجب التأكيد على أهمية التنسيق بين الوسطاء الدوليين والشركاء الإقليميين. هذا هو السبب وراء مبادرة روسيا لعقد اجتماع وزاري موسع للجنة الرباعية للشرق الأوسط مع الأعضاء الرئيسيين في جامعة الدول العربية. وللأسف، لم يتم البت في ذلك حتى الآن، وذلك بسبب عدم اهتمام الولايات المتحدة باستئناف أنشطة اللجنة الرباعية».
في ختام كلمته، أضاف: «نؤكد مرة أخرى أن الاتحاد الروسي سيواصل جهوده لتنسيق المبادرات المشتركة لإحياء عملية السلام في الشرق الأوسط، وإيجاد حل عادل للقضية الفلسطينية. كما رأينا، فإن محاولات احتكار جهود التسوية وفرض السلام الاقتصادي على الشعب الفلسطيني بدلاً من إيجاد طريقة عادلة لتحقيق تطلعاته في إقامة دولته المستقلة لم تسفر عن نتائج ملموسة، ولن تنجح أبداً».
وكان وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، قد قال الشيء ذاته قبل يومين من الجلسة في كلمته في الجامعة العربية في القاهرة يوم 24 تموز، حيث قال: «أود أن أكرر عزمنا على تعزيز الشراكة مع جامعة الدول العربية، واهتمامنا بتعزيز التعاون الاقتصادي... ويمتد هذا التعاون أيضاً إلى القضايا الدولية والإقليمية. نحن نتعاون حول فلسطين. هذه القضية في وضع سيئ للغاية بسبب عدم رغبة الولايات المتحدة في إحياء أنشطة اللجنة الرباعية بمشاركة ممثلي جامعة الدول العربية».
هل هذا التصريح جديد؟
إذا نظرنا إلى محتوى التصريح بمعزلٍ عمّا يجري في العالم اليوم، قد لا نجد فيه جديداً؛ إذ ليست المواقف الأمريكية التي يشير إليها الروس مواقف جديدة، ولا تشكل خروجاً عن الدور التاريخي للولايات المتحدة (وضمناً الغرب) في إعاقة حل القضية الفلسطينية، التي لم تكن لتوجد لولا جهودهم الحثيثة في دعم إنشاء الكيان واستمراره.
كذلك الموقف الروسي من القضية الفلسطينية والكيان ليس بالجديد، حيث إنه تاريخياً جرى العمل على تحريف الوقائع لتسويق فكرة أن أول دولة اعترفت بالكيان كانت الاتحاد السوفييتي، في حين أننا عالجنا هذه الفكرة في مادة سابقة في قاسيون بعنوان «كيف يجري تحريف تاريخ الاتحاد السوفييتي فيما يتعلق بفلسطين؟ ولماذا؟»، والتي سلطت الضوء على الموقف الحقيقي للاتحاد السوفييتي في اجتماعات للجمعية العامة للأمم المتحدة في عام 1947 حول المسألة الفلسطينية، والتي كان موقف الاتحاد السوفييتي فيها بقاء فلسطين دولة واحدة هو الخيار الأول.
حتى هذا التصريح ليس فيه موقف جديد من الطرف الروسي، وسبق أن ورد الكلام نفسه في تصريحات رسمية سابقة. على سبيل المثال في مقابلة مع وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، في 21 آب 2020، وردّاً على سؤال حول «الدور الذي ستكون روسيا على استعداد لتلعبه في الصراع الإسرائيلي الفلسطيني (بالإضافة إلى اللجنة الرباعية للشرق الأوسط) لإحياء المحادثات، في ظل الوضع الحرج الناتج عن تصريحات الولايات المتحدة بشأن القدس»، قال لافروف: إن اللجنة الرباعية تم تصميمها «لمواكبة عملية السلام في الشرق الأوسط. ومع ذلك، فهي مشلولة حالياً بسبب الموقف غير المتعاون للولايات المتحدة. قالت واشنطن: إنها ستواصل العمل داخل اللجنة الرباعية فقط لتعزيز خطتها للسلام، المعروفة باسم «صفقة القرن». وفي هذا السياق، قلنا: إننا مستعدون لمواصلة العمل بشأن القضية الإسرائيلية الفلسطينية في إطار ثلاثي مع الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي، مع خيار انضمام قوى ومنظمات إقليمية أخرى إلى جهودنا».
السياق الزمني للتصريح
عودة إلى مجريات يومنا الحالي، والأجواء الدولية التي أتى خلالها هذا التصريح، بما في ذلك علاقة روسيا مع الكيان اليوم، وضمناً الموقف من الصهيونية، وهذا عالجناه في عدة مواد في قاسيون كان آخرها حول المستجدات المتعلقة بموضوع «الوكالة اليهودية» وقرار إيقاف عملها في روسيا. كما يأتي هذا التصريح في أعقاب زيارة بايدن الفاشلة إلى المنطقة، حيث إنها لم تقف عند عدم الحصول على أية مكتسبات من الدول العربية التي التقى بايدن قادتها في جدة في منتصف شهر تموز، بل كان واضحاً أن علاقة الوصاية التي تمتعت بها الولايات المتحدة لعقود في المنطقة وصولاً في كثير من الأحيان إلى التبعية الكاملة لها، باتت من الماضي.
وغيرها من الأمثلة في هذا السياق، ضمن وضع دولي بدأت تتضح فيه أكثر فأكثر التغييرات في ميزان القوى الدولي، حيث تتلاشى بشكل متسارع الأحادية القطبية التي استفردت بها الولايات المتحدة (وفي صفها الغرب) لأكثر من ثلاثة عقود في نهب العالم وتدميره بأدواتها العسكرية والاقتصادية.
هذا بالإضافة إلى ما بات أكثر وضوحاً في الانتقال إلى حقبة ما بعد هيمنة الدولار كعملة دولية، الأمر الذي تجاوز المؤشرات والإعلانات إلى الخطوات العملية المتمثلة بالاستخدام المتزايد للعملات المحلية في التبادلات البينية بين الدول، وصعود تحالف بريكس «BRICS»، ما يعني انتهاء الأحادية القطبية في المنظومة الدولية المالية والاقتصادية، والتي كانت من أهم الأدوات التي استخدمها الغرب للتحكم بالمجريات السياسية في دول «الأطراف» كما في منطقتنا، حيث أتاح ذلك قدرته على إطالة الأزمات المحلية لاستنزاف الدول والشعوب، بما في ذلك القضية الفلسطينية، وكذلك الأزمة السورية وغيرها من أزمات المنطقة.
ماذا يعني هذا للشرق الأوسط اليوم؟
ضمن هذا المشهد، كل ما سبق يدل على عدة أمور، أهمها:
ازدياد المؤشرات أن الولايات المتحدة تمتلك عدداً أقل من الأوراق في المنطقة، بما في ذلك فشل مشروع الناتو «العربي» ومعه ما تم إنجازه في إطار عملية التطبيع مع الكيان من خلال ما يسمى بـ «اتفاقات أبراهام»، تزامناً مع توجه نحو تقارب سعودي- إيراني، ما يعني أن مستقبل «إسرائيل» يحمل مؤشرات بالمزيد من العزلة والضعف في المنطقة.
أحد المؤشرات الأخرى على أن الولايات المتحدة مدركة لتراجعها في المنطقة هو المحاولات الحثيثة الأخيرة واليائسة لزيادة الاهتمام، بعد أن كان التوجه العام نحو الانسحاب وإعادة التموضع دولياً والتوجه شرقاً للتركيز على «معركتها» مع الصين، حيث كان واضحاً أن بايدن لم يتوقع الحاجة إلى القيام بزيارة كتلك إلى السعودية عندما قال عنها خلال حملته الانتخابية أنها دولة منبوذة وأن محمد بن سلمان يقتل وينتهك حقوق الإنسان.
كل هذا يعني أن قدرة الولايات المتحدة على التحكم بالقوى الإقليمية وبالأخص الدول العربية في تراجع حاد، ما يجعل قدرتها على إعاقة حل أية قضية أقل وذاهبة باتجاه التلاشي الكامل، أي أن الحاجة للولايات المتحدة في حل أية قضية، وبالأحرى قدرة الولايات المتحدة على عرقلة حل أية قضية في منطقتنا تتجه مع الوقت نحو الصفر.
لم يعد من الممكن فرض أي حل أو العمل على أي حل لأي من الأزمات في المنطقة بدون توافق مع الدول الأساسية في المنطقة، أي لا يمكن لأي طرف أن يكون جزءاً من الحل، أو بكلام آخر لديه القدرة على إعاقة الحل، كما فعلت الولايات المتحدة والغرب لعقود، دون توافق مع الدول العربية الأساسية، والتي أصبحت في موقع أقوى فيما يتعلق بالعلاقة مع الغرب، وبالأخص الولايات المتحدة.
في ذات الوقت، علاقة روسيا مع دول المنطقة تتجه نحو التحسن، وتتميز بأنها تعتمد أكثر على الندية والتعاون بدل علاقة التبعية والوصاية التي فرضتها الولايات المتحدة، وبات واضحاً أن دول المنطقة تعتبرها بديلاً مفضلاً على أمريكا، حتى باعتراف الأمريكان أنفسهم سواء من خلال تصرفاتهم أو من خلال إعلامهم. على سبيل المثال، وبحسب مقالة نشرتها مجلة «فورين بوليسي» الأمريكية في 20 تموز فإنه «منذ بدء الحرب في أوكرانيا... الشرق الأوسط لا يبدو مختلفاً تماماً عمّا كان عليه قبل أن تبدأ الدبابات الروسية في التدحرج في 24 شباط. وهذا لا يؤكد ضعف الولايات المتحدة بقدر ما يؤكد حقيقة أن موسكو تشترك في مجموعة منفصلة من الأهداف المشتركة مع جميع شركاء واشنطن تقريباً في المنطقة، من ارتفاع أسعار الطاقة إلى نظام عالمي متعدد الأقطاب. هذا يختلف تماماً عن عودة الحرب الباردة التي يستنتجها بعض المحللين. إنها بدلاً من ذلك بيئة أكثر فوضوية وأكثر تحدياً لصانعي السياسة الأمريكيين، الذين ما زالوا متناقضين بشأن الشرق الأوسط. من حيث يجلس السعوديون والمصريون والإماراتيون والأتراك والإسرائيليون وغيرهم، تعتبر روسيا لاعباً شرعياً بطرق لا يرجح أن تغيّرها الزيارة الرئاسية الأمريكية الزوبعية في أي وقت قريب».
موقف روسيا (وقبلها الاتحاد السوفييتي) من القضية الفلسطينية لم يتغير منذ البداية، ولكن الظرف الدولي اليوم يسمح بتحريك هذا الملف بجدية كبيرة، ومن موقع أقوى، يتميّز بتراجع أمريكي يجعل واشنطن أقل قدرة على إعاقة إحراز تقدم نحو الحل، وفرصة أكبر للتوافق مع الدول الإقليمية لا سيما الدول العربية الأساسية، وفي ظل عزلة وضعف متزايدين للكيان. وهذا يمكن أن يمهد الطريق ليس لحل القضية الفلسطينية وحسب، بل حلّ كافة الأزمات العالقة في المنطقة، وعلى رأسها الأزمة السورية، وليس فقط بالرغم من الأمريكان وأدواتهم المتراجعة في المنطقة، بل بالضرورة بدونهم. أي أن المطلوب اليوم لحل هذه الأزمات، هو بالضبط ما قاله لافروف قبل أقل من عامين، والذي أشرنا إليه أعلاه، حول العمل في إطار لا يشمل الولايات المتحدة وبانضمام دول المنطقة.
جوهر المسألة
شكّل النشاط الصهيوني- الغربي في فلسطين منذ أكثر من مئة عام، مصدر تخريبٍ واستنزاف مستمر في كل منطقة الشرق الأوسط، أدت إلى إعادة تشكيله كمنطقة للحروب والفوضى الدائمة. ولم يكن أي من هذا مصادفة بل عملاً مقصوداً...
الهدف الأول لوجود هذا الكيان الغريب عن المنطقة بعدوانيته وعنصريته: كان قطع الربط بين إفريقيا وآسيا، وإبقاء كلٍ منهما منفصلة عن الأخرى، ما يعني تغليب أهمية الطرق البحرية على الطرق البرية، وما يعني ضمناً سيادة ممالك أعالي البحار الغربية.
الهدف الثاني: هو إبقاء كل دول المنطقة في حالة استنزافٍ مستمر عبر الحروب المتتالية، تبقيها في إطار التبعية وتمنع نهضتها.
الهدف الثالث: هو «تطبيع» حالة المواجهة كحالة مفتوحة وبلا نهاية، ليس ليستمر الاستنزاف فحسب، بل وليتحول إلى أداة في إعادة تشكيل أنظمة المنطقة؛ إذ بات العنوان الذي بدأ صادقاً والقائل: إنّ (لا صوت يعلو فوق صوت المعركة)، يتحول إلى شعارٍ مفرغ من مضمونه الأصلي، وليحل محل ذلك المضمون مضمون جديد، هو أنّ التذرع بالمعركة بات أداة لتخفيض سقف الحريات السياسية للحدود الدنيا ولتضخيم الفساد والنهب إلى الحدود القصوى... ما يعني الدخول في ميكانيزم تدمير ذاتي طويل الأمد، نرى نتائجه الآن في معظم دول المنقطة.
الوصول إلى استقرار حقيقي في المنطقة بأسرها، بحيث يتوقف استعمالها كبؤرة لضرب أية مشاريع آسيوية وإفريقية للاستقلال عن الغرب، هو هدف أساسي ولا مهرب منه في إطار بناء نظام عالمي جديد قائم على الندية وعلاقات التبادل المتكافئ...
بكلامٍ آخر، فإنّ حل القضية الفلسطينية حلاً عادلاً وحقيقياً، ليس فقط مسألة أخلاقية وإنسانية وقيمية محقة كما كان دائماً، بل وأيضاً مسألة عملية في الظروف الملموسة اليوم لبناء نظام عالمي جديد، ولإنهاء الهيمنة الغربية، ولذا لن يكون مستغرباً إطلاقاً أنّ كلاً من روسيا والصين ستزيدان من ثقلهما بشكل تدريجي وسريع باتجاه الضغط نحو الحل العادل، والذي لا يمكنه أن يصل إلى نهاياته دون دورٍ أساسي لشعوب المنطقة، وعلى رأسها الشعب الفلسطيني في تكثيف المقاومة وتطويرها...
الأفق التاريخي ينفتح على اتساعه، ولأول مرة منذ عقود طويلة، أمام حل حقيقي وشامل وعادل للقضية الفلسطينية، وينبغي المضي في هذا الطريق حتى النهاية...
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1081