قمة جدّة … صورة تذكارية لوداع الإمبراطورية الأمريكية

قمة جدّة … صورة تذكارية لوداع الإمبراطورية الأمريكية

انتهت، مع انتهاء القمة السعودية/ الأمريكية، أسابيع مليئة بالتحليلات والتكهنات، ولم تترك هذه الزيارة الكثير من الألغاز والخفايا خلفها، بل حرص المسؤولون السعوديون على إعلان إجاباتهم على الطلبات الأمريكية أمام الجميع، لتصبح زيارة بايدن بمثابة صورة تذكارية لوداع الإمبراطورية الأمريكية، وتتحول إلى نقطة علاّم جديدة في مستقبل المنطقة، ومؤشراً يؤخذ بعين الاعتبار بالنسبة لعلاقات دول العالم مع الولايات المتحدة.

وصل الرئيس الأمريكي إلى مطار جدّة قادماً من الكيان الصهيوني في 15 من شهر تموز الجاري ليغادره في اليوم التالي بعد عقّد سلسلة من اللقاءات، كان أبرزها لقاء مباشر مع ولي العهد محمد بن سلمان، الذي أصرّ بايدن في وقت سابق أنه لن يعقد أي لقاءً معه. ما هي أبرز محطات هذه الزيارة؟ وهل بات بالإمكان القول بأن الزيارة فشلت بالفعل؟

هبوط غير موفق!

تداولت وسائل الإعلام ذلك الحدث الرمزي بالغ الأهمية، فالرئيس الأمريكي وصل إلى مطار جدة، وكان في استقباله نائب أمير منطقة مكة المكرمة، في تناقض مثير مع الاستقبال المهيب للرئيس السابق دونالد ترامب، بل إن بايدن لقي حفاوة أقل من الرئيس المصري وولي العهد الكويتي ورئيس الإمارات وأمير قطر وملك البحرين والعاهل الأردني الذين استقبلهم بن سلمان شخصياً، والتقطت الكاميرات حالة من الترحيب والود لم يشهد رئيس الولايات المتحدة حتى الجزء اليسير منها! وبعد وصوله إلى القصر الملكي تحوّل إلغاء المصافحة التي حرص عليه فريق بايدن إلى نقطة في غير صالحه، فظهر الرئيس مجدداً في استقبالٍ بارد من قبل بن سلمان، وكان «سلام القبضة» كافياً لشن هجوم على بايدن، الذي وجد نفسه تحت ضغط شديد حتى من فريق الصحفيين الأمريكيين المرافقين للوفد الرسمي.

هل من نتائج؟!

قبل مغادرة بايدن للسعودية قدّم مسؤولوها الإجابات الوافية حول التفاصيل العالقة، وشكّل المؤتمر الصحفي الذي عقده وزير الخارجية فيصل بن فرحان- عقب انتهاء أعمال القمة- الصفعة المخجلة الأخيرة لواشنطن. ويمكن من خلال هذه التصريحات المتعددة تتبع ما فشلت الإدارة الأمريكية في تحقيقه في هذه الزيارة.
شكّل موضوع الضغط على السعودية لزيادة ضخ كميات من النفط في السوق بهدف خفض أسعاره إحدى القضايا المحورية التي تضعها الإدارة على جدول أعمالها، وعلى الرغم من محاولات وسائل الإعلام الأمريكية إبقاء نوع من الغموض حول نتائج المشاورات في هذه المسألة، إلا أن بن سلمان أنهى النقاش حولها بشكل صارم، ليعلن أن بلاده قادرة للوصول إلى 13 مليون برميل يومياً، بزيادة مليوني برميل فقط عمّا تنتجه حالياً، وهو «السقف الإنتاجي للسعودية» حسب بن سلمان، ليؤكد وزير الخارجية في مؤتمره الصحفي لاحقاً «أن موضوع إنتاج النفط لم يناقش في قمة جدّة»، وأضاف أن «أوبك+ تواصل عملها لتقييم الأسواق وما تحتاجه» وإن هذه المتابعات والمناقشات تتم في إطار أوبك+، وأشار عادل الجبير وزير الدولة السعودي للشؤون الخارجية، إلى أن مشكلة أسعار البنزين في الولايات المتحدة نتيجة لنقص في القدرة التكريرية في أمريكا أكثر من نقص النفط الخام، وإن السعودية ملتزمة في ضمان استقرار الأسواق العالمية. لتكون السعودية قدمت بهذه التصريحات إجابتين على أحد أهم طلبات الإدارة الأمريكية، الأولى: أن السعودية لن ترضخ للطلبات الأمريكية، وستزيد من المعروض العالمي بالشكل التدريجي الذي يلائم متطلبات السوق ومصالح السعودية، والإجابة الثانية، هي: أن المملكة متمسكة بالتنسيق مع روسيا في موضوع إنتاج وتسويق النفط، وإن أية زيادة في هذا الإنتاج لن تتم دون توافق أوبك+ وهو ما يعني أن أمل الولايات المتحدة في دفع السعودية بعيداً عن روسيا بات أقرب إلى الأوهام من أي وقتٍ مضى.
إحدى أكثر المسائل الملحة التي جرى تكرارها قبل الزيارة هي المسعى الأمريكي لإنشاء تحالف لمواجهة إيران، يضم بعض الدول العربية، تحديداً في منطقة الخليج، إلى جانب الكيان الصهيوني، لكن التصريحات السعودية جاءت في اتجاه معاكس تماماً للخطاب الأمريكي والصهيوني التصعيدي، فأشار بن سلمان في كلمته إلى أن «إيران دولة جارة تربطها بالمملكة علاقات دينية وثقافية»، ليضيف وزير الخارجية لاحقاً بأن: «يد المملكة ممدودة إلى إيران ونحرص على الوصول إلى علاقات طبيعية معها، وهو ما يرتبط بإيجاد حلول لمصادر قلقنا»، مشيراً إلى أن «الحوار والدبلوماسية هما الحل الوحيد لبرنامج إيران النووي» وأنه «لم يجر أي طرح أو نقاش لأي تعاون عسكري أو تقني مع اسرائيل» وأكد عدم وجود نقاش حول «تحالف رباعي مع إسرائيل»، وترافقت هذه التصريحات بخطوات ملموسة من قبل دول المنطقة اتجاه إيران، مثل: مصر والأردن والإمارات، لا تنسجم مع نهج واشنطن التصعيدي في هذا الملف.

ماذا عن التطبيع؟

خطت السعودية بالفعل خطوة باتجاه التطبيع مع الكيان عبر تفعيل «اتفاقية شيكاغو 1944 للطيران المدني» التي تسمح لشركات الطيران «الإسرائيلية» بالتحليق فوق أراضي المملكة، وعلى الرغم من تأكيدات فرحان بأن هذه المسألة لا ترتبط بالعلاقات الدبلوماسية مع الكيان، وأنها لا تعد خطوة باتجاه التطبيع، إلا أنها تعتبر كذلك في حقيقة الأمر، حتى وإن كانت منقوصة، وإنْ كان السعوديون قد قبضوا ثمنها بما يتعلق بجزيرتي تيران وصنافير.
رغم أنّ «الصفقة» قد تبدو رابحة من وجهة نظر انتهازية، إلا أنها تحمل إشارة واضحة إلى أنّ مجمل السلوك السعودي ينطلق من فهم «براغماتي» للتوازن الدولي الجديد، وليس قطعاً فهماً مبدئياً للمسألة. وكان الجبير قد أكد- في اللقاء الذي أجرته معه قناة «سي أن أن» الأمريكية- على أن موقف السعودية لم يتغير، وأنها لا تزال متمسكة بمبادرة السلام العربية، والتي تتبنى قرار مجلس الأمن لحل الدولتين وإعلان القدس عاصمة لفلسطين، وأشار إلى أن السلام مع الكيان سيكون نتيجة لتحقيق هذه الشروط لا خطوة سابقة لها. مع ذلك جاء فتح المجال الجوي أمام الطيران الصهيوني بمثابة رسالة مفادها: أن السعودية لا تعارض وجود تفاهمات محددة مع الكيان.
طرح موضوع التطبيع في هذه اللحظة بالذات يهدف إلى رفع مستوى العلاقة، والإعلان الرسمي عنها، بعد أن كانت هذه العلاقات قائمة بالخفاء منذ زمن، لكن إصرار السعودية حتى اللحظة على استبعاد التطبيع العلني من شأنه حرمان الكيان من حقنة للإنعاش يحتاجها بشدة، وتحرم الولايات المتحدة من إحراز نتيجة ذات تأثير حقيقي في المنطقة، ناهيك عن أنّ جوهر المسألة بالنسبة للسعودية متعلق هذه الأيام بالحوار الجاري علناً وسراً مع إيران، والذي يمكن لأي تقارب إضافي بين السعودية والكيان أن ينسفه وأن ينسف أمن المنطقة بأسرها... ما يعني بالمحصلة، وبغض النظر عن الانتهازية والبراغماتية والنوايا المبيتة: أنّ الاتجاه الموضوعي هو على العكس تماماً مما تحاول الولايات المتحدة ومعها الكيان من الترويج له، أي على العكس من القول بأنّ الكيان يندمج مع المنطقة؛ حقيقة الأمر أنه يتجه نحو عزلة كاملة مع كل تقارب بين الدول الإقليمية في المنطقة، السعودية وإيران وتركيا ومصر بشكل خاص...

واشنطن مكسورة أمام الجميع

ستكون لهذه الزيارة ارتدادات كبيرة في العالم، ربما يكون أقساها داخل الولايات المتحدة، فقد أظهرت القمة- وإلى جانب نتائجها التي تقارب الصفر- أن الولايات المتحدة بوصفها ضيف عادي في المنطقة لا يلقى الاحترام والتقدير الكافي، بل إن ضحكات محمد بن سلمان وفريقه بعد سؤال وجهته إحدى الصحفيات الأمريكيات إلى بايدن «هل ما تزال السعودية دولة منبوذة؟» في اللحظة التي يجلس فيها وفد أمريكي على أرفع المستويات أمام المسؤولين السعوديين، أظهر المستوى المخجل الذي وصلت إليه الولايات المتحدة حين تسخر الصحافة الأمريكية من رئيس البلاد في زيارة رسمية، ويضحك الوفد المقابل لما يجري! بل الأكثر من ذلك أن المسؤولين السعوديين نجحوا في استغلال المزاج المعادي لبايدن في الولايات المتحدة، وقدموا لوسائل الإعلام الأمريكي تصريحات تكذّب كل ما جاء على لسانه تقريباً. محمد بن سلمان حثّ الرئيس الأمريكي لقبول السعودية بقيمها المختلفة «وإلا لن يبقى لواشنطن سوى دول الناتو» في إشارة إلى هشاشة وضعف واشنطن وحلفائها.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1079