هل نحتاج إلى تدمير «مؤسسة العائلة»؟

هل نحتاج إلى تدمير «مؤسسة العائلة»؟

يرتفع منذ فترة غير قصيرة، وعبر العالم بأسره، الحديث الموجه ضد العائلة كمؤسسة؛ ويستند الحديث إلى إشكالاتٍ واقعية ضمن هذه المؤسسة في أحيان عديدة، ولكنّه يذهب بعيداً نحو طروحات شديدة التطرف، وشديدة الخطورة، وتصب من حيث لا يريد الكثيرون في سلة «النخبة العالمية» التي تضع أمامها هدفاً أساسياً هو تفتيت المجتمع حتى آخر خلية فيه، لإنهاء أي احتمالات لمقاومتها...

ابتداءً من الستينيات من القرن الماضي، وانطلاقاً من أوروبا والولايات المتحدة، وتحت يافطات تدّعي أنها «يسارية» و«تقدمية»، جرى الترويج بكثافة لضرورة «التحرر من مؤسسة العائلة» وصولاً إلى تدميرها، وجرى ذلك تحت مختلف أنواع التبريرات والحجج، ابتداءً من التلطي وراء حقوق المرأة والطفل، ووصولاً إلى الحديث عن «حق الفرد» بالعيش متفرداً دون أية «تأثيرات اجتماعية»! وعن كون مؤسسة العائلة مجرد مؤسسة للقمع الاجتماعي منذ نشأتها!

خطف خلفاً

إذا أردنا تثبيت بضع نقاط علّامٍ ضمن مسار التفتيت الشامل، فإنّ موجة الستينيات كانت البداية فحسب، وقد تلتها معالم أساسية على الطريق نفسه، ربما أهمها ثلاثة:

  • مؤتمر روما 1975 (وهو النسخة الأقدم من مؤتمر دافوس الذي يضم «النخبة العالمية»). في ذلك المؤتمر تم إقرار جملة من السياسات تحت العنوان العريض للنيومالتوسية؛ والذي انطلق من اعتبار أساسي هو أنه من غير الممكن استمرار التحكم والسيطرة من قبل هذه النخبة في حال استمر النمو السكاني على حاله، وبات من الضرورة من وجهة نظرهم وضع حد للنمو السكاني العالمي. بين الوسائل التي جرى اعتمادها وسائل مباشرة (من نمط الحروب الأهلية والأوبئة وغيرها)، وأخرى غير مباشرة (اقتصادية بالدرجة الأولى تهدف إلى إنقاص وسطي العمر المطلق، وضمناً اتجاهات متطرفة في سياسات تحديد النسل وصولاً إلى توسيع مجالات «التعقيم» كشرط للحصول على العمل في بعض البلدان). وركزت الخطة على آسيا وبعض بلدان إفريقيا وأمريكا اللاتينية بوصفها الحامل الأساسي للكتلة البشرية الإجمالية. ويتضمن هذا التوجه بطبيعة الحال إعادة نظر جذرية في دور العائلة كمؤسسة.
  • النيوليبرالية: نهاية السبعينيات ومطلع الثمانينيات، وعلى يد الثنائي تاتشر ريغان، جرت نقلة إضافية؛ فإضافة إلى إعادة تعريف دور جهاز الدولة بعلاقته مع المجتمع، فقد بدأ العمل بشكل علني ليس على نسف أي دورٍ اجتماعي إيجابي لجهاز الدولة فحسب، بل وعلى نسف فكرة المجتمع من أساسها، والتعامل مع المجموع البشري بوصفه أفراداً وعائلات... وقد طبقت تاتشر هذا الاعتقاد بالحديد والنار عبر قمعها الوحشي لإضرابات العمال وعبر العمل على تفتيت أي مجال لتضامن العمال فيما بينهم سواء على المستوى السياسي أو المستوى النقابي. وهذه كانت خطوة مهمة سيليها العمل على نسف العائلة نفسها، ولعل أهم ما يمكن تذكره في هذا الإطار هو قول تاتشر الشهير: «لا يوجد شيء اسمه المجتمع. هناك أفراد من الرجال وأفراد من النساء وهناك عائلات».
  • كورونا وإعادة الإقلاع العظيم: المرحلة الثالثة التي تستهدف تفتيت آخر خلايا المجتمع، وصولاً إلى الفرد المعزول والمحاصر، هي التي نعيشها حالياً؛ ليس بسبب كورونا، بل باستخدام «إجراءات كورونا»... وهي التي نظّر لها بشكل شديد الصراحة والوقاحة كلاوس شفاب، رئيس ومؤسس منتدى دافوس، في كتابيه (الثورة الصناعية الرابعة 2016، وكوفيد-19 إعادة الإقلاع العظيم 2020).

ضمن التطور التاريخي لهذا الاتجاه، جرى إدخال عناصر إضافية إليه، تصب في الإطار نفسه، مثل تحويل موضوع المثليين والإجهاض والموت الرحيم وتحديد النسل وغيرها من الأمور من مستواها الاجتماعي إلى «قضايا سياسية» وظيفتها الحلول محل القضايا الأكثر أساسية وعلى رأسها قضية توزيع الثروة. وكان حقل التجارب الأهم في هذا الإطار هو الولايات المتحدة الأمريكية نفسها التي جرى تكييف «العملية الديمقراطية» ضمنها لتصبح بجزء أساسي منها استفتاءً حول الموقف من هذه «القضايا السياسية».

اتجاهان متطرفان

في منطقتنا الأوسع، أي في عموم الشرق، وبتأثير عوامل ثقافية وتاريخية عديدة، وكذلك لأنّ الرأسمالية في منطقتنا أخذت أشكالاً خاصة بما في ذلك أشكالاً محددة لجهاز الدولة، ظهر اتجاهان متطرفان في التعامل مع مؤسسة العائلة:

الاتجاه الأول (عدمي): يوافق بالكامل على طروحات «النخبة» حول العائلة ويسعى إلى نسفها وينظر باستعلاء إلى كل قيم التعاون والقيم الاجتماعية الموروثة ويضعها كلها في سلة واحدة.

الاتجاه الثاني (السلفي): الذي يرفض الطروحات الغربية جملة وتفصيلاً ويدعو للعودة بالزمن إلى الوراء ونحو شكل للعائلة شديد التقليدية والتسلط، وقمعي اتجاه المرأة والأطفال بشكل خاص.

الاتجاهان خطيران ويلتقيان في نتائجهما في نهاية المطاف، ويصلان نحو تدمير العائلة والمجتمع؛ بشكل معلن (كما في الاتجاه العدمي)، أو بتدميرها من الداخل وتحويلها إلى مؤسسة تكاذب ونفاق، عبر محاولة عزلها عن الواقع وتطوراته (كما في الاتجاه السلفي).

الثالث المرفوع!

ما نعتقد أنه ينبغي التعامل معه بشكل جدي في هذه المسألة، هو الأمور التالية:

أولاً: ينبغي فهم الدور التاريخي لمؤسسة العائلة ابتداء من تشكلها الأول مع ظهور الملكية الخاصة، وفهم أنها لعبت أدواراً تقدمية وأدوراً رجعية، وليست شيئاً مقدساً بذاته، بل يجب فهمها في إطار كل مرحلة تاريخية محددة.

ثانياً: ضمن المرحلة الراهنة التي نعيشها، وفي سياق عملية تذرير وتفتيت المجتمعات لتسهيل التحكم بها، فإنّ مؤسسة العائلة هي إحدى أهم أهداف النخبة العالمية (وهو ما أشرنا إليه أعلاه). ولذا فإنّ مؤسسة العائلة تلعب دوراً معيقاً لعمليات التفتيت الكبرى الجارية، والتي تهدف في نهاية المطاف إلى تحطيم أي نوع من أنواع التضامن الاجتماعي وصولاً إلى تحويل البشرية بأسرها إلى أفراد معزولين وطيعين بأيدي المنظومات الحاكمة.

ثالثاً: تدمير العائلة هو الخطوة الأخيرة تقريباً في تدمير مختلف أنواع مؤسسات التضامن الاجتماعي، وذلك بعد أن جرى قَسم معظم النقابات وإفسادها وتمييعها، وكذلك الأمر مع غالبية الأحزاب، ومع غيرها من المؤسسات.

رابعاً: الحفاظ على العائلة كإحدى خلايا التضامن الاجتماعي، يتطلب تخليصها من العوامل الرجعية المختلفة التي تتحكم بها، وهذا يتطلب نضالاً حقيقياً من أجل حقوق المرأة والطفل، وحقوقهما الاقتصادية والاجتماعية على الخصوص، وضمناً القانونية وإلخ.

خامساً: إذا كانت محاولات تدمير العائلة، وأهم من ذلك تدمير التضامن الاجتماعي، تستند إلى تفريق المظلومين عبر تفريق المظلوميات عن بعضها ورفع بعضها فوق الآخر: (بشكل خاص التركيز على مظلوميات الجندر ومظلوميات التمييز وتقليل أهمية المظلومية الاقتصادية الاجتماعية)، فإنّ العمل المعاكس، التقدمي، ينبغي أن ينطلق من توحيد المظلومين انطلاقاً من المظلومية الأساسية الاقتصادية الاجتماعية التي تحوز بموجبها أقلية الـ1% القسم الأعظم من تعب وعمل الأغلبية الساحقة، والمسحوقة، ولكن بالتوازي مع الإقرار بالمظلوميات الأخرى والعمل على حلها بالتوازي مع معرفة أنّ حلها جذرياً لا يمكن أن يتم موضوعياً إلى كجزء من حزمة متكاملة حجر العقد فيها هو إنهاء المظلومية الاقتصادية-الاجتماعية...

يمكن أن نشير بشكل سريع أيضاً، إلى أنّ ما ينطبق بالإطار العام على مؤسسة العائلة، ينطبق أيضاً على مؤسسة الدولة وكذلك على القيم والتقاليد؛ فالتعامل مع أي من هذه المؤسسات التاريخية، ينبغي أن يكون تعاملاً تاريخياً، أي متحركاً، يراها في سياقها التطوري، ويتخذ منها موقفاً موضوعياً على أساس المهمة الفعلية التي تلعبها ضمن الصراعات الجارية...

(English version)

معلومات إضافية

العدد رقم:
1053
آخر تعديل على الجمعة, 21 كانون2/يناير 2022 21:19