هل هنالك سياسة أمريكية اتجاه سورية؟!
ريم عيسى ريم عيسى

هل هنالك سياسة أمريكية اتجاه سورية؟!

تفصلنا فقط بضعة أيام عن نهاية الشهر العاشر منذ تولي إدارة بايدن السلطة، ولا يزال معظم الذين يتابعون ملف سورية مرتبكين، لأن الإدارة الحالية ليست لديها بعد سياسة واضحة أو معلنة اتجاه سورية، وهذا بشكل عام هو نتيجة التصريحات والمواقف التي تبدو متناقضة، مما يؤدي إلى الاستنتاج من قبل الكثيرين: أن هناك اضطراباً في السياسة، أو أنه ليست هنالك سياسة اتجاه سورية على الإطلاق...

إذا نظرنا بتمعّن إلى سلوك الولايات المتحدة في سورية والمنطقة بشكل عام خلال السنوات القليلة الماضية، يمكننا تمييز نمط متكرر إلى حد ما، وهو يتكون من حوادث ومسائل مختلفة، عندما يتم النظر إليها بشكل فردي يمكن الوقوع في الاستنتاج الخاطئ الذي أشرنا إليه بداية، أي استنتاج أن الحاكم الأساسي للسياسة الأمريكية اتجاه سورية هو الاضطراب، أو أنه ليست هنالك سياسة محددة من الأساس.
ما يدفع لتقوية انتشار وهم الاضطراب الشامل وعدم وجود سياسة محددة، هي تصريحات لمسؤولين أمريكيين وأحياناً مسؤولين سابقين، وتصريحات رسمية وغير رسمية، لا تتوافق تماماً مع بعضها البعض، بل وتأتي أحياناً متناقضة فيما بينها. تضاف إلى ذلك طبقة إضافية من الغموض الكافي، بحيث يمكن لأطراف مختلفة أن تفهم التصريحات المختلفة بشكل مختلف تماماً، وربما حتى أن يفهمها أحد الأطراف بشكل معاكس تماماً لفهم طرف آخر لها.


أمثلة...

قبل محاولة الإجابة عن «لماذا؟»، قد يكون من المفيد إلقاء نظرة على بعض الأمثلة:

  • بدأ الوجود الأمريكي في الشمال الشرقي وسورية بشكله العسكري في أيلول 2014، بذريعة محاربة داعش، عبر ما يسمى بـ «التحالف الدولي». ووفقاً لهذه «المهمة»، قالت واشنطن: إنها دعمت قوات سورية الديمقراطية (قسد) كشريك محلي في القتال ضد داعش. في ربيع 2019، أُعلن ترامب أن تنظيم الدولة الإسلامية «هُزم جغرافياً»، لكن بقي آلاف المقاتلين في المنطقة. وسبق ذلك في كانون الأول 2018 ما كان يُفترض أنه إعلان مفاجئ من الرئيس الأمريكي- آنذاك ترامب- عن انسحاب القوات الأمريكية من سورية، وأعقبت ذلك تصريحات وتعليقات من مسؤولين آخرين على عكس ذلك. منذ ذلك الحين، صدرت تصريحات وأفعال غامضة بشأن البقاء في سورية والانسحاب منها، كان لها وقع مختلف وردود أفعال مختلفة من الأطراف السورية، وما تزال المسألة نفسها مستمرة حتى اللحظة.
    أحد الجوانب الأخرى من الوجود الأمريكي في سورية و «دعم» قسد، هو أن الولايات المتحدة كانت تنسق مع تركيا، وتقدم ضمانات بالحماية لقسد كشريك لها عن طريق «الوساطة» مع تركيا. في خريف عام 2019، عندما بدا الهجوم التركي في شمال شرق سورية وشيكاً، أعلنت الولايات المتحدة أنها لا تدعم هذا، وبالرغم من ذلك، في 6 تشرين الأول 2019، انسحبت القوات الأمريكية من المناطق الحدودية، مما أفسح المجال لتركيا لبدء ما يسمى بـ «عملية نبع السلام» في 9 تشرين الأول 2019، لتنتهي بالسيطرة التركية على شريط حدودي أُجبرت قسد على الانسحاب منه.
    خلال مؤتمر صحفي مع مسؤولين كبار في وزارة الخارجية الأمريكية في 10 تشرين الأول، أي بعد يوم واحد من بدء العملية التركية، قال أحد المسؤولين: «موقفنا هو أنه كان من الخطأ بالنسبة لتركيا أن تفعل هذا، وأننا سنبذل قصارى جهدنا لإيقافه والانطلاق من هناك، لأن لدينا عملاً مهماً للغاية مع قوات سورية الديمقراطية، ولدينا عمل مهم للغاية مع تركيا». وفيما يخص العلاقة مع قسد، فإن التصريحات والإجراءات الأمريكية تظهر داعمة أحياناً، لكنها في الوقت ذاته تترك هامشاً واسعاً للمناورة، بما في ذلك التصريح بين الآونة والأخرى: أن الدعم الأمريكي لقسد «محدود في إطار الحرب على داعش».
  • بدأت العقوبات الأمريكية على سورية قبل بضعة عقود، لكنها زادت بشكل كبير منذ عام 2011، ووصلت في نهاية المطاف إلى «قانون قيصر» سيئ السمعة في حزيران من العام الماضي، والذي كان له أكثر التداعيات كارثيةً على الاقتصاد السوري (سرعة انهيار الاقتصاد منذ فرض قانون قيصر بلغ 34 ضعف ما كان عليه في السنوات السابقة من الأزمة). رسمياً، تواصل الولايات المتحدة موقفها «الصارم» بأن العقوبات الاقتصادية لن يتم رفعها ما لم يتم استيفاء شروط معينة. بالرغم من ذلك، هناك كيانات وأفراد يتم إعفاؤها من العقوبات بين الحين والآخر، دون تحديد السبب، ناهيك عن الاستثناءات غير المباشرة من خلال أمور، مثل: مشروع خط الغاز «العربي» أو الأنشطة الاقتصادية بين النظام وبعض دول المنطقة، والتي يمكن بسهولة أن تخضع لإجراءات من قبل الولايات المتحدة بموجب «قانون قيصر»، لكنها لم تخضع لذلك.
  • «التطبيع مع النظام» (كما يسميه البعض) من قبل الدول العربية، والذي يظهر من خلال بعض المحاولات الأخيرة للتقارب بين النظام السوري وبعض الأنظمة العربية، أبرزها: خطوات من قبل الأردن والإمارات مؤخراً. في الوقت نفسه، كانت المواقف والتصريحات الرسمية الأمريكية، أنه لن يكون هناك «تطبيع» مع النظام وأنه مستاءة من هذه التصرفات الأخيرة من قبل بعض الأنظمة العربية، لا سيما التصريحات حول الزيارة الأخيرة لوزير الخارجية الإماراتي إلى دمشق، بما في ذلك تعليقات من قبل المتحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية خلال مؤتمر صحفي في 9 تشرين الثاني، عندما سُئل عن الزيارة: «نحن قلقون من التقارير حول هذا اللقاء والإشارة التي يرسلها. كما قلنا من قبل، لن تعرب هذه الإدارة عن أي دعم لجهود التطبيع أو إعادة التأهيل... سأترك الأمر لشركائنا، سأترك الأمر لحلفائنا لوصف موقفهم من سورية، موقفهم من نظام الأسد. فيما يتعلق بموقفنا من نظام الأسد… لن نقوم بتطبيع أو ترقية علاقاتنا الدبلوماسية مع نظام الأسد، كما أننا لا ندعم تطبيع أو ترقية علاقات الدول الأخرى».


هل هناك سياسة أمريكية أم لا؟

في حين أن الأمثلة المذكورة أعلاه مبسطة للغاية، ويمكن أن يكون كل منها موضوع تحليل ومناقشة متعمقين، إلا أنها معبّرة تماماً؛ حيث إنها توضح نمطاً للطريقة التي تتعامل بها الولايات المتحدة مع ملف سورية، وذلك من خلال اللعب والبناء على التناقضات بين ما يتم التعبير عنه أو التصريح به (سواء رسمياً أو عبر وسائل الإعلام) وبين ما تفعله فعلياً على الأرض. بل إن هناك مستوى من التناقض أو هامشاً من الغموض في البيانات والتصريحات، بحيث يمكن للأطراف المختلفة- السورية والإقليمية، وحتى الدولية- أن يكون لكل منها فهم مختلف تماماً، وحتى فهم معاكس تماماً.
القول: إن الحاكم الأساسي لسياسة الولايات المتحدة اتجاه سورية هو الاضطراب والتخبط، أو القول: إنه لا توجد سياسة شاملة اتجاه سورية، ليس خاطئاً كليّاً، على الرغم من أن هذه في حد ذاتها هي السياسة، والتي تساهم في الشيء نفسه الذي كانت وما زالت الولايات المتحدة تحاول القيام به منذ سنوات، وبشكل مكثّف مؤخراً، وهو أمر ناقشناه مراراً وتكراراً: محاولة ضرب الجميع بالجميع، سواء أكان ذلك سورياً- سورياً، أو سورياً- إقليمياً، أو إقليمياً- إقليمياً.
بالتالي، لتحديد ما إذا كانت هناك سياسة أمريكية اتجاه سورية، لا ينبغي النظر فقط إلى ما يتم التصريح به سواء رسمياً أو في وسائل الإعلام، ولا يمكن النظر فقط إلى ما تقوم به على الأرض، لأنه في كثير من الأحيان، هناك تناقضات بين هذه وتلك.
الأهم من ذلك، هو النظر إلى النتائج على الأرض ضمن منظار أوسع، هو منظار الصراع بمستواه الدولي الإستراتيجي، وبغير هذا المنظار فإنه من المستحيل وضع اليد على الغايات الفعلية من «التكتيكات» المختلفة، بل وأكثر من ذلك، إنّ هذه التكتيكات معدة أساساً لخلط الحابل بالنابل وإغراق الجميع بالجزئيات بعيداً عن الاتجاه الإستراتيجي العام.
ضمن هذا الاتجاه، وبغض النظر عن الأدوات (الاستنزاف العسكري في البداية، ولاحقاً الاستنزاف الاقتصادي، ثم إضافة تكريس تقسيم الأمر الواقع، وتكريس إبقاء الوضع الحالي على ما هو عليه من خلال دعم مباشر وغير مباشر لسلطات الأمر الواقع، بما فيه الكفاية لتبقى على ما هي عليه في هذه الحالة من التوازن المدمِّر)، هذه الأمور تهدف إلى الوصول إلى النتيجة نفسها، والتي هي في الحد الأدنى: إنهاء مكانة سورية التاريخية ودورها في المنطقة كلاعب رئيسي، إن لم تكن اللاعب الرئيسي في وجه «إسرائيل» والمشاريع ذات الصلة في المنطقة. وفي أحسن الأحوال، من وجهة نظر الولايات المتحدة، ستكون النتيجة إنهاء الوجود السوري كوحدة جيوسياسية.
إذا وسّعنا الزاوية قليلاً لننظر إلى المنطقة ككل، مع كل تفاصيل ما حدث خلال السنوات القليلة الماضية، بما في ذلك جهود «التطبيع»، أي ذلك المتعلق بالكيان الصهيوني، فإنّ الهدف هو اختراع محور إقليمي، وبناءً على المكونات المستهدف تشميلها في هذا المحور، فإن الهدف المباشر هو مواجهة الإيراني والتركي في المنطقة، ولكن من ورائهما والأهم بالنسبة للولايات المتحدة، القوى الصاعدة- وتحديداً روسيا والصين- في التوازن الدولي الجديد الذي يمر الآن بتغييرات كبيرة...
بهذا المعنى، ربما من الصحيح تماماً القول: إنه ليست هنالك سياسة أمريكية اتجاه سورية، لأنّ الأصح قوله: أنّ هنالك سياسة ثابتة اتجاه كامل منطقة الشرق الأوسط، مشتقة من سياسة دولية شاملة في إطار الصراع مع الصين وروسيا... هل هنالك سياسة أمريكية اتجاه سورية؟ نعم بالتأكيد، ولكن كجزء من سياسة أوسع، وهذا نفسه ما يمكنه أن يفسر ما يبدو تخبطاً وتناقضاً في كثير من الأحيان...

(النسخة الانكليزية)

معلومات إضافية

العدد رقم:
1044
آخر تعديل على الخميس, 18 تشرين2/نوفمبر 2021 15:28