الانسحاب الأمريكي من سورية... متى سيتم وكيف سيتم؟
ريم عيسى- سعد صائب ريم عيسى- سعد صائب

الانسحاب الأمريكي من سورية... متى سيتم وكيف سيتم؟

إذا تركنا التصنيفات المختلفة جانباً ونظرنا إلى مسألة واحدة هي: أين يوجد العسكر الأمريكي ضمن بلدان المنطقة المسماة «الشرق الأوسط»، فإننا سنرى أنّ العسكر الأمريكي موجود تقريباً في كل تلك البلدان؛ ضمن قواعد ثابتة للناتو أو ضمن عمليات «تحالفية» و«تدريبية» وإلى ما هنالك، أو بشكل عدواني مباشر.

ضمن خارطة الوجود العسكري الأمريكي في المنطقة، يمكننا أن نميز ثلاثة بلدان يوجد فيها الأمريكي وجوداً تنطبق عليه المواصفات التقليدية للوجود العدواني وللاحتلال العسكري؛ هذه الدول هي: أفغانستان (منذ 2001)، العراق (منذ 2003)، وسورية (منذ 2014).
الميزة الثانية للوجود العسكري الأمريكي في هذه البلدان الثلاثة، أنّ وجوده حديث العهد نسبياً، وارتبط بمرحلة كانت سمتها الأساسية هي التأزم الاقتصادي والسياسي المتعمق سنة وراء الأخرى. وبكلام آخر، فهو وجود له طابع الامتداد العسكري إلى ما وراء الخطوط التقليدية التي كانت مرسومة في منطقتنا أيام الحرب الباردة.
ما نراه اليوم هو أنّ الولايات المتحدة باتت خارج أفغانستان عملياً، وانسحابها من العراق جارٍ على قدم وساق، بل وتحت النار التي باتت تطال ليس الوجود الأمريكي في العراق فحسب، بل وبدأت ترتفع حرارتها بشكل واضح تحت أقدام الأمريكي في سورية.
هذه المؤشرات وغيرها مما سنمر عليه في هذه المادة، يحسم السؤال حول هل ستنسحب القوات الأمريكية من سورية ضمن آجال قريبة أم لا، ويضع مكانه على طاولة البحث الفوري سؤالين آخرين: متى سيتم الانسحاب، وكيف؟

أمريكا تنسحب وليس ترامب

لا ضير من التذكير بأنّ كثراً من المؤمنين بالاستثنائية والعظمة الأمريكية، قد أصرّوا خلال سنوات ترامب على نسب نوايا الانسحاب إليه بالذات، سواء كانت نوايا انسحاب من أفغانستان أو العراق أو سورية. وليس خافياً الهدف الأساسي وراء ذلك: محاولة التعمية عن التراجع الأمريكي العام على المستوى العالمي، لأنّ حكام منطقتنا وقسماً كبيراً من «معارضاتهم» مصمَّمون بشكل مسبق على العمل والحياة ضمن إحداثيات عالم تحكمه الولايات المتحدة الأمريكية، وغير قادرين على التأقلم مع عالم آخر جديد...
إحدى المسائل التي ضللت أصحاب الأحلام ببقاء الأمريكي، هي أنّ شعار «إعادة القوات إلى الوطن» كان شعاراً مشتركاً حمله آخر ثلاثة رؤساء أمريكيين طوال 12 عاماً، ودون أن يتم تطبيقه بشكل فعلي، بل وما كان يجري في معظم الأحيان هو العكس تماماً، أي تعزيز الوجود الأمريكي.
ما عمّق التضليل أكثر هو محاولات تصوير «عهد ترامب» بوصفه جنوناً محضاً خارج كل تاريخ، وخارج كل إستراتيجية عامة للدولة الأمريكية. وعبر هذه النقطة الأخيرة بالذات جرت محاولة هضم عمليات الانسحاب التي أجراها ترامب خلال آخر سنة ونصف تقريباً من ولايته، وبين تلك الانسحابات التي فصّلها مقال في قاسيون نشر في آب 2020 بعنوان «سباق أمريكا العجوز مع الزمن... كيف تحضر أمريكا لانسحابها من سورية؟»، نذكر ما يلي:
10 آذار/2020: انسحاب القوات الأمريكية من قاعدتين عسكريتين تقعان في ولايتي هلمند جنوب أفغانستان، وهرات في غربها.
19 آذار/2020: تمّ تسليم «قاعدة القائم» الواقعة في محافظة الأنبار قرب الحدود العراقية- السورية.
26 آذار/2020: جرى تسليم «قاعدة القيارة» في جنوبي الموصل.
29 آذار: خرجت القوات الأمريكية من «قاعدة ك-1» في كركوك وسلّمتها للقوات الأمنية العراقية.
4 نيسان/2020: سُلّمت «قاعدة التقدّم» الجوية والتي تُعرف باسم «قاعدة الحبّانية» في محافظة الأنبار.
15 تموز/2020: المتحدث باسم وزارة الدفاع الأمريكية «البنتاغون»، جوناثان هوفمان، يعلن أن الولايات المتحدة قد أتمّت حتى تاريخه الانسحاب من 5 قواعد عسكرية لها في أفغانستان، وخفّضت حجم قواتها.
25 تموز/2020: قوات التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة تسلم «قاعدة بسماية» العسكرية في جنوب شرق البلاد إلى القوات الأمنية العراقية بعد ساعات من تعرضها لهجوم بـ 4 صواريخ من نوع كاتيوشا.
30 تموز/2020: ترامب يعلن قراره سحب قرابة 12000 جندي أمريكي من ألمانيا، نصفهم سيعود إلى الولايات المتحدة والنصف الآخر سيعيد التموضع في إيطاليا وبلجيكا.
منذ آب 2020، تم إجراء المزيد من عمليات الانسحاب التي استمرت بالتسارع مع استلام بايدن لمنصبه في الشهر الأول من هذا العام، بما في ذلك أحدث انسحاب رئيسي من أفغانستان في وقت سابق من هذا الشهر، عندما أخلت القوات الأمريكية قاعدة باغرام الجوية، أكبر قاعدة أمريكية في أفغانستان.
وقد جرى الإعلان عن أنّ تاريخ 31 آب 2021 هو موعد انتهاء العملية التي كانت القوات الأمريكية وحلف شمال الأطلسي يوجدان في ظلها في أفغانستان، والمسماة «عملية حارس الحريات- Operation Freedoms Sentinel»، وأن وجود القوات الأمريكية وقوات الناتو سيتم إنهاؤه بالتاريخ نفسه.

انسحاب تحت النار

بين التطورات المهمة خلال العام الماضي، والتي تكثفت في الشهرين الماضيين، هي زيادة استهداف القوات والقواعد الأمريكية في كل من العراق وسورية. بالأرقام، ووفقاً لإحصاءات عدة وكالات، فإنه منذ أن تولى بايدن منصبه في 20 كانون الثاني من هذا العام، أي خلال أقل من ستة أشهر، كان هناك ما لا يقل عن 25 هجوماً تم الإعلان عنها (17 صاروخياً، و8 مسيّرات) ضد أهداف أمريكية في العراق وسورية. بالمقابل، فقد ردّت الولايات المتحدة مرتين فقط، وهذا مؤشر مهم أيضاً.
وإذا كنا بدأنا هذه الفقرة التي عنوناها بالانسحاب تحت النار بالحديث عن النار الفعلية والمباشرة التي يتلقاها الوجود الأمريكي في العراق وسورية، (وليس من الصعب أن نأتي بأمثلة عديدة مشابهة من أفغانستان)، فإنّ النار الأكبر والأضخم والأكثر تهديداً للأمريكي، والتي تدفعه للانسحاب من حيث المبدأ، هي بالضبط ما عبّر عنه بايدن في إحاطة قدمها يوم 8 تموز الماضي. في هذه الإحاطة، وضّح بايدن ضرورة الانسحاب الفوري من أفغانستان، رابطاً ذلك بشكل مباشر بحاجة الولايات المتحدة إلى «التركيز على تعزيز نقاط القوة الأساسية لأمريكا لمواجهة المنافسة الإستراتيجية مع الصين والدول الأخرى، وهذه المنافسة هي التي ستحدد مستقبلنا حقاً».
وما ينطبق على الانسحاب من أفغانستان ينطبق على الانسحاب من كامل منطقتنا، والذي لن يكون «إعادة للقوات إلى الوطن»، بل إعادة تموضعٍ هدفها تجميع القوات والمصاريف لتصب جميعها ضمن المعركة الأمريكية الأساسية مع الصين بالدرجة الأولى. (ولا ينبغي أن يُفهم من كلامنا أننا نقصد أن هنالك حرباً مباشرة ستجري بين البلدين، بل المقصود بالضبط هو أنّ الأمريكي مضطر إلى تكثيف موارده الاقتصادية المتناقصة وقواه المتناقصة ليركّزها ضمن المعركة الأهم، وهذا يتضمن بشكل أساسي إثارة أكبر قدر ممكن من الفوضى، بما في ذلك الثورات الملونة والأعمال العنيفة والإرهابية، على كل تخوم الصين وداخلها: عبر بحر الصين وعبر الهند وباكستان وفيتنام وهونغ كونغ والتيبت وتايوان... وإلخ).

1027-13

الانسحاب من العراق

قبل أيام قليلة، عقب اجتماع بين مسؤولين أميركيين وعراقيين في العراق، أشارت مراسلة بي بي سي خلال عدة تقارير إلى أن هناك مناقشات جارية حول خطط الانسحاب الأمريكي من العراق...
من المثير للاهتمام، أن مراسلة بي بي سي حذفت تغريدة لها قالت فيها: «كما أخبرتني مصادري، فإنّ منسق البيت الأبيض في الشرق الأوسط، بريت ماكغورك أبلغ المسؤولين العراقيين أن القوات الأمريكية ستنسحب من العراق (خطوة بخطوة)». وفي تغريدة لاحقة لا تزال متاحة، تخفف المراسلة اللهجة قائلة: «الانسحاب من العراق لن يكون مثل ما حدث في أفغانستان وسيكون خطوة بخطوة. وسيتم الاتفاق على الجدول الزمني لذلك خلال زيارة رئيس الوزراء العراقي الرسمية إلى واشنطن». وبدروه فقد غرّد المكتب الإعلامي لرئيس الوزراء العراقي حول «مناقشة آليات انسحاب القوات المقاتلة من العراق».
بغض النظر عن النفي والتأكيد، والتقارير المتضاربة حول ما تمت مناقشته فعلياً، فإن عمليات الانسحاب الفعلية وتسليم القواعد قد بدأت فعلاً قبل أكثر من عام، وتسارعت مؤخراً، وخاصة مع ارتفاع حدة النيران المباشرة، وبات الحديث يجري عن فترة لا تزيد عن بضعة أشهر تفصلنا عن الانسحاب الكامل من العراق...

ماذا عن سورية؟

ارتبط الوجود الأمريكي في سورية بوجودها في العراق منذ اللحظة الأولى؛ في البداية، كان الوجود الأمريكي المباشر بشكل أساسي من خلال التحالف الدولي لمواجهة داعش، مما جعله مرتبطاً بكل من العراق وسورية معاً. ولكن الأهم هو أنّ نقطة الانطلاق العملية، كانت أنّ الولايات المتحدة موجودة بالفعل في العراق، وبالتالي فقد كان وجودها في سورية، منذ 2014، هو بطريقة أو بأخرى، استطالة لوجودها في العراق؛ فمراكز الإمداد وخطوط الدعم اللوجستي والنقاط والقواعد الأكثر حصانة هي تلك الموجودة في العراق، وليس ممكناً بحال من الأحوال استمرار الوجود الأمريكي في سورية في حال جرى الانسحاب من العراق. وأكثر من ذلك، يمكننا القول إنّ الحديث عن انسحاب أمريكي من العراق، بات يتضمن (من وجهة النظر العسكرية والعملية اللوجستية على الأقل) الحديث عن الانسحاب من سورية بوصفه تحصيل حاصل.
وعندما يتعلق الأمر بانسحاب الولايات المتحدة من سورية، فمن المهم للغاية أن نحاول فهم كيف سيتم ذلك، وضمن أية توقيتات، وعلى أية خلفيات؟
ربما من المفيد في هذا السياق، أن نقتبس من افتتاحية قاسيون رقم 1024 وعنوانها «رهان الوطنيين السوريين»، والتي ناقشت المنطق الأمريكي في الانسحاب عموماً ومن سورية خصوصاً... حددت الافتتاحية المذكورة ما تعتقد أنه ثلاثة محاور أساسية لاستهدافات وآليات عملية الانسحاب الأمريكي من منطقتنا، وهي كالتالي:
أولاً: محاولة الوصول إلى صفقات تؤمّن لها (لواشنطن) أقل الخسائر ضمن عمليات الانسحاب التي تقوم بها، والتي ستقوم بها خلال الفترة القادمة، وخاصة من منطقتنا. والأفضل– من وجهة النظر الأمريكية- أن يكون في كلٍ من تلك الصفقات «مسمار جحا» يمكّن الأمريكي من العودة لاحقاً، حين يصبح قادراً على ذلك (ضمن افتراضه أنه سيتغلب في وقت ما على أزمته وتراجعه العام).
ثانياً: عمليات الانسحاب غرضها هو تركيز القوى صوب الصين التي تمثّل «الخطر الأكبر».
ثالثاً: في سياق عمليات الانسحاب- الاضطرارية بالمعنى التاريخي- تحاول واشنطن عقد صفقات مع الروس خاصة، ضمن أملٍ عبثي هو أن تضعف التحالف الروسي- الصيني أو على الأقل أن تحيّد الروس في صراعها مع بكين، بل ويصل الحلم الهذياني ببعض المحللين الأمريكيين إلى الحديث عن الوصول بالدول الثلاث إلى حالة تقف فيها على مسافات متساوية من بعضها البعض...

كيف سترحل الولايات المتحدة؟

كما قلنا مراراً وتكراراً من قبل، ستترك الولايات المتحدة وراءها قنابل ومفخخات جاهزة للانفجار عندما يحين الوقت (من وجهة نظرها) لإشعال النار في المنطقة دون التورط المباشر، لأنها ستكون خارج المنطقة في حينه...
وقد بدأت الولايات المتحدة بالفعل في العمل على ذلك، ويتضمن ذلك مفردات عديدة بينها:
محاولة استخدام المتشددين داخل النظام والمعارضة لزرع ألغام سياسية جاهزة للتفجير وعرقلة تقدم العملية السياسية (انظر افتتاحية قاسيون رقم 915، بتاريخ 26 أيار 2019، بعنوان «تفكيك الألغام»).
محاولة استخدام المتشددين أنفسهم وكذلك العملاء المباشرين للتأثير في رسمة الحل المقبل بحيث تكون رسمة هشة قابلة للتحلل والتفكك، ما استطاعت إلى ذلك سبيلاً...
محاولة استغلال التناقضات على جميع المستويات- المحلية والإقليمية. على سبيل المثال، الكردية-الكردية، والكردية- العربية، والكردية- التركية، والعربية- الفارسية وإلخ... تنفيذاً لوصفة «حرب الجميع ضد الجميع».
رغبات الأمريكي ليست واقعاً علينا قبوله ولا يمكننا تغييره. بل وأكثر من ذلك، فإنّ التاريخ يعلمنا أنّ رغبات القوى المتراجعة بالمعنى التاريخي مرشحة في الأغلب أن تتحول إلى أضغاث أحلام، ولكن شرط أنْ تجد القوى المضادة، وخاصة الشعوب في الحالة الملموسة، أن تجد في نفسها الطاقة والعزم اللازمين للمواجهة.
في الحالة السورية الملموسة، وفي التاريخ السوري الملموس، فإنّ ذلك ممكن واحتمالاته عالية، ويتطلب في هذه اللحظة أنْ يتم تعميق الفرز الفعلي بين الوطنيين من كل الأطراف بمواجهة الحرامية والمتشددين من كل الأطراف، وصراط هذا الفرز هو المسألة الاقتصادية– الاجتماعية، والتي تتطلب موقفاً وطنياً وديمقراطياً محدداً وحاسماً... وهذه كلّها تتطلب الدفع باتجاه الحل السياسي على أساس القرار 2254، وفتح الباب لتغيير جذري شامل في بنية النظام القائم، والذي لم يعد قادراً على أداء أي من المهام المطلوبة بأبعادها المختلفة، وعلى رأسها مهمة الحفاظ على استمرار البلاد واستمرار وحدتها وحفظ سيادتها وإنهاء مأساة شعبها المتعددة الأوجه.
ضمن عملية الفرز نفسها، فإنّه من الضرورة بمكان تعزيز العمل على تقريب وتوحيد المواقف الأساسية لقوى المعارضة الوطنية الديمقراطية، بحيث تكون مستعدة ليس للدخول في التفاوض مع النظام فحسب، بل وللعمل المباشر في تفكيك الألغام المختلفة التي جرى ويجري زرعها أمريكياً وصهيونياً.
الانسحاب الأمريكي هو مسألة وقت فحسب، ووقت غير طويل. فتح باب الحل السياسي بشكل فعلي هو كذلك مسألة وقت، ووقت غير طويل... بالمقابل فإنّ المهام الفعلية أمام الوطنيين، هي مهام جسيمة وضخمة وتحتاج إلى عمل يومي بين الناس مهما وصلت درجة التعب والإنهاك، تحتاج لعمل يومي مستمر حتى وإن كان عملاً «مملاً رتيباً أسود»؛ فالمعارك الكبرى، وضمناً الثورة، هي بالضبط أمامنا، وليست وراءنا..

(النسخة الانكليزية)

معلومات إضافية

العدد رقم:
1027
آخر تعديل على الإثنين, 26 تموز/يوليو 2021 12:27