الانسحاب من جهنّم، وما يتبعه!

الانسحاب من جهنّم، وما يتبعه!

ليس عبثاً أن أطلق الجنرال في الجيش الأمريكي أندرسن على أفغانستان تسمية «جهنم» عام 2014 في معرض تعليقه على مأزق الجيش الأمريكي هناك.

لو أن أحداً تجرأ قبل أشهر بالحديث عن انسحاب أمريكي وشيك من جهنّم، في سياق سلسلة التراجعات الأمريكية، لكانت جماعة الموقف اليومي، والعقل المستلب والمهزوم قد أعلنت القيامة على رأس هذا الأحد، أما الآن، وبعد أن أعلن بايدن عن خطة و قرار الانسحاب غير المشروط من أفغانستان، بداعي «إنقاذ الأرواح»، فمن المفروض أن الأمر بات خارج دائرة الجدل... دون أن ننسى أيضاً أنه ترك حلفاءه الأفغان في (حيص بيص) وهو الذي كان يطلق وعداً تلو الآخر بالدفاع عن حلفاء الولايات المتحدة منذ بدء حملته الانتخابية، في انتقاد دائم لإدارة ترامب بسبب خذلانها حلفاء الولايات المتحدة، في سياق برنامجها الانكفائي...

سورية والانسحاب

ما يمسنا بشكل مباشر كسوريين من الانسحاب الأمريكي من أفغانستان، هو أنه جاء بمثابة تأكيد عملي متجدد على استمرار التراجع الأمريكي، وعلى سياسة الانكفاء، مما يعني أن الكفة ما زالت تميل لصالح قوى الانكفاء ضمن النخبة الأمريكية، والذي رأى السوريون أحد فصوله بالعين المجردة عند الإعلان المفاجئ للرئيس السابق ترامب عن الانسحاب من سورية عام 2019، تاركاً الأمر لـ«الآخرين كي يجدوا حلاً لهذه الحروب التي لا تنتهي» كما قال في حينه، وتمخضت موازين القوى ضمن الإدارة في حينه عن انسحاب جزئي، ومن ثم إعادة انتشار. بمعنى آخر، إن التوازن الدولي، وتوازن القوى ضمن النخبة الأمريكية، كعاملين أساسيين في تحديد اتجاه تطور الوضع الدولي، وتحديد السلوك الأمريكي، يميلان أكثر فأكثر نحو الانسحاب من منطقتنا في الاتجاه العام، رغم حالة المد والجزر والصراع التي تكتنف هذه العملية، مما يعني سورياً، أن الرهان على بقاء أمريكي مستدام، وبناء الإستراتيجيات على هذا الأساس، هو ضرب من السذاجة السياسية، ناهيك عن لا أخلاقية الدور الأمريكي على طول الخط.

الانتصار الأمريكي

جميع «الانتصارات» التي سجلتها الولايات المتحدة في العقود الأخيرة، لا تؤكد قوة أمريكا، وتفوقها الأخلاقي بقدر ما تؤكد هشاشة وتفاهة البنى التي تستهدفها، فمن طالبان إلى الصومال إلى النظام السابق في بغداد، إلى الحرب ضد داعش. ومن يدقق في نتائج التدخل الأمريكي سيجد دائماً بأنه يتم الاستثمار في أزمات قائمة، وتبديل مشكلة بمشكلة، دون حل المشكلة الأصل، بدلالة أن الأمريكي لم يصل في أي من هذه الحروب إلى تحقيق هدفه المعلن.
البراغماتية الأمريكية التي تستخدم ببراعة تكتيكات الجيل الخامس من الحروب، استثمرت في هذه البنى الهشة سهلة الاختراق، والغارقة في الأزمات، حيث الاقتصادات التابعة والمستنزفة بالنهب الداخلي والخارجي، ونخب القمع المنبوذة من شعوبها، والبنى التقليدية وقوى (الفوات الحضاري) من دينية وطائفية ومذهبية، التي يجري نفخ الروح فيها بألف طريقة وطريقة، أي إن الأمريكي يستثمر في ضعف الآخرين، ولا يعتمد على تفوقه العسكري والإعلامي والمالي و... فقط. وعبر التاريخ، وحيث توفر حد أدنى من مقومات المواجهة كان الأمريكي يفشل في تحقيق أهدافه، وحيثما توفرت مقاومة جدية كانت الهزيمة من نصيبه.
حيثما ذهب الأمريكي كانت ثمة أزمات مركبة تتفجر، فالاحتلال الأمريكي في سياق تكتيكات إدارة الأزمة كان يسرّع تفجير كل التناقضات دفعة واحدة، ليمنع بذلك بلورة أية قوى مجتمعية جديّة، فيصبح المجتمع المعني بكل بناه في حالة إنهاك، يتقبل ما يفرض عليه، وعندما كان الأمريكي يضطر للانسحاب كان ثمة بنك أزمات تعمل بقوة الدفع الذاتي، وتتخادم مع بعضها. وإذا كان التدخل والاحتلال هو استكمال تدمير كانت قد أسست له سياسات نموذج الدولة التابعة أنظمة ومعارضة، إن الانسحاب المفاجئ كان دائماً ينقل الفوضى من حالة الضبط الكاذب أمريكياً، إلى حالة الفوضى مفتوحة الأبواب.

(حذارِ) مما بعد الانسحاب الأمريكي!

الوجود الأمريكي ينطوي على مخاطر إستراتيجية كبرى، ولكن انسحاباً مفاجئاً ضمن الشرط السوري الخاص، أيضاً ينطوي على مخاطر، وكما أن بدء الانسحاب من جهنم الأفغانية، أعقبه مباشرة زيادة لافتة في نفوذ حركة طالبان التوأم السيامي للقاعدة، فإن تكتيكات واشنطن في انسحابها الاضطراري من أية بقعة في العالم، تشير إلى أنه لا يعني أن المشكلة انتهت تماماً، بل وكما تؤكد التجربة فإن «الهندسة الاجتماعية» هي التي تفعل فعلها؛ إذ يجري تحويل الاحتلال المباشر المهزوم إلى فوضى، وبناء على هذا الاستنتاج، وضمن الخاص السوري، ودور الجغرافيا السياسية، وضمن الصراع الأمريكي – الروسي الجاري حول التموضع التركي في شبكة العلاقات الدولية، وانتهازية النخبة التركية وأطماعها في هذا السياق، فإن مقايضات أمريكية مع تركيا تصبح على جدول الأعمال بغض النظر إذا كانت واشنطن ستفلح في ذلك أم لا؟
وعليه، فإن قطع الطريق على أية صفقة أمريكية تركية باتت مهمة من الدرجة الأولى، لا سيما وأن صفقة بين الطرفين قد جرت سابقاً بخصوص رأس العين وتل أبيض، وخصوصاً وأنه بات واضحاً بأن واشنطن حولت وجودها على الأرض السورية، في جانب منه، إلى أداة ابتزاز ومساومة، ولعبة عصا وجزرة مع تركيا، في إطار حالة الاضطراب القائمة في علاقات البلدين منذ سنوات، فكما كان التدخل الأمريكي بداية مشكلة، فإن انسحاباً مفاجئاً (وإن كان الانسحاب اضطرارياً بالمعنى الموضوعي) فإنه المطلوب منه سيكون هو الآخر أن يخلق مشكلة جديدة إذا لم يبادر السوريون إلى ملء الفراغ الذي سيحدث.

يجب قطع طريق التفجير

ومن هنا، فإن التصرف الواقعي الوحيد هو الدخول فوراً في حوار جدي بين الإدارة الذاتية والنظام، ويشارك به طيف واسع من القوى الوطنية المستقلة، والوصول إلى اتفاق يضمن حماية الشمال الشرقي السوري ويقطع الطريق على الأمريكي والتركي معاً على الاستثمار في التناقضات الداخلية بين السوريين.
على هذا الأساس، فإن تسوية ما واتفاقاً مؤقتاً، بعيداً عن الابتزاز ومنطق الاستعلاء والفوقية، وعقلية العودة إلى ما قبل 2011 من النظام، أو الشروط المسبقة من الإدارة الذاتية، باتت مهمة ملحة أكثر من أي وقت مضى، في ظل مسلسل انسحابات أمريكي محتمل، وذلك إلى حين تنفيذ القرار 2254، والوصول إلى بنية سياسية جديدة من خلال عملية تغيير وطني - ديمقراطي جذري وشامل، تؤمن فرصة التطور الحر القائم على العدالة الاجتماعية والديمقراطية والتعددية، للشعب السوري، يتحدد على أساسها الشكل النهائي لتجربة الإدارة الذاتية، وكل ما يتبعها من بنى.

 

English version 

معلومات إضافية

العدد رقم:
1027
آخر تعديل على الإثنين, 19 تموز/يوليو 2021 21:20