سباق أمريكا العجوز مع الزمن...  كيف تحضّر أمريكا لانسحابها من سورية؟

سباق أمريكا العجوز مع الزمن... كيف تحضّر أمريكا لانسحابها من سورية؟

مضى ما يقرب من عشرين شهراً على إعلان ترامب للمرة الأولى أنه سيسحب جنوده من سورية؛ كان ذلك يوم 19 كانون الأول 2018. في حينه أعلن وزير الحرب الأمريكي جيم ماتيس استقالته احتجاجاً على القرار، وتأرجح الإعلان عن الانسحاب بعد ذلك بين انسحاب كامل وفوري وصولاً إلى تدريجي وجزئي، وكمحصلة لم ينفذ منه فعلياً سوى إعادة تموضع.

إعلان الانسحاب هذا، تكرر عدة مرات بعد ذلك وبصيغ مختلفة، ولكنّ أكثرها وضوحاً كان في 7 تشرين الأول 2019، حيث انسحب الجنود الأمريكيون فعلاً من المناطق الحدودية مع تركيا، ليفسحوا بذلك المجال لمعركة طاحنة بين الأتراك وقسد، والتي تمكنت روسيا من إيقافها عند الحدود الدنيا من الفوضى عبر الاتفاق مع الطرفين.

 

الراعي الكذاب

التصريحات الكاذبة المتتالية حول الانسحاب، تركت لدى السوريين، وعموم متابعي الوضع السوري، إحساساً بأنّ الأمريكي لن ينسحب من سورية إلا بعد سنوات طويلة. وقد عمل المبعوث الأمريكي جيمس جيفري وفريقه على تكريس ذلك الشعور وتوطينه في النفوس عبر النشاط الإعلامي المحموم الذي يسعى للتأكيد على أن «واشنطن باقية وتتمدد». وبات من الصعب بالنسبة للكثيرين تصديق أنّ الولايات المتحدة ستنسحب من سورية في آجال قريبة، كما لو كان سلوكها منطبقاً على سلوك القصة الشعبية حول الراعي الكذاب. ونزعم أنه منطبق فعلاً على تلك القصة، حيث يقع الراعي الكذاب في شر أعماله في نهاية المطاف، وبشكل مفاجئ.

ولننقل النقاش إلى مستوى ملموس ومسند بالمعطيات، سنتناول الموضوع من ثلاث زوايا: (الانسحاب من سورية كجزء من عمليات الانسحاب الأمريكي حول العالم، الانسحاب من سورية بالارتباط مع الوضع الداخلي الأمريكي، الانسحاب من سورية ضمن الإحداثيات السورية).

 

انسحابات بالجملة

النظر إلى الكلام الأمريكي عن الانسحاب أو البقاء في سورية، بمعزل عن السلوك الأمريكي حول العالم، سيؤدي بالضرورة إلى نتائج خاطئة. لذا فمن الضروري أن نوسع دائرة البيكار لنرى الانسحاب من سورية في الإطار العام للانسحابات الأمريكية.

في هذا الإطار، يمكننا استحضار الأحداث التالية لتساعدنا في تكوين صورة عامة عن مسألة الانسحاب الأمريكي حول العالم:

10 آذار/2020: انسحاب القوات الأمريكية من قاعدتين عسكريتين تقعان في ولايتي هلمند جنوب أفغانستان، وهرات في غربها.

19 آذار/2020: تمّ تسليم «قاعدة القائم» الواقعة في محافظة الأنبار قرب الحدود العراقية-السورية.

26 آذار/2020: جرى تسليم «قاعدة القيارة» في جنوبي الموصل.

29 آذار: خرجت القوات الأمريكية من «قاعدة ك-1» في كركوك وسلّمتها للقوات الأمنية العراقية.

4 نيسان/2020: سُلّمت «قاعدة التقدّم» الجوية والتي تُعرف باسم «قاعدة الحبّانية» في محافظة الأنبار.

15 تموز/2020: المتحدث باسم وزارة الدفاع الأمريكية «البنتاغون»، جوناثان هوفمان، يعلن أن الولايات المتحدة قد أتمّت حتى تاريخه الانسحاب من 5 قواعد عسكرية لها في أفغانستان، وخفّضت حجم قواتها.

25 تموز/2020: قوات التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة تسلم «قاعدة بسماية» العسكرية في جنوب شرق البلاد إلى القوات الأمنية العراقية بعد ساعات من تعرضها لهجوم بـ 4 صواريخ من نوع كاتيوشا.

30 تموز/2020: ترمب يعلن قراره سحب قرابة 12000 جندي أمريكي من ألمانيا، نصفهم سيعود إلى الولايات المتحدة والنصف الآخر سيعيد التموضع في إيطاليا وبلجيكا.

 

كوارث بالجملة

لا تكتمل الصورة دون النظر إلى الواقع الأمريكي الداخلي، وبشكل خاص الاقتصادي والاجتماعي؛ فالأزمة الراهنة التي تعيشها الولايات المتحدة، ورغم المحاولات المستميتة لربطها بفيروس كورونا حصراً، كمحاولة للإيحاء بأنها مؤقتة، تزول بزوال الفيروس، إلا أنّها أبعد وأعمق بكثير من كل ما يقال.

في هذا الإطار أيضاً، نورد الحقائق التالية، (وهي غيض من فيض):

  • انكمش الاقتصاد الأمريكي بين نيسان وحزيران بمعدل سنوي قدره 9%، وهو أكبر انخفاض حاد في تاريخ الولايات المتحدة. أكثر من ذلك، فإنّ التقديرات الأمريكية «المتشائمة» التي كانت تقول سابقاً بأنّ الاقتصاد الصيني سيتجاوز الاقتصاد الأمريكي في وقت ما بين 2025 و2030، باتت قديمة جداً... لأنّ احتمال أن تتجاوز الصين الولايات المتحدة مع نهاية العام 2021 بات احتمالاً عالياً جداً، علماً أنّ الصين قد تجاوزت الولايات المتحدة فعلاً، وفقاً لمقياس GDP(PPP) بما يزيد عن 4 ترليون دولار. (هذا المقياس يقيس الناتج المحلي الإجمالي بقدرته الشرائية في السوق المحلية، أي بقيمة البضائع الحقيقية التي يعبّر عنها).
  • انخفاض الناتج المحلي الإجمالي الأمريكي خلال الأشهر الستة الأولى من 2020 بلغ 11%... أي ما يقارب انخفاض الناتج الروسي خلال تفكك الاتحاد السوفييتي.
  • في 18 تموز، ارتفع عدد العمال الذين يطالبون بإعانات البطالة المستمرة إلى 17 مليون.
  • تشير التقديرات إلى انخفاض أجور الملايين من العمال بمقدار الثلثين، من وسطي 921 دولار أسبوعياً، إلى 321 دولار أسبوعياً.
  • 70% من العمال الذين عادوا للعمل في شهر حزيران عانوا من هذه الخسارة في الدخل.
  • في 21 تموز، أفاد حوالي 30 مليون أمريكي بأنه لم يكن لديهم ما يكفيهم من طعام.
  • ارتفعت ثروات كبار الأثرياء الأمريكيين بنسبة 20% خلال فترة الوباء، بما لا يقل عن 565 مليار دولار.
  • ارتفعت ثروة الرئيس التنفيذي لشركة أمازون جيف بيزوس بحدود 74 مليار دولار منذ بداية 2020، لتصل إلى حدود 189.3 مليار دولار.
  • تضاعف صافي ثروات إيلون ماسك ثلاث مرات منذ بدء تفشي فيروس كورونا ليصل إلى حدود 74 مليار دولار.
  • رغم ذلك، يقود كل من بيزوس وماسك حملة لإجبار العمال على العمل في المستودعات والمصانع دون تأمين لوازم الحماية الصحية.

وإذا كانت الحقائق السابقة متمحورة حول الجانب الاقتصادي- الاجتماعي، فليس من الصعب توقع آثارها السياسية، والتي لا تزال (ورغم حجم التوتر الهائل الذي شهده ويشهده الشارع الأمريكي) في بداياتها الأولى فحسْب...

الصورة لا يمكنها أن تكتمل دون النظر في سلوك الخصوم الدوليين للولايات المتحدة من جهة، وسلوك حلفائها من جهة ثانية. ولكن كي نترك ما يكفي من المساحة لمناقشة المسألة ببعدها السوري، نكتفي بلفت الانتباه سريعاً إلى محاور أساسية في هذا السياق هي التالية:

  • الحزام والطريق والمشروع الأوراسي وما يرافقهما من إزاحة متصاعدة للدولار من التبادلات البينية ومن تكريس متصاعد للامركزة الطاقة، وكذلك لعمليات إحلال تدريجي لمنظومة مالية عالمية بديلة تستغني عن الدولار نهائياً.
  • الانقسامات العميقة في معسكر الحلفاء المقربين من الولايات المتحدة، سواء بين الدول أو ضمنها، (العلاقة الأمريكية الأوربية، البريطانية الأوروبية، الأمريكية الألمانية، الأمريكية مع أستراليا ونيوزيلاندا، الأمريكية التركية... إلخ)
  • الميل الثابت نحو التحسن التدريجي للعلاقات الروسية الصينية مع «حلفاء تقليديين» للولايات المتحدة؛ تركيا، الخليج العربي، اليابان، ألمانيا... وغيرها.

 

في سورية

نزعم أنّ قراءة معمقة في الحقائق السابقة، تكفي وحدها، وحتى دون النظر في المسألة السورية، إلى الوصول إلى الاستنتاج الواضح بأنّ الانسحاب الأمريكي الكامل من سورية بات مسألة قريبة.

ولكن بالملموس أكثر، فإنّ بين العوامل المباشرة التي تقود لهذا الاستنتاج، الانسحابات الأمريكية من العراق بالذات؛ فالوجود الأمريكي في سورية، بالمعنى العسكري اللوجستي، هو زائدة دودية للوجود في العراق، ولا يمكن أن يستمر يوماً واحداً في حال انتهى أو تراجع بشكل كبير الوجود الأمريكي في العراق، وهذا بالضبط ما نشهده خلال 2020.

بكل الأحوال، فإنّ اضطرار الأمريكي للانسحاب من سورية ومن المنطقة، وعمليات الانكفاء وإعادة التموضع حول العالم، تترافق بالضرورة مع محاولات المحافظة على التأثير السابق بأدوات جديدة.

وجود الأمريكي في أي نقطة من العالم، وخاصة في منطقتنا، ترافق دائماً مع التوتر والحروب الأهلية وضعف الاستقلالية الوطنية، وضعف الاقتصاد وتبعيته.

للحفاظ على الدور التخريبي للولايات المتحدة بأدوات أخرى، لا بد من تفجير المناطق التي تغادرها. أدوات التفجير الأكثر أهمية، هي تلك التي ورثها الأمريكيون من الاستعمار القديم، ومن التاج البريطاني خصوصاً: (الفوالق الطائفية والقومية والدينية والعشائرية التي جرى تكريسها في سايكس بيكو، هي ومشاكل الحدود، ومشكلات الاقتصاد ضعيف الإنتاجية والمربوط بالتجارة البحرية مع الغرب...إلخ)، وبلا شك هنالك الكيان الصهيوني بأدواره العلنية، وبأدواره المخفية الأكثر تأثيراً.

لا تخطئ العين الاستعجال الأمريكي في الإيحاء بالوصول إلى اتفاق بين مسد والمجلس الوطني الكردي. ولكن لا تخطئ العين الفاحصة أيضاً، أنّ السعي الأمريكي هو للوصول إلى تكريس وجود عدة قوى متصارعة، ولكن ضيعفة في آن معاً، في الشمال الشرقي؛ بينها مسد، والمجلس الوطني الكردي وحلفاؤه الجدد، وكذلك تحالفات ومجالس مستجدة يجري اختراعها حالياً بزعم أنها تمثل العشائر العربية، ويجري استحضار أسماء منقرضة ولا وزن لها، وتنصيبها لهذا الغرض، من أمثال رياض حجاب الذي بُعث مؤخراً، والتقاه ريبورن يوم 31 تموز الماضي.

لا يقف السعي الأمريكي عند حدود الدفع نحو صراع داخلي بين القوى في الشمال الشرقي السوري؛ فصراع كهذا يمكن احتواؤه إقليمياً ودولياً، ولكن تسعى واشنطن أيضاً إلى تكريس صراعات ينزلق إليها العراق وتنزلق إليها تركيا، وكذلك روسيا كمحصلة؛ كلام جيفري لا يزال صحيحاً: «وظيفتي أن أجعل سورية مستنقعاً للروس».

 

الخبر الجيد

الجيد في المسألة كلّها، أنّ لياقة الأمريكي الضعيفة، وأنفاسه المتقطعة، تجعل من عمليات ركضه وراء الـ(deadlines/ المواعيد النهائية) التي يفرضها الواقع الموضوعي عليه، عملية ميؤوساً منها؛ فحجم التوافقات الدولية والإقليمية، وربما أهم من ذلك، المحلية السورية، التي يجري العمل عليها، تسير بسرعة أكبر بكثير من سرعة الأمريكي.

ولكن السباق لا يزال جارياً، ولذا ينبغي تسريع عمليات التوافق السوري السوري، وخاصة عبر اللجنة الدستورية، وعبر الأبواب الأخرى للقرار 2254، الذي بات تطبيقه الكامل والسريع، ممراً إجبارياً لقطع أية آمال أمريكية في إعادة تفجير سورية وأخذها نحو دمار كامل...

معلومات إضافية

العدد رقم:
977
آخر تعديل على الإثنين, 03 آب/أغسطس 2020 17:44