العقوبات الأمريكية: دفاع أم هجوم؟ ومن أول نظامٍ «سيغير سلوكه»؟
ريم عيسى ريم عيسى

العقوبات الأمريكية: دفاع أم هجوم؟ ومن أول نظامٍ «سيغير سلوكه»؟

استخدمت الولايات المتحدة العقوبات منذ عدة عقود، كطريقة منخفضة التكلفة لاستهداف أعدائها. في ظاهرها، ووفقاً للسياسة المعلنة، تهدف العقوبات إلى تغيير سلوك الحكومات والأنظمة «السيئة» ومعاقبة «الأشرار». تعتمد الولايات المتحدة بشكل كبير على موقعها الاقتصادي-المالي والسياسي عالمياً في جعل العقوبات مضرة بالكيانات المستهدفة، لكن ما نحاول توضيحه هنا، هو اعتقادنا أنّ الولايات المتحدة باتت تستخدم العقوبات لا كأداة هجوم، بل بالضبط كآلية دفاعية ضد صعود الآخرين على المسرح العالمي، ولمواجهة أزماتها الداخلية بالذات.

أشار مقال نُشر في مجلة أتلانتيك يوم 3 أيار 2019 بعنوان A Boom Time for U.S. Sanctions إلى أنه في ذلك الوقت كانت هناك 7967 عقوبة فرضتها الولايات المتحدة، وأن هذه العقوبات تتراوح في حجم الكيانات المستهدفة بها من الأفراد، إلى الشركات، إلى القطاعات، وصولاً إلى الحكومات والدول. ومع ذلك، وفقاً لبرنامج العقوبات التابع لوزارة الخزانة الأمريكية، هناك 35 برنامج عقوبات أمريكي نشط، وهي (حسب ترتيب العام الذي بدأ فيه كل منها):

 

 


وكما يوضح الجدول المرفق، يمكننا أن نصنّف العقوبات الأمريكية من حيث نطاق استهدافها ضمن أربعة حقول عامة:

أولاً: عقوبات تستهدف كيانات وأشخاص محددين.
ثانياً: عقوبات تستهدف بلداناً بعينها.
ثالثاً: عقوبات «مرتبطة» ببلدان معينة، أي: لا تستهدفها وحدها، بل وتضع من يتعامل معها موضع الاستهداف أيضاً في حال ارتأت واشنطن ذلك.
رابعاً: عقوبات تحت عناوين عريضة يمكنها أن تستهدف أي فرد أو شركة أو قطاع أو بلد في العالم، إذا قررت واشنطن أنه يندرج تحت تلك العناوين.

 

هامش ضروري

يكفي النظر سريعاً إلى برامج العقوبات الأمريكية الفعالة حالياً والموضحة في الجدول المرفق، للخروج باستنتاج بسيط وواضح القول: بأنّ العقوبات تستهدف أنظمة بعينها، وليس دولاً هو هراء كامل... ألم يسقط النظام في ليبيا؟ العقوبات مستمرة. في السودان؟ العقوبات مستمرة. في العراق؟ العقوبات مستمرة.... وإلخ. ما يعني: أنّ التفاهات التي يحاول بها عملاء الأمريكان من السوريين تبرير العقوبات مردودة عليهم، وعبر بيانات الخزانة الأمريكية بالذات!

فقاعة عقوبات

فرضت الولايات المتحدة برامج عقوبات عديدة ولفترات طويلة جداً. مع ذلك فإنّ العشرين عاماً الماضية قد شهدت تضخماً وتسارعاً هائلاً في استخدام العقوبات (من بين 35 برنامجاً نشطاً مدرجة أعلاه، فإنّ 29 منها فرض بعد عام 2000 و19 بعد عام 2010). ومع ذلك، فقد حذر الخبراء لعقود من مخاطر استخدام هذه الأداة، حيث أعرب البعض عن مخاوفهم من أن «الإفراط في استخدام العقوبات يجلب مخاطر طويلة الأجل لكل من دور أمريكا المهيمن مالياً في العالم، ومكانتها الرائدة في الدبلوماسية الدولية» وفقاً لمقال أتلانتيك المشار إليه آنفاً.

يشير المقال أيضاً، إلى أن «قوة العقوبات الأمريكية... تأتي من تمحور الاقتصاد العالمي حول نظام مالي متمركز، ومركزه الولايات المتحدة، ومن مكانة الدولار باعتباره العملة الاحتياطية المهيمنة في العالم».

يشير المقال إلى خطرين قد يؤديان إلى تقويض الموقف الاقتصادي والسياسي للولايات المتحدة. أحد هذين الخطرين، هو: أن تقرر المؤسسات المالية إدارة شؤونها المالية من خلال قنوات غير أمريكية، أي: إنهاء الاعتماد على الولايات المتحدة كمركز مالي عالمي، وبالتالي التخلص من الدولار. الخطر الآخر: يتمثل في إثارة غضب الحلفاء التاريخيين، وخاصة الأوروبيين، حيث لن يكون تأثير هذا الغضب اقتصادياً ومالياً فحسب، بل سيتجاوز ذلك إلى توترٍ عالٍ في المجال الدبلوماسي والسياسي.

لم تعد هذه المخاطر نظرية اليوم؛ فقد بدأت العقوبات الأمريكية تأتي بنتائج عكسية بشكل أوضح، ليس فقط لأنها لا تحقق الأهداف المعلنة التي وُضعت من أجلها، ولكن لأن لها آثارها السلبية على الولايات المتحدة نفسها، وعلى جميع المستويات، خاصة على المستوى الاقتصادي والمالي وعلى المستوى السياسي والدبلوماسي.

998-i3

على الصعيد الاقتصادي والمالي

تمتعت الولايات المتحدة بعقود من السيطرة الاقتصادية والمالية العالمية. ويرجع ذلك أساساً إلى أن الدولار هو العملة الرئيسة للتجارة، إلى جانب نظام SWIFT. وقد مكن هذا الولايات المتحدة من التأثير بشكل كبير على الاقتصادات في جميع أنحاء العالم، حتى عندما لا تكون مرتبطة بها بشكل مباشر، وهو ما يجعل عقوباتها الأحادية أداة نافعة في شل اقتصادات البلدان بشكل مباشر وغير مباشر.

مع زيادة استخدام الولايات المتحدة للعقوبات، بدأت الدول في البحث عن طرق تصعب على الولايات المتحدة شل اقتصاداتها وقنواتها التجارية. إحدى تلك الطرق، هي الانفصال التدريجي عن الولايات المتحدة اقتصادياً، من خلال البحث عن أطر اقتصادية بديلة، بما في ذلك استخدام عملات غير الدولار والأنظمة المصرفية الأخرى في تداولها.

وهذا أمر مستمر في التزايد على مستويات ثنائية وفوق ثنائية؛ حيث تتفق دولتان على استخدام عملاتهما المحلية في تبادلاتهما التجارية، وهو أمر بدأت الصين وروسيا بفعله، وكذلك الصين وتركيا، على سبيل المثال. ويتزايد تراجع الدولرة، ليس فقط على المستوى الثنائي، ولكن على مستوى مجموعة الدول المتعددة، مثل: دول بريكس.

على وجه التحديد، عندما يتعلق الأمر بالصين، التي كانت أحد الأهداف المفضلة للولايات المتحدة بالعقوبات، ونظراً للنمو الصيني الحاد في الاقتصاد العالمي، فإن العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة لم تكن فعالة كما كانت تتمنى، وكل المؤشرات تشير إلى أنّ التأثيرات السلبية على الاقتصاد الأمريكي أكثر منها على الصيني. أصبح هذا الأمر أكثر إشكالية بشكل خاص بالنسبة للولايات المتحدة في منتديات، مثل: صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، حيث تتمتع الصين بنفوذ متزايد من خلال دورها المتزايد في الاقتصاد العالمي، وعبر تحركات يقوم بها صندوق النقد الدولي، بما في ذلك ضم اليوان الصيني إلى احتياطي الصرف الأجنبي الرسمي.

اعتمدت العقوبات الأمريكية ضد الصين على مقولة: أنّ الصين تعتمد بشكل كبير على واردات التكنولوجيا، والتي تهيمن على معظمها الولايات المتحدة، مما يسمح للولايات المتحدة باستخدام العقوبات لاستهداف الشركات الصينية في قطاع التكنولوجيا، أو اتخاذ إجراءات أخرى، مثل: فرض الرسوم الجمركية على الشركات الصينية المدرجة في البورصات الأمريكية.

ومع ذلك، فهذه باتت الآن أخباراً قديمة... يكفي أن ننظر إلى تقنيات الجيل الخامس، وإلى الصواريخ فرط الصوتية، التي تملكها وتطورها الصين، في حين لم تصل لها الولايات المتحدة بعد، حتى نستنتج أنّ «التفوق التكنولوجي» الأمريكي، بات أمراً من الماضي.

فوق ذلك، يمكن للصين أن تخرج شركات محددة من البورصات الأمريكية وتختار إدراجها في بورصات أخرى لضمان قدرتها على الحفاظ على مستثمريها. وعندما يتعلق الأمر بالقطاع المالي، فإن الصين في حال أفضل حتى من حالها في قطاع التكنولوجيا... مثل: البنوك الصينية المندمجة جيداً في نظام التجارة العالمي، والتي تنفي الدولار الأمريكي بالتدريج، مما يجعلها أقل عرضة للعقوبات الأمريكية.

لا تقتصر الردود على العقوبات الأمريكية على البلدان «المعادية»، كما هو الحال مع الصين وروسيا، ولكن أبعد من ذلك، فحتى الدول «الحليفة» تاريخياً، بدأت هي الأخرى بالرد...

على نحو متزايد، فإن العقوبات الأمريكية تضغط على الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، من خلال فرض عقوبات على الدول التي تربطها بالاتحاد الأوروبي الكثير من العلاقات التجارية والاقتصادية. وقد أدى ذلك إلى ضغوط على العلاقات بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، وتزايدت التوترات بينهما، والتي بدأنا نراها وستتزايد على الأرجح إذا واصلت الولايات المتحدة سياساتها.

على سبيل المثال: في وقت سابق من هذا الشهر، اقترح الاتحاد الأوروبي قانونين لهما تأثير على كيفية إدارة الشركات لأعمالها الرقمية في الاتحاد الأوروبي، ووضع قيوداً على كيفية استخدام البيانات. في حين أن هذه القوانين المقترحة تستهدف أية شركة تمارس الأعمال التجارية عبر الإنترنت في الاتحاد الأوروبي، فإن أكبر الشركات ستخضع لقواعد أكثر صرامة، وجميعها تقريباً شركات أمريكية، مثل: Amazon و Facebook و Google و Apple. (المصدر: واشنطن بوست، 15 ديسمبر 2020). في حين أن هذا، في ظاهره، ليس رداً مباشراً على العقوبات الأمريكية في حدّ ذاتها، إلّا أنه بالتأكيد رد على الممارسات والسياسات الاقتصادية الأمريكية، والتي تشكل العقوبات جزءاً أساساً منها.

على المستوى السياسي والدبلوماسي

إن السياسات الأمريكية حول العالم، من خلال العقوبات الأحادية والممارسات الأخرى التي تهدف إلى «تدمير» أي شخص يتحدى «التفوق» الأمريكي، تعمل أيضاً على استعداء الأصدقاء والأعداء على حد سواء. تعامل الولايات المتحدة- بغطرسة شديدة- جميع المنتديات والمنظمات الدولية كما لو كانت مؤسساتها الخاصة، حيث تطالب بأن يكون لها القول الفصل. وفي حين كان هذا الأمر إلى حد ما منذ انهيار الاتحاد السوفييتي، فالأمر اليوم لم يعد كذلك، ولم يعد التنمر الأمريكي يحدث النتائج «المرغوبة». لقد رأينا ارتفاعاً في هذا السلوك خلال السنوات القليلة الماضية، والذي استجابت له الولايات المتحدة بالانسحاب أو التهديد بالانسحاب من المنظمات الدولية، مثل: منظمة الصحة العالمية، ومنظمة التجارة العالمية ومجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة وغيرها.

كما أصبح من الملاحظ بشكل أكبر أن الوضع الشاذ والمنفر للولايات المتحدة على المسرح العالمي آخذ في الازدياد، مع اتخاذ الحلفاء التاريخيين، وخاصة الغرب، مواقف لا تتماشى مع المواقف الأمريكية في مثل هذه المنتديات، مثل: مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، حيث تجد الولايات المتحدة نفسها في كثير من الأحيان بمفردها (أو إذا حالفها الحظ مع أحد أعضاء مجلس الأمن الأربعة عشر الآخرين) تصوت عكس الأعضاء الباقين، أو يتم رفض قراراتها المقترحة بأغلبية ساحقة.

باختصار

سياسات الولايات المتحدة اتجاه بقية العالم، إذا نظرنا إليها من خلال عدسة العقوبات، تكشف عن الاتجاه الذي تسير فيه الولايات المتحدة فيما يتعلق بمكانتها على الصعيد العالمي. في حين أن سياسات من هذا النوع تبدو في ظاهرها وكأنها خطوات هجومية، فهي في الواقع آلية دفاعية تحاول الولايات المتحدة بواسطتها إبطاء صعود اقتصادات أخرى.

على مدى العقد الماضي، بدأ هذا النوع من السلوك يأتي بنتائج عكسية إلى حدّ كبير، حيث بدأ عدد متزايد من البلدان، سواء التي تأثرت بشكل مباشر أو غير مباشر من العقوبات الأمريكية، في اتخاذ إجراءات مضادة مع الانفصال التدريجي عن الولايات المتحدة على الصعيدين الاقتصادي/ المالي والسياسي/ الدبلوماسي.

بدأت بعض الدول في اقتراح إجراءات ترقى إلى مستوى معاقبة الشركات الأمريكية، ولكن في القريب العاجل قد نبدأ في رؤية عقوبات اقتصادية صارخة مفروضة على الولايات المتحدة. ما هو أكثر أهمية، هو أن العزلة الفعلية للولايات المتحدة عن بقية العالم جارية بالفعل، ولا رجعة فيها ما لم تكن هناك تغييرات كبيرة في الطريقة التي تتصرف بها الولايات المتحدة، مما يعني في النهاية: تغييراً كاملاً في النظام والمؤسسة القائمة. وإذا كانت الولايات المتحدة تتبجح دائماً بأنّ الهدف من عقوباتها هو «تغيير سلوك الأنظمة» (في حين يظهر الواقع أنّ الولايات المتحدة سعيدة باستمرار تلك الأنظمة باعتبارها مكوناً أساسياً من معادلة الفوضى وعدم الاستقرار) فربما ستكون الولايات المتحدة نفسها هي أول دولة سيتغير سلوكها بالفعل، وبسبب العقوبات الأمريكية.

(النسخة الانكليزية)

معلومات إضافية

العدد رقم:
998
آخر تعديل على الإثنين, 28 كانون1/ديسمبر 2020 10:55