حقبة جديدة في العلاقات التجارية العالمية؟

حقبة جديدة في العلاقات التجارية العالمية؟

في السادس عشر من الشهر الجاري، تم التوقيع على واحدة من أهم الاتفاقات التجارية التي غيبتها وسائل الإعلام الغربية، وهي اتفاقية الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة RCEP التي وقعتها 15 دولة ذات أغلبية آسيوية، باستثناء اثنتين، هما: أستراليا ونيوزيلندا، والتي تضم الدول العشر الأعضاء في مجموعة الأسيان بالإضافة إلى أستراليا والصين واليابان ونيوزيلندا وكوريا الجنوبية.

تمثل الدول الـ 15 الموقعة على الاتفاقية مجتمعة حوالي 35% من إجمالي التجارة العالمية، بما في ذلك ثلاثة من أكبر اقتصادات آسيا، الصين واليابان وكوريا الجنوبية. والأهم من ذلك، هو أنها تمثل منطقة من العالم هي الأسرع نمواً من الناحية الاقتصادية، ومن المتوقع أن تهيمن على التجارة الدولية في المستقبل المنظور.

ليس ترامب هو المذنب

تمثل الاتفاقية انعكاساً واضحاً للتراجع الغربي على صعيد التجارة العالمية، بما في ذلك ضرب السيادة والهيمنة التقليديتين لكل من أوروبا والولايات المتحدة، على مدى السنوات الـ 300 الماضية في آسيا، وذلك في مقابل صعود قوي للاقتصادات الآسيوية. وواحدة من المسائل المهمة للغاية في هذه الاتفاقية، هي أنها تمثل فعلياً رداً صينياً حاسماً إزاء المحاولات الأمريكية لإنشاء نوع من التحالف الآسيوي المناهض للصين. حيث من الجدير بالذكر في هذا السياق، أن عضوين آخرين في التحالف الذي تحاول واشنطن تأسيسه، وهما اليابان وأستراليا، قد اختارا الانضمام إلى المركز الإقليمي الذي تدعمه الصين، وهذا قرار يتعارض بوضوح مع المحاولة الأمريكية الرامية إلى إنشاء تحالف مناهض للصين، فمن الواضح أن جيران الصين الآسيويين يرفضون العروض الأميركية لزجهم في التصعيد الأمريكي ضد الصين.

وانضمام كوريا الجنوبية أيضاً إلى الاتفاق له أهمية جيوسياسية كبرى، حيث عانت كوريا الجنوبية من الاحتلال الأمريكي المستمر تقريباً منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وهو اتجاه تسارعت به الحرب الكورية التي هيمنت عليها الولايات المتحدة وضبطت وتيرتها. وقد استخدمت تلك الحرب كذريعة للحفاظ على وجود عسكري ضخم للولايات المتحدة في كوريا الجنوبية منذ ذلك الحين، وهي فترة تزيد الآن على 70 عاماً.
وقد يقال الشيء ذاته عن اليابان، حيث إن استقالة الحليف القوي للولايات المتحدة، شينزو آبي، من رئاسة الوزراء اليابانية، إلى جانب انضمام اليابان إلى اتفاقية رابطة أمم جنوب شرق آسيا، قد تفسر على أنها علامات، وإن كانت صغيرة في هذه المرحلة، على أن اليابان تحاول مؤخراً تأمين قدر من الاستقلال السياسي يعكس بشكل أكثر دقة وزنها الاقتصادي.

وينطبق الشيء نفسه على أستراليا، التي يمثل انضمامها إلى هذا الترتيب الاقتصادي مع البلدان الآسيوية صدمة بالنسبة للعديد من المحللين الذين اعتادوا النظر إلى خارطة العلاقات السياسية والدبلوماسية الآسيوية بسكونها، وليس بحركتها المستمرة، حيث إن الانفصال عن التحالف الأمريكي سيكون أمراً صعباً بالنسبة لأستراليا، لكن الحكومة المحافظة الحالية في أستراليا تجهد في سبيل إقناع أعضاء حزبها، ولا سيما أعضاء «ائتلاف الحزب الوطني»، بضرورة الحفاظ على علاقاتها التجارية الآسيوية وتعزيزها، وذلك انطلاقاً من المصلحة الأسترالية البحتة في المقام الأول. فالتوقيع على اتفاق رابطة أمم جنوب شرق آسيا الجديد هو إشارة إلى أن هنالك أصواتاً في أستراليا ترغب في الحفاظ على السوق الصينية القيمة.

من السهل إلقاء اللوم على الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، في التوترات المتزايدة بين الولايات المتحدة والصين، لكن المشاكل أعمق من ذلك بكثير، وتعود على الأقل إلى عهد باراك أوباما (2008-2016)، وفي هذا السياق، يغفل الكثيرون ممن يعولون على اختلاف السياسيات بين الحزبين «الديمقراطي» و«الجمهوري» أن أوباما هو من اخترع ما يسمى بسياسة «محور آسيا» التي هدفت فعلياً إلى تطويق الصين بما يقرب من 400 قاعدة عسكرية أمريكية في المنطقة الآسيوية الكبرى.

عالم غير أمريكي

من السمات العديدة للاتفاق التجاري الموقع حديثاً، أنه سيشجع الدول الأعضاء فيها على وضع الالتزامات التجارية كأولوية فوق، أي: توجه «حربجي». وقد يكون هذا التوجه الآسيوي بعيداً عن القبضة الأمريكية في آسيا هو السبب الذي جعل وسائل الإعلام الغربية تعطي القليل من الوقت والتغطية لهذا التطور الأخير. حيث إن الآثار الاقتصادية وحدها هائلة، وفيما يتعلق بإلغاء التعريفات التجارية على الواردات وحدها، من المتوقع أن تشهد الصفقة إلغاء ما يصل إلى 90% من التعريفات على الواردات على مدى العقدين المقبلين. وبصرف النظر عن الفوائد التجارية، ستكون هناك أيضاً قواعد مشتركة توضع في مجال براءات الاختراع، وهو مجال هام للغاية من مجالات التنمية. وقد أصبحت الصين الآن أكبر مصدر في العالم للتسجيلات الجديدة لتطويرات براءات الاختراع.

ما يحدث، يؤكد من جديد: أن العالم يمضي قدماً بعيداً عن الهيمنة الأمريكية، وأنه على مايك بومبيو وأياً كان من سيخلفه كوزير للخارجية الأميركية أن يدرك هذه الحقيقة. ولكن من غير المرجح أن تعترف الولايات المتحدة بأهمية التغييرات الجارية، حيث إن RCEP ليس مجرد اتفاقية تجارية، بل تعكس قناعة راسخة بأن التحالفات الإقليمية هي واحدة من أهم أدوات النمو الاقتصادي، الذي يجمع عدداً من الدول التي ظلت لفترة طويلة متحاربة بينياً، ويمنعها العداء من التفكير في مصالحها العميقة المرتبطة أولاً وأخيراً، ليس بتحقيق الازدهار داخلياً فحسب، بل لدى الدول المجاورة أيضاً.

لتحميل العدد 993 بصيغة PDF

معلومات إضافية

العدد رقم:
993
آخر تعديل على الإثنين, 23 تشرين2/نوفمبر 2020 15:44