حول فوبيا الشيوعية في الولايات المتحدة... أبعاد أخرى
سعد صائب سعد صائب

حول فوبيا الشيوعية في الولايات المتحدة... أبعاد أخرى

تناولت الزميلة ريم عيسى في مادة لها بعنوان «لماذا يعود رهاب الشيوعية من جديد إلى الولايات المتحدة؟» (نشرت في موقع قاسيون الإلكتروني بتاريخ 16/10)، ومن عدة زوايا: ارتفاع مستوى الحديث عن الشيوعية والاشتراكية في الولايات المتحدة خلال السنوات القليلة الماضية، والأشهر الأخيرة بشكل خاص...

وضّحت عيسى في مادتها أن الاتهامات المكثفة التي يطلقها ترامب ووزير خارجيته ضد الديمقراطيين بأنهم «ميّالون للشيوعية» أو أنهم «يريدون تحويل الولايات المتحدة إلى بلد اشتراكي»، وعدا عن كونها بعيدة كل البعد عن سياسات الديمقراطيين، فهي كذلك أبعد من أن تكون مجرد استثمار انتخابي يستخدمه ترامب في وجه خصومه.

وصولاً إلى تسمية المرحلة التي تعيشها الولايات المتحدة الآن، بأنها بداية مرحلة مكارثية جديدة، عطفاً على مكارثية الخمسينات التي جرى فيها قمع و«تكفير» أية آراء شيوعية أو متعاطفة مع الشيوعية.
وبالتوازي، جرى فعلياً قمع كل أِشكال الحراك السياسي والنقابي في الولايات المتحدة، وصولاً إلى تكريس صيغة «الحزب القائد» ذي الرأسين (الجمهوري/ الديمقراطي).

العدو «الإيديولوجي»

ترى عيسى في مادتها- واستناداً إلى الطبيعة العسكرية والعدوانية والناهبة، للنظام الأمريكي، وبكلمة واحدة الطبيعة الإمبريالية- أنّ الوجود الدائم لعدو خارجي/ داخلي، هو بحق «رئة حديدية» يتنفس منها هذا النظام، عبر جملة حروب متنقلة... وتحت الشعار الأثير لدى مختلف أنواع الأنظمة الناهبة، سواء تلك التي في المركز الإمبريالي، أو نسخها الممسوخة في بلداننا: «لا صوت يعلو فوق صوت المعركة»... وهو شعار حمل صيغاً مختلفة عبر التاريخ الرأسمالي، ربما ابتداء من لويس بونابرت الذي ذبح الحركة السياسية في فرنسا في خمسينات القرن التاسع عشر بحجة الحرب مع بروسيا، ومروراً بشعار «الدفاع عن الوطن» الذي رفعته الأممية الثانية بقيادة كاوتسكي، لتزج العمال كأضاحٍ لوحوش الإمبريالية الأوروبية خلال الحرب العالمية الأولى.

وبما أنّ حضور العدو هو جزء من «معادلة الاستقرار»، وبعد انتهاء الحرب الباردة، ومع انهيار إمكانية الاستثمار في «الحرب على الإرهاب» مع دخول روسيا المباشر على خط الحرب عليه، فقد بات من الضرورة القصوى خلق عدو «جديد»... وليس هنالك أفضل من «الشيوعية» من وجهة نظر النخبة الأمريكية عدواً... خاصة وأنّ هذا العداء، لن يخدم في إطار الصراع الداخلي فحسب، بل ويبدو «حفر وتنزيل» في العداء مع الصين بالدرجة الأولى، وروسيا بالدرجة الثانية... أي إنّه عداء وظيفته استكمال جوانب التناقض مع الصين وروسيا؛ فالحرب تحتاج ما يبررها وما يعبِّئ الناس اتجاهها، ولا تكفي في هذا الإطار الجوانب الاقتصادية والسياسية للمسألة، ولا بد من اختراع «هدفٍ سامٍ» وإسباغ «قيمة أخلاقية» على الحرب عديمة الأخلاق... يتمثل ذلك بالمستوى الإيديولوجي من الصراع؛ فالحرب على الإرهاب، والإسلامي منه خاصة، حملت بشكل ضمني وعلني، أفكار دفاع العالم الحر، وعلى لسان بوش الابن «العالم المسيحي الحر» ضد «الخطر الإسلامي»... وهي الأفكار التي جرى التنظير لها عملياً خلال حقبة التسعينات على يد هنتغتون في كتابه صراع الحضارات...

ونرى الآن تكراراً للدعايات ذاتها من حيث الجوهر، التي جرى استخدامها خلال الحرب الباردة في وجه الاتحاد السوفييتي، ولكن مع فارق هائل في الظروف يتركّز برأينا في نقطتين جوهريتين: عمق الأزمة الرأسمالية الراهنة، وما أنتجته من تحولات في دور الدولة.

تنازلات اضطرارية

مع انتصار ثورة أكتوبر عام 1917، ومن ثم تشكيل الاتحاد السوفييتي، انطلقت منافسة حامية بين نموذجين للدولة؛ النموذج السوفييتي، بمقابل النموذج الرأسمالي التقليدي.
في سياق هذا التنافس، وفي عقوده الأربعة الأولى بشكل خاص، اضطرت الدول الغربية لتقديم تنازلات ضخمة لعمالها لثنيهم عن التعاطف مع الاتحاد السوفييتي، ولمنع نقل التجربة إلى بلدانهم.

من أمثلة ذلك، وهي كثيرة وقد تكون صادمة للكثيرين، أنّ الدول الأوروبية اضطرت إلى إجراءات من نمط: (تحديد يوم العمل بثماني ساعات، تأمين التعليم العام المجاني أو شبه المجاني، تأمين العمال صحياً، تأمين المساكن العمالية، حق الانتخاب والترشح للمرأة وغيرها الكثير الكثير...)
هذه الأمور كلّها، باهى الغرب بها خلال عقود الخمسينات والستينات والسبعينات بوصفها «فضائله الاجتماعية»... حقيقة الأمر، هي أنّ الدول الرأسمالية الغربية كانت مضطرة لتقديم هذه التنازلات تحت ضغط النضال العمالي في بلدانها من جهة (العمال الذين تعرضوا إلى سلسلة من المذابح خلال إضراباتهم المطالبة بثماني ساعات عمل، ابتداء من منتصف القرن التاسع عشر)، ولكن أيضاً تحت ضغط النموذج السوفييتي، أي سلطة العمال والفلاحين في حينه، والتي انتزعت هذه الحقوق وفرضتها خلال السنوات الأولى من استلامها للسلطة... أما الدول الغربية فقد التحقت بالاتحاد السوفييتي في تثبيت هذه الحقوق مضطرة، وبشكل جزئي، بعد سنوات طويلة (في الولايات المتحدة مثلاً، جرى إقرار تشريع 40 ساعة عمل في الأسبوع عام 1940...)

الليبرالية الجديدة
وبدء استعادة التنازلات

يروي التاريخ أنّ حقبة الليبرالية الجديدة نهاية السبعينات ومطلع الثمانينات، قد جرى تدشينها سياسياً على يد كل من مارغريت تاتشر ورونالد ريغان.
الجانب الذي لا يُلقى عليه ما يكفي من الضوء، هو أنّ التدشين العملي لهذه الحقبة يجد تمثيله الأكثر وضوحاً، في عمليات القمع الدموي التي مارستها «المرأة الحديدية/ تاتشر» في وجه الإضرابات العمالية في بريطانيا.
المسألة في الجوهر كانت كالتالي: عاش الاتحاد السوفييتي تراجعاً مزمناً منذ أوائل الستينات تقريباً، وقد بلغ من الضعف في الثمانينات، ما يكفي خصومه لتجاوز مسألة منافسة النموذج، وتالياً، فإنّ ما جرى التنازل عنه من حقوق للعمال في الغرب، ينبغي سحبه.
بالتوازي، فإنّ ما سُمّي منذ أواسط القرن الماضي بـ«دولة الرعاية الاجتماعية»، لم تعد ضرورة، بل وأهم من ذلك لم تعد قابلة للحياة من وجهة نظر الربح.

إذا كان التأسيس النظري لفكرة دولة الرعاية، يعود في أحد جذوره إلى المفكر الاقتصادي البريطاني جون كينز، والذي نظّر لآليات تدخل الدولة في السوق للخروج من الأزمات الدورية عبر التحكم بالإنفاق الحكومي وغيرها من الآليات، فإنّ الواقع العملي للتنافس مع النموذج السوفييتي من جهة، بالتوازي مع الأزمات الرأسمالية المتلاحقة، هو ما حوّل هذه الأفكار إلى شيء ملموس في الدول الأوروبية.
ولكن مع خفوت التنافس من جهة، ومع تعمق الأزمات الرأسمالية من جهة ثانية، وبخاصة مع ارتفاع سلطة الشركات العابرة للقارات، وانخفاض معدلات ربحها رغم ذلك (بحكم تعقد التركيب العضوي لرأس المال)، بات الانتقال نحو النموذج النيوليبرالي، الذي تتخلى فيه الدولة عن قسم كبير من دورها الاجتماعي، حاجة ملّحة من وجهة نظر الربح...

ما بعد الليبرالية الجديدة

تظهر الإحصاءات الاقتصادية، أن وضع الطبقة العاملة في الغرب، وفي الولايات المتحدة ضمناً، وخاصة عبر مؤشر الأجور الحقيقية، لم تشهد أي تطور إيجابي خلال العقود الثلاثة الماضية، وأكثر من ذلك، فقد شهدت تراجعاً ملحوظاً إذا أخذنا في الحسبان التراجع المتفاقم للخدمات الاجتماعية، باعتبارها شكلاً ثانوياً من أشكال توزيع الثروة على المستوى الوطني.
مع انفجار أزمة 2008، وفقاعة الانتعاش التي تلتها، ولم تلبث أن انفجرت مجدداً خلال العام الماضي بشكل أكثر كارثية، حتى انطلقت يد الشركات الكبرى في انتزاع المزيد من حقوق العمال.
ولكن مع ذلك، فإنّ «التدخل الحكومي» لإنقاذ البنوك المنهارة، كان قد سطّر في 2008 الكلمة الأولى في نهاية حقبة الليبرالية الجديدة، التي تقوم أساساً على تحييد الدولة ودورها الاجتماعي.

أهم من ذلك، أنّ الشركات الكبرى، تظهر اليوم حاجة مضاعفة لتدخل جهاز الدولة، ولكن بأية صيغة ولمصلحة من؟
ما نعتقده، ونرى مؤشراته الواضحة في المكارثية الجديدة و«الحرب الجديدة على الشيوعية» وغيرها من الظواهر، أنّ النخبة العالمية تريد لجهاز الدولة اليوم أن يلعب دوره السافر والواضح بوصفه جهاز قمع طبقي، ودون حتى الوظيفة الملازمة لذلك التي تقول بأنه جهاز قمع وتنظيم وتلطيف للصراع الطبقي... ما يعني أنّ المطلوب اليوم من جهاز الدولة في الغرب، من وجهة نظر مالكيه الفعليين، أن يتحول إلى مجرد أداة قمع وإخضاع ولا شيء آخر، والتلويح بـ«الحرب على الخطر الشيوعي»، ليست أكثر من أحد المداخل الأساسية لهذا الدور الجديد...
هذا التحول السافر في دور جهاز الدولة، يهدد وجود هذه الدول نفسها... ولذا، ليس مستغرباً نهائياً، أن يزداد مثلاً، زخم الحديث عن احتمالات تقسيم الولايات المتحدة...

988-2

 

معلومات إضافية

العدد رقم:
988
آخر تعديل على الإثنين, 19 تشرين1/أكتوير 2020 15:21