عودة العقل التدريجية إلى العالم
محمد المعوش محمد المعوش

عودة العقل التدريجية إلى العالم

تُجمع العديد من المواقف النقدية الأكاديمية- العلمية، أن العقل العلمي شهد تشظياً في العقود الماضية، وبالتالي سادت فيه الانتقائية، بينما تُجمع مواقف أخرى أن العقلانية قد ساد مكانها الفكر العدمي والماورائي. وترتبط غالبية هذه المواقف بالاتجاه الليبرالي الاقتصادي- السياسي- الاجتماعي- الثقافي المسيطر طوال العقود الماضية، الذي عزز التنافسية الفردية ضيقة الأفق، والإنتاج الكمي للمواد العلمية على حساب نوعيتها، ربطاً بالرّبح والسوق، وضرب علاقة العلم بالتطور الاجتماعي العام. ولكن خلف هذا كلّه هو تعطيل ممنهج للفكر، أرادت به الإمبريالية ودوائرها الإيديولوجية إبادة فكرية، فكان عصر «ظلمات» عنيف.

الحامل المادي للعقل السهل

لم يتم إخراج العقل بقرار إرادي فقط لدوائر القرار الإمبريالية تلك، بل شكّل نمط الحياة الليبرالي القاعدة المادية البنيوية لذلك. فالفكر المهادن للواقع، المستسلم لـ«مغرياته الاستهلاكية» السطحية، لم يكن ليقف موقفاً نقدياً من الواقع ليخترق سطحه. فساد القبول، وتعطل الإبداع، وما العقل إلا إبداع لإنتاج الجديد، وسبر جوهر الظواهر. ووقفت الذات الفردية سداً منيعاً في وجه النقد. فالحساسية الفردانية التي ترفض- بسبب معاييرها الفردانية تحديد- تقبّل النقد وممارسته. وخصوصاً عندما يصير هذا النقد تهديداً لها، لإبراز ضعفها. فالمسلك كان قد حُدِّد: الفرد بحد ذاته جوهرٌ «ناجح»، «كامل»، وما عليها إلا ممارسة قدراته الكامنة. الفرد في الليبرالية يتطور كمياّ، لا نوعياً. وكيف إذا كان الفرد في المجتمع الليبرالي مهمشاً، رغباته مقموعة ومشوهة، ما ينتج شعوراً بالضعف، لأن معايير النجاح السائدة تقوم على تحقيق هذه الرغبات والحاجات في قالبها الليبرالي الفردي! فخاف الإنسان من الحقيقة، وما نفع العقل دون بحث عن الحقيقة؟

أمثلة رقمية عن أسطول المدمِّرات

رافق هذا الحامل المادي هجوم على الوعي، مقدِّماً المادة الداعمة للتعطيل، والمعايير التي شكلت منصة الحكم الفردي التي لعبت دور حصان طروادة الفكري. فصار الفرد هو نفسه مصدر قمع ذاته، ارتفع تناقضه الداخلي. وكلما احتد هذا التناقض، اشتد القمع الذاتي، إلى أن ينفجر في أمراض عقلية- جسدية فاضت في المجتمع. مارس هذا الهجوم على الوعي أسطول من وسائل الإعلام والتربية والدعاية العالمية، الذي تبلور في منتصف الخمسينات (تاريخ الرشوة التاريخية الذي قامت بها الرأسمالية). حيث أنفقت الرأسمالية مئات مليارات الدولارات في ذلك التاريخ لتحضير البنية التحتية لهذه الوسائط. وكان الظهور القوي لهذه الوسائط في العالم العربي مثلا في مرحلة انهيار الاتحاد السوفييتي، ودخول غالبية العالم الطرفي في دائرة التبعية بعد مرحلة قطع نسبي معها.
أهم الشركات العالمية في مجال الوسائط (الميديا) هي أمريكية، بقيمة سوقية توازي ترليون دولار! ومنها: ATT (قيمة سوقية حوالي ربع ترليون دولار) التي تضم شبكات بث فضائية كالـ CNN وTNT و TBS، والتي تضم إنتاج الأفلام والترفيه كـWARNER ، إلى جانب دور نشر الكتب والمجلات. ولدينا أيضا شركة ألفابيت إينك (Alphabet Inc.)، التي هي الشركة الأم لغوغل، بقيمة سوقية توازي ربع ترليون دولار، والتي تستثمر في شركة إنتاج الأفلام العالمية، أستوديوهات القرن العشرين (20st century studios)، وفي شركة أندريسين هورويتز (Andreessen Horowitz ) العاملة في مجال الهواتف والتعليم والألعاب، والتي تستثمر بمنصات كتويتر Twitter، وسكايب Skype، وغيرها من مئات الشركات المختلفة في مجال النقل والأغذية والصحة والأمن والدفاع العسكري ومراقبة الحدود. وتدير ألفابيت إينك قطاعات أخرى إلى جانب الإنترنت والتكنولوجيا، كالصحة، عبر شركات Calico وVerily. وهناك الشركة المعروفة وولت ديزني (Walt Disney)، بقيمة سوقية توازي أيضاً ربع ترليون دولار، والتي تغطي مجالات: بث الراديو والتلفزيون، وشبكات الكايبل، والترفيه كالمنتزهات والمنتجعات، ومجال إنتاج الأفلام، وتسجيل الماركات المسجلة، وإصدار المجلات والكتب، وإنتاج منصات الألعاب على الشبكة، وألعاب الهواتف. وهناك شركة كومكاست (Comcast CMCSA)، بقيمة سوقية حوالي 200 مليار دولار، والتي تغطي مجالات عدة كالاتصال عبر الكايبل وشبكات الكايبل محلياً وعالمياً، والبث التلفزيوني وصناعة الأفلام. وهناك الشركات «الأصغر» بقيمة سوقية توازي الـ 100 مليار دولار، كـ: شارتر للاتصالات CHTR.
وتضم هذه التكتلات العملاقة شركات الدعاية والأفلام والموسيقى والإنترنت والألعاب وصناعة الأزياء والعطور والترفيه السياحي والنقل والغذاء ودور النشر...

المواجهة

على الرغم من أن المرحلة التاريخية تخلق أرضية لضرب القاعدة المادية التي شكلت التوليفة الفردية لضرب العقل، وتعطيل النقد والقبول بالواقع، إلا أن مستوى الوعي لا زال يخضع للهجوم اليومي المكثف من الأسطول الذي ذكرناه أعلاه، الذي لا يكفي معه فقط العمل السياسي المباشر، وحتى وسائل الدعاية السياسية الضيقة. والمطلوب هو مواجهته، على مستوى الاتساع والمضمون الجديد، هذا المضمون الذي يملك اليوم إمكانية جذب العقول والقلوب، إذا ما قدر على تقديم الإجابات حول أعمق حاجات وطموحات الشعوب المادية والروحية، مجتمع قيمة الفرد وتحقيق ذاته الفردية في إطار تقدم الجماعة الكلي.
على الرغم من أن المضمون الجذري هذا غير موجود في شركات مواجهة سياسية للدعاية الغربية، إلا أن الشركات «الشرقية» لم تدخل إلا مؤخراً على المشهد، كالصينية تنسنت Tencent وبايدو Baidu بقيمة سوقية توازي الـ600 مليار دولار للأولى، و40 مليار دولار للثانية. هذا أخذاً بعين الاعتبار أنهما تعملان في أكبر اقتصاد عالمي، هو الصين، مما يرفع من حجمهما السوقي. والملاحِظ للتفزيون الصيني الناطق باللغات العربية والإنكليزية الذي بدأ بالتوسع عالمياً منذ فترة قليلة، أنه يقوم بمواجهة فكرية وسياسية مباشرة ضد الطروحات الغربية الأمريكية تحديداً، ولكنها لا زالت في المجال السياسي المباشر مع بعض التوسع في مجال القيم البديلة الشرقية، من موقع الدفاع، لا من موقع الهجوم على نمط الحياة المشكِّل لعقل الليبرالية، ودون تقديم بديله الناضج.
إن عودة العقل إلى العالم بدأت تجري على المستوى المادي من باب الكارثة البشرية الشاملة، ولكن لا زالت عودة العقل الواعية تحتاج إلى مجهود عالمي يوازي النقلة الضرورية، التي علينا كأحزاب وقوى أن نقوم بدورنا تجاهها، ولكنها تحتاج إلى بناء رافعتها العالمية الأممية.

معلومات إضافية

العدد رقم:
979
آخر تعديل على الإثنين, 17 آب/أغسطس 2020 12:33