متى تتجاوز المصلحة الأوروبية النفوذ الأمريكي؟
سعد خطار سعد خطار

متى تتجاوز المصلحة الأوروبية النفوذ الأمريكي؟

لطالما اعتبرت الولايات المتحدة الأمريكية نفسها دولة «استثنائية»، ولا تزال على هذه القناعة حتى هذا اليوم، رغم كل التداعي في وزنها الاقتصادي والعسكري والسياسي عالمياً؛ إذ لا تزال تستخدم هذه «الاستثنائية» كمبرر لفرض إرادتها على بقية العالم، وبشكل خاص اليوم ضد أوروبا التي على ما يبدو أن الأمريكي يشعر أن لديها من المصلحة ما يكفي لتضع حداً للتبعية الطويلة للسياسات الأمريكية.

منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، تعتبر الولايات المتحدة أن لها الحق في التدخل الكامل بشؤون النصف الغربي من الكرة الأرضية بموجب ما يسمى «عقيدة مونرو»، وهي العقيدة التي لا تزال تؤكد نفسها من خلال التدخل الأخير الواضح في الشؤون الداخلية لفنزويلا ونيكاراغوا. بل وحتى بالعودة إلى الوراء، تشن الولايات المتحدة حرباً اقتصادية وسياسية على كوبا منذ الإطاحة عام 1959 بنظام باتيستا الفاسد. وتتجسد غطرسة الولايات المتحدة في احتفاظها بقاعدة خليج غوانتانامو العسكرية على الأراضي الكوبية، على الرغم من الطلبات الواضحة للحكومات الكوبية المتعاقبة بأن تحزم الولايات المتحدة حقائبها وتغادر. ويتجلى التجاهل التام لرغبات الحكومة الكوبية ليس في استمرار استخدام غوانتانامو كقاعدة عسكرية أمريكية، بل وكذلك في استخدام تلك القاعدة كمركز للاحتجاز إلى أجل غير مسمى للأشخاص الذين تعتبرهم الولايات المتحدة تهديداً لسلامتها الوطنية.

تجديد في العقيدة

منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، امتد نموذج «التفرد الأمريكي» إلى ما هو أبعد من الحدود الأصلية لعقيدة مونرو. ويتجلى هذا في عدة طرق، من بينها، شبكة تضم أكثر من 800 قاعدة عسكرية أمريكية حول العالم، وهي مقسمة هذه الأيام بين روسيا والصين بطبيعة الحال، باعتبارهما مركز الاستهداف العسكري الأمريكي.
ومع تغير التوازنات الدولية، اضطرت الولايات المتحدة لتغيير الطريقة التي تعاملت فيها مع مبدأ مونرو، فلم يبق في يدها حيلة إلا أن تركز مستوى الضغط على القوى الحليفة تقليدياً لها، ويظهر هذا النهج بوضوح مؤخراً، ولا سيما من خلال المحاولات الأمريكية لتخريب استكمال مشروع الغاز المعروف باسم «السيل الشمالي 2».

السيل وتجاوز العثرات

لدى بعض الدول الأوروبية إمكانات اقتصادية كبيرة، ومع ذلك، فإنها تحتاج إلى الطاقة من أجل تشغيل آلات هذه الاقتصادات، وكذلك من أجل التدفئة خلال الشتاء الأوروبي القاسي. وتفتقر أوروبا حتى الآن إلى هذه الطاقة، مما يضطرها لاستيرادها من الخارج. وهنا يبرز النفط والغاز الروسي إلى الواجهة، حيث تتمتع روسيا بفائض من هذه الطاقة، وكذلك بالاستعداد لإمداد أوروبا بجزء من هذا الفائض. وفي أي تقييم موضوعي، فإن الأكثر ربحاً لأوروبا هو أن تلجأ إلى استيراد احتياجاتها من النفط والغاز من روسيا، كونها مصدراً موثوقاً ورخيصاً نسبيا للطاقة المطلوبة. ووفقاً لتقديرات حديثة، فإن مشروع «السيل الشمالي 2» سيوفر ما يصل إلى 55 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي سنوياً من روسيا إلى ألمانيا صاحبة الاقتصاد الأقوى والأمتن اوروبياً، وسيمر المشروع عبر المياه الإقليمية للدنمارك وفنلندا والسويد وألمانيا، ويبلغ طول خط الأنابيب 1230 كيلومتراً، وفي يومنا هذا لا يزال هنالك أقل من 100 كيلومتر من البناء اللازم لإكمال المشروع. وفي تموز 2020، تم التغلب على العقبة القانونية النهائية في وجه المشروع، عندما وافقت الدنمارك على استخدام مياهها الإقليمية لجزء صغير من مسار خط الأنابيب.

الممانعة الأمريكية

عارضت الولايات المتحدة الأمريكية- التي ترغب في بيع غازها صاحب الكلفة الأكبر إلى أوروبا- المشروع منذ البداية. وهنا برز السؤال لدى العديد من المحللين: كيف تكون إمدادات الطاقة في أوروبا مصدر قلق كبير للولايات المتحدة، حتى أنها تضع جانباً المصلحة التجارية الواضحة في بيع طاقتها إلى أوروبا؟
مثل هذا السؤال يقلل بشكل خطير من الاعتراضات الأمريكية. فأولاً، مجرد فكرة أن ألمانيا وغيرها من الدول الأوروبية يمكن أن تتخذ مثل هذه القرارات بوضوح وفقاً لمصلحتها الخاصة، هي فكرة مرفوضة بالنسبة لواشنطن، حيث أنه من شأنها أن توضح مستوى التراجع الأمريكي، وضعف نفوذه حتى على الحلفاء التقليديين الذين فرضت الولايات المتحدة إرادتها عليهم على مدى السبعين عاماً الماضية، ولن تقبل بسهولة أي تحد لهذه الهيمنة دون إبداء ممانعة من نوعٍ ما.
ثانياً، من الواضح أن المشروع يصب في المصالح الاقتصادية والسياسية لروسيا، وهو سبب في حد ذاته لمعارضة الولايات المتحدة. حيث لا تزال الحكومات الأمريكية المتعاقبة تصور بلا كلل «التهديد الروسي» المحدق بواشنطن، وأي تعاون متبادل المنفعة بين روسيا وجيرانها يُقوّض بوضوح تلك الدعاية التي لا أساس لها على أرض الواقع.
أما الأهم من هذا وذاك، هو أن الولايات المتحدة إذ تخوض هذه المعركة ضد «السيل الشمالي2»، فهي تخوضها ولديها شعور عارم بأن «السكين على رقبتها»، وهذا صحيح، ذلك أن الولايات المتحدة حتى وإن تغاضت عن التعاون الروسي الأوروبي، فهي لا يمكن أبداً أن تتغاضى عن تبعات هذا التعاون على اقتصادها هي بالذات، ولا سيما أن الانفتاح في العلاقات الاقتصادية الروسية الأوروبية من شأنه أن يمهد الطريق ليس لاستبعاد الطاقة الأمريكية من السوق الأوروبية فحسب، بل وكذلك الاحتمال الكبير القائم بأن يقوم الجانبان لاحقاً باستبعاد الدولار من مدفوعات هذه الطاقة، وما يزيد من إمكانية هذا الاحتمال هو السعي الروسي الدؤوب لاستبعاد الدولار من المبادلات التجارية العالمية، وكذلك الرغبة الأوروبية التي تظهر لدى بعض القوى السياسية في ملاقاة هذه الرغبة الروسية الصينية التي تؤمن في العمق مصالح أوروبا أيضاً.

معلومات إضافية

العدد رقم:
979
آخر تعديل على الإثنين, 17 آب/أغسطس 2020 12:28