على سيرة الانتخابات...
لعبت انتخابات مجلس الشعب في سورية عبر عقود مضت دوراً أقرب ما يكون إلى تنفيس منظم تقال على هوامشه أمور ليس «من المعتاد» قولها خارج أيام «الأعراس الوطنية».
حملت الانتخابات الأولى بعد انفجار الأزمة، آمالاً بأن تعكس شيئاً من التغيرات الفعلية التي جرت على أرض الواقع، ولكنّها لم تخرج عن السياقات المعتادة إلا ضمن حدود ضيقة.
الدورتان التاليتان ضمن الأزمة، تجاوزتا حتى الوظيفة التقليدية للتنفيس، وباتتا تلعبان دوراً معاكساً؛ إذ باتت الشعارات الفارغة المكررة ضمن القانون الانتخابي نفسه والمنظومة نفسها والنتائج المتوقعة نفسها، أداة في مراكمة احتقان الناس وشعورهم بانفصال العملية بأكملها عن الواقع الكارثي الذي يعيشونه.
ولأنّ الأمور كذلك، فإنّ من المفيد، وبعيداً عن «الأعراس»، أن ننظر بشيء من الهدوء إلى ما ينبغي أن تكون عليه الانتخابات بعد القادمة، الانتخابات كجزء من تنفيذ القرار 2254، وفي الجوهر كأداة لإنفاذ حق الشعب السوري في تقرير مصيره.
«بيئة آمنة ومحايدة»
أول ما ينبغي العمل عليه من أجل الانتخابات القادمة، هو كنس كم الأكاذيب الضخم، الذي يجري تقديمه على شكل مصطلحات وكلمات رنانة، والتي من عادة المؤسسات الدولية والغربية خاصة أن تطمر به وعي الناس اتجاه العمليات الانتخابية.
في الحالة السورية، لا يكف الغربيون، ومَنْ والاهم، عن لَوْك مصطلح البيئة الآمنة والمحايدة لإجراء الانتخابات، والذي يمكنه أن يعني أي شيء، ويمكنه أيضاً ألاّ يعني شيئاً على الإطلاق... (تناولت مادة سابقة في قاسيون هذا المصطلح وشكل وغرض استخدامه، ويمكن الانتقال إليها في النسخة الالكترونية: كيف يفهم الغرب «البيئة الآمنة»، وكيف يستخدمها؟)
نكتفي هنا بالإشارة إلى واحد من المخاطر التي أشارت إليها مادة قاسيون آنفة الذكر، وهي تلك المتعلقة بـ«انعدام إمكانية تحقيق البيئة الآمنة في جميع مناطق سورية بشكل فوري» من وجهة نظر «الخبراء الغربيين»، والتي يبنون عليها استنتاجاتهم التي تقول بضرورة توفير البيئة الآمنة بشكل خاص ضمن المناطق «المحررة»، وفي بلدان اللجوء كأولوية. ما يعني استباقاً على عملية وطنية جامعة، بل وعلى الحل السياسي بأسره، عبر تحويله إلى «حل بالتقسيط» وضمن أجندة مخالفة للقرار 2254، وفي الجوهر مخالفة لحق الشعب السوري في تقرير مصيره بنفسه؛ فالقول بتحقيق «بيئة آمنة ومحايدة» في جزء أو أجزاء من سورية دون غيرها، وعدا عن هلامية المعايير التي يجري وضعها للقول بذلك التحقق، فإنه قول يؤسس لعملية تقسيم أمر واقع... هذه السياسة تنسجم مع فكرة «التغيير من تحت لفوق عبر المجالس المحلية» التي لطالما روّج لها معهد راند الأمريكي، والتي جرى ويجري دعمها بسخاء عبر «المساعدات» الغربية، التي تصب بالمصادفة البحتة، بقسمها الأعظم، في جيوب تلك المجالس بالذات، وبعيداً عن محتاجيها الحقيقيين.
مزيد من الكلمات
من المفهوم بداية، أنّ نوعية ودرجات وأشكال الانتخابات القادمة، تتعلق بالدرجة الأولى بالدستور الجديد، والتحديدات التي سيقدمها لطبيعة المؤسسة التشريعية والمؤسسات الأخرى للدولة، وهذا موضوع آخر لا يزال موضع نقاش وجدل واسع. ولكن مع ذلك فإنّه لا جدال في أهمية أن تكون الانتخابات نزيهة وشفافة، وأن يتم وضع آليات عملية واضحة ومناسبة لضمان ذلك، ولكن هذا كله لا يزال يندرج في إطار الكلام العام الذي يمكن أن يستخدم لتغطية الحقائق؛ فليس من نظام سياسي على وجه الأرض يقول عن «انتخاباته» إنها انتخابات فاسدة أقرب في جوهرها إلى عمليات تعيين مسبق، ولكن يجري إخراجها مع كثير من الطبل والزمر.
كي لا تبقى الكلمات العامة أدوات للتضليل، لا بد لها من معايير عملية وتنفيذية من جهة، ولكن من الجهة الأخرى، وبالدرجة الأولى، لا بد لها من مبادئ أساسية تحكم العمليات الانتخابية... وهنا نطرح للتفكير والنقاش بعضاً من النقاط في الاتجاهين (مبادئ عامة، معايير عملية)
مبادئ عامة
ينبغي أن تضمن العمليات الانتخابية حق الناخبين في سحب الثقة ممن يتم انتخابهم؛ فالآلية التقليدية للعملية الانتخابية التي تتطلب أن ينتظر الناخبون كامل الدورة الانتخابية لتبديل المنتخبين، حتى ولو ثبت أنهم ليسوا أهلاً للمواقع التي احتلوها بعد يوم واحد، هي آلية أثبتت فشلاً ذريعاً، وجرى تجاوزها عملياً في بعض البلدان، ضمن معايير قانونية محددة تسمح للناخبين بإسقاط المنتخبين في أية لحظة يثبت فيها عدم أهليتهم.
عمليات الانتخاب على كل المستويات وبكل الأنواع، يجب أن تستند إلى الطروحات البرنامجية لا إلى شعارات عامة. كذلك فإن من المهم أنْ تمنع القوانين الخاصة بالانتخابات أي نوع من أنواع المحاصصة بأشكالها المختلفة، سواء القومية أو الدينية أو الطائفية، لأنّ أي نوعٍ من المحاصصة هو فقط ضمانة للتقسيم اللاحق، ولذا ينبغي أن تقوم الانتخابات بأسرها على أساس وطني جامع. جزء من تحقيق هذه الغاية هو بالضرورة قانون أحزاب جديد يمنع تأسيس أي حزب على أسس دينية أو طائفية أو قومية.
ثلاثة معايير عملية
لكي تكون الانتخابات نزيهة وعادلة حقاً، ينبغي وضع آليات ومعايير ملموسة...
أولاً: ضمان التكافؤ بين إمكانات الحملات الانتخابية للمتنافسين. الأمر الذي يعني ضمناً التكافؤ في حجم تمويل كل حملة ومصادر وآليات صرف الأموال بحيث تخضع لرقابة صارمة. وكذلك ضمان التكافؤ في الظهور الإعلامي للمرشحين المختلفين.
المسألة الثانية المتضمنة جزئياً في الأولى- ولكن التي تحتاج إلى وقوف خاص عندها- هي: الآليات اللازمة لمنع المال السياسي من التلاعب في العمليات الانتخابية، والتي تحتاج إضافة إلى الإجراءات السابقة، إلى تشديد العقوبات على مستخدمي المال السياسي، والتي تبدأ بطردهم من السباقات الانتخابية، ولا تقف عند الطرد.
مسألة ثالثة لها أهميتها الخاصة: هي ضرورة منع أجهزة الدولة التنفيذية من التدخل في العملية الانتخابية، ووضع أية أدوار ضرورية لها ضمن العملية تحت الرقابة المشتركة للقضاء والناخبين والإعلام.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 974