كيف يفهم الغرب «البيئة الآمنة»، وكيف يستخدمها؟
يرِد تعبير «البيئة الآمنة» بشكل متكرر على لسان مسؤولين وموظفين في الأمم المتحدة، وكذلك الأمر مع مسؤولين و«خبراء» غربيين، وبطبيعة الحال على لسان قسم من المعارضة السورية، وذلك خلال تناول هؤلاء للقرار 2254 وللحل السياسي على العموم، بوصف تلك البيئة محطة من محطات تطبيق القرار، وأحياناً هدفاً من أهدافه...
أحياناً، يرد التعبير بصيغة «البيئة الآمنة والهادئة والمحايدة»، وأحياناً أخرى بإسقاط صفة الهادئة (التي يُعبّر أحد الخبراء الأوروبيين محقاً أنها تكاد لا تعني شيئاً) ليظهر بالشكل «البيئة الآمنة والمحايدة»، وفي أغلب الأحيان يجري الاكتفاء بالقول: «البيئة الآمنة»، ربما على سبيل الاختصار...
ظهر التعبير أول مرة بصيغته المطولة، على لسان دي مستورا بعد الجولة الرابعة من جولات جنيف، أي: بالضبط بعد الجولة التي جرى فيها تحديد السلال الأربع: (الحوكمة، الدستور، الانتخابات، محاربة الإرهاب)، وإقرار مبدأ التوازي في العمل عليها.
بعد الجولة الخامسة، بدأنا نسمع بين الفينة والأخرى، تسمية مختلفة للسلة الأولى، تسمية تبدو وكأنها تسللت خلسة وباتت مع الوقت جزءاً من التسمية الأصلية: «سلة الحوكمة والبيئة الآمنة».
عودة إلى 2254
بالرجوع إلى القرار 2254 للبحث عن موقع هذا التعبير ضمنه، فإننا سنلاحظ ليس فقط غياب الصيغة الكاملة ثلاثية الصفات فحسب، أي: (الآمنة والهادئة والمحايدة)، بل إننا لن نجد أياً من الكلمات الأربع (البيئة، الآمنة، الهادئة، المحايدة)!
ولكن مع ذلك، يمكن البحث ضمن بيان جنيف 30 حزيران 2012، والذي يعتبر متضمناً في القرار 2254، لتأكيد هذا الأخير في الفقرة الخامسة من مقدمته على التطبيق الكامل لبيان جنيف.
في بيان جنيف يمكننا العثور على تعبير «بيئة محايدة»، ضمن السياق التالي: «إنشاء جسم حكم انتقالي يتمكن من إنشاء بيئة آمنة يمكن للانتقال أن يجري ضمنها». يمكننا أيضاً أن نجد تعبير «ضمن جو يضمن الأمان والاستقرار والهدوء»، وكلمة جو هنا تقابل (climate مناخ) في النص الأصلي، أو (in a way that assures، بطريقة تضمن...).
خلاصة المراجعة، هي أنّ أساس التعبير موضع البحث، ليس مكيناً ضمن القرار 2254 وضمن بيان جنيف، بل هو تعبير مشتق من النصين دون ارتباط واضح أو تحديد واضح، ولذا لا يمكن الاكتفاء به بذاته باعتباره أمراً مفهوماً وواضحاً دون الاتفاق على معانيه.
رأي لخبير في الأمم المتحدة
في إحدى ورشات العمل التي عقدت مؤخراً حول «البيئة الآمنة»، عبّر خبير أوروبي عن قناعته، واستناداً لخبرته في العمل في أكثر من حالة تسوية لصراع «داخلي»، بالقول: «إن تعبير البيئة الآمنة والمحايدة يتعلق حصراً بالانتخابات»، أي: أن المقصود هو البيئة المناسبة لإجراء انتخابات تفرز قيادات وحكومات ما بعد الأزمة.
تبرير الاستخدام
ينقل مصدر سوري مقرب من كواليس الأمم المتحدة، تبرير أحد أعضاء الفريق الأممي المبعوث لسورية، أيام دي مستورا، اتجاه الأخير نحو استخدام المصطلح، والتغاضي عمن يستخدمه ربطاً بالسلة الأولى، بالقول: إنّ صعوبة الدخول في نقاش السلة الأولى، أي سلة الحوكمة المعنية أساساً بجسم الحكم الانتقالي، دفع الأمم المتحدة إلى محاولة الدخول بشكل موارب إلى الموضوع نفسه من بوابة البيئة الآمنة، لأن الوصول إلى هذه البيئة يتطلب جملة من التغييرات والإجراءات التي تشكل بمجموعها متطلبات جسم الحكم نفسها.
حقيقة التبرير
بالرغم من أنّ التبرير قد يبدو مقنعاً للبعض، إلا أنّ مزيداً من التمحيص في المسألة، من شأنه أن يفتح الباب على فهم مختلف، وخاصة إذا أخذنا بعين الاعتبار الملاحظة المهمة التي قالها الخبير الأوروبي: «البيئة الآمنة والمحايدة تتعلق حصراً بالانتخابات»، وإذا أضفنا إلى هذا الكلام أولويات السياسة الأوروبية والأمريكية تجاه سورية، المعلنة منها على الأقل، وتحديداً ما يتعلق بعودة اللاجئين والتركيز على مهمة «تغيير سلوك النظام» بدلاً من «تغيير النظام»، وكذلك الوقوف في وجه إعادة الإعمار حتى إنجاز المهمة المطلوبة، ترتيب هذه القطع جميعها ربما يعطينا صورة مغايرة...
رأي دبلوماسي أوروبي
ينقل صديق عن دبلوماسي أوروبي التقاه مؤخراً، أنّ هذا الأخير وخلال نقاش تعبير البيئة الآمنة والمحايدة، طرح الأفكار التالية: (-لا نعتقد أن مسألة عودة اللاجئين حالياً هي أولوية لأن الأمر تعترضه عقبات كبرى تتعلق بتوفير الأمن بمعانيه المختلفة للعائدين. - بالمقابل ينبغي التفكير بتوفير الأمن في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، وهذا أمر قابل للتحقيق. - يمكن أيضاً التفكير ببدء العمل في إصدار وثائق انتخابية للسوريين الموجودين في هذه المناطق، وحين يجري لاحقاً تشكيل هيئة معنية بالانتخابات، تصبح عملية التصديق على تلك الوثائق عملية سريعة وفعالة. - بالنسبة لصفة المحايدة، فهي تعبير إنشائي أكثر من أنه تعبير واقعي، ففي ظروف أزمات طاحنة من النوع السوري، فإن تحقيق صفة الحياد يكاد يكون أمراً مستحيلاً حتى بعد عدة سنوات من انتهاء الصراع.)
والعبرة؟
إذا حاولنا تركيب القطع مع بعضها البعض، فإنّ النتيجة من وجهة النظر الغربية، قد تبدو على الشكل التالي:
ينبغي التخلي نهائياً عن فكرة جسم الحكم الانتقالي وإسقاطها من 2254 عبر الالتفاف عليها باستخدام الحديث عن البيئة الآمنة والمحايدة وشروط تحقيق تلك البيئة.
ينبغي إبقاء الوضع على حاله حتى الوصول إلى الانتخابات، أي ينبغي أن يبقى السوريون موزعين على ثلاث مناطق أو أكثر (في الداخل منطقتين أو ثلاثة، إضافة إلى اللاجئين).
بإجراء الانتخابات (التي لا يمكن أن تتم في بيئة محايدة لأن ذلك مستحيل!) سوف يجري التحكم بالنتائج من قبل المسيطرين على تلك المناطق، في مناطق النظام يتحكم النظام، وفي مناطق المعارضة والنصرة تتحكم المعارضة والنصرة، وفي مناطق اللجوء تتحكم دول اللجوء، ووفقاً لطبيعة التفاهمات الدولية التي ستجري حتى ذلك الحين، والتفاهمات الغربية بالذات مع الأطراف السورية المختلفة، سيجري تحديد النتيجة.
محصلة الأمور، هي سلب السوريين حقهم في تقرير مصيرهم، وتوزيع هذا الحق على دول وأطراف سياسية، وكل ذلك تحت يافطة تطبيق القرار 2254، وتحت شعار البيئة الآمنة والمحايدة، ولكن بالضبط عبر القفز فوق جوهر ذلك القرار، أي: حق السوريين بتقرير مصيرهم بأنفسهم.
الموقف الغربي مجدداً
ضمن هذه المقاربة، يغدو الموقف الغربي من مسألة اللاجئين، ومن مسائل إدلب وشرق الفرات، أكثر وضوحاً؛ المطلوب هو إطالة الأزمة قدر الإمكان، وحين نصل إلى خط النهاية، يجب أن يكون «الحل» مؤطراً بشكل مسبق ضمن حدود إرادات الدول، والغربية منها بشكل خاص، ولا مانع في حينه من تسويات «من فوق لفوق» تضمن المصالح الغربية على حساب مصلحة من هم «تحت» من السوريين، أي: على حساب الغالبية العظمى من السوريين.
حظوظ النجاح؟
نجاح أفكار وخطط من هذا النوع، لا يتوقف على درجة «دهاء» واضعيها، إنْ صح التعبير، وهي درجة نزعم أنها لم تعد منذ زمن بذلك «التفوق» الذي كانت عليه قبل عقود، بل يتعلق أساساً بتوازن القوى الفعلي، على المستويات الدولية والإقليمية والمحلية، وهذه توازنات باتت شديدة الوضوح في ميلها ضد المصلحة الغربية على العموم، وضد مصلحة أزلام الغرب المحليين والإقليميين على وجه الخصوص، فهؤلاء هم أول من سيجري التخلي عنهم في سياق التراجع الغربي...
بالمقدار نفسه من الأهمية، ينبغي النظر إلى خبرة الطرف المضاد للغرب، وفي المسألة السورية، يخطئ من يسقط من حساباته الوعي الذي اكتسبه السوريون خلال سنوات درب آلامهم الطويل الذي خاضوا شوطه الأطول وباتوا على مقربة من نهايته!
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 922