لن نعود إلى «الوضع الطبيعي» فهو المشكلة!
عندما كانت الطائرات الروسية تنقل أطنان المساعدات إلى إيطاليا خلال الأسبوع الماضي، كان لا بد لها من أن تسير 2500 ميل إضافي بسبب الحظر الذي يفرضه حلف الناتو وبولندا على الطائرات الروسية. وبينما كان الإعلام الغربي يلوك الرواية المفبركة لقصة الطبيب الصيني في ووهان، كان إعلان الرئيس الصيني حاسماً: قدمنا المساعدة للولايات المتحدة، وسنواصل تقديمها.
كما في كل الأطوار الانتقالية الصعبة التي مرّ بها التاريخ البشري، ينفتح اليوم سؤالُ المستقبل على نطاقٍ شامل، وهو السؤال الذي سيظلُّ أسيراً للتكهنات والشكوك ما لم يتخذ المرء موقفاً رصيناً إزاء سؤال الحاضر: هل العالم الذي نعيش فيه- بوصفه عالماً مقيداً بقوانين المنظومة الرأسمالية– قابل للاستمرار؟ وهل يمكن للبشرية أن تعود إلى الوراء، إلى ما قبل الأزمة الاقتصادية وانهيار أسواق الأسهم العالمية وحرب أسعار النفط وفيروس كورونا؟
كورونا... مثال واحد فقط
في ازدحام الأحداث وتسارعها اليوم، يبدو من الصعب على كثيرين ربما أن يتذكروا الواقع الذي كان قائماً في العالم قبل المستجدات الأخيرة، حين كان الكوكب كله وبالمعنى الحرفي «يقف على قدمٍ واحدة». ألم تخرج الاحتجاجات في معظم أصقاع العالم وبكثافة غير مسبوقة؟ ألم نشعر جميعنا أن مستوى الإحباط والاحتقان قد بلغ في العالم وفي منطقتنا مبلغاً ينبئ بتغييرات كبرى مقبلة؟
إن المسألة المفتاحية التي ينبغي وضعها على بساط البحث اليوم لا تكمن في السؤال عن أسباب انتشار فيروس كورونا، بل السؤال، لماذا خارت وعجزت معظم أجهزة الدولة في العالم أمام هذا الفيروس؟ ولم تعد الإجابة عن هذا السؤال تحتاج إلى بحثٍ كثير، فالحقيقة اليوم أكثر سطوعاً من أن تغطى بغربال: إن المنظومة التي تُسيّر العالم تضع الربح محدداً أساسياً لعملها. وقد قدّم القطاع الصحي مثالاً، مثالاً واحداً فقط، على توحّش هذه المنظومة وتناقضها مع الحاجات الأساسية للإنسان.
وعلى هذا النحو، لا يتحمل فيروس كورونا المسؤولية عن مليارات البشر المُعطلين عن العمل أو الذين يعملون بشروط عمل غير مستقرة. بل تتحملها المنظومة التي اعترفت بنفسها في عام 2018 بجزءٍ من الحقيقة حين قالت إن 40% من العائلات الأمريكية و32% من العائلات الأوروبية لا يمكنها أن تتحمل نفقات غير متوقعة تتجاوز 400 دولار أمريكي (راجع بيانات مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، ومديرية يوروستات التابعة للمفوضية الأوروبية).
هذا الواقع المتردي للقطاع الصحي الذي ظهر في الغرب بشكل خاص، ليس سببه أن فيروس كورونا شكّل مفاجأة للنخب الحاكمة هناك، إنما هو نتيجة طبيعية تماماً لعمليات «التقشف» النيوليبرالية التي طالت هذا القطاع، في مقابل ذهاب الجزء الأكبر من الإنفاق لانتشال القطاع المالي والشركات من الكارثة الاقتصادية التي يعيشانها.
على هذا الأساس، بات واضحاً أكثر لعموم الناس خلو مثل هذه السياسات من الطابع الإنساني والأخلاقي الذي تغنت به دائماً، وأبانت الحقيقة كما هي: نحن البشر في نظر هذه المنظومة لسنا أكثر من مجرد أرقام وبراغي في آلة الربح، ولن تأخذ على عاتقها مهمة حمايتنا من المخاطر لأن ذلك يتناقض وجوهر وجودها.
وعلى النقيض من ذلك، يتضح للناس أيضاً النموذج المقابل للنموذج الغربي، وهو ما تقدمه اليوم دول مثل: الصين وروسيا وكوبا وغيرها، دولٌ تضرب اليوم مثالاً نادراً في التضامن الإنساني الحقيقي الذي لا يقتصر على تقديم المساعدات للشعوب الأكثر تضرراً فحسب، بل وكذلك في طرح المسائل الأكثر إشكالية على جدول الأعمال، مثل: تبادل المعلومات حول الفيروس، وبحث الإجراءات والطرق الأمثل لمساعدة الدول الأفريقية لمنعها من أن تتحول إلى بؤرة انتشار للفيروس، ورصد الفيروس في الدول التي لا تملك إمكانات لإجراء الفحوصات، والعمل المشترك لتطوير اللقاحات والأدوية، وإنشاء «ممرات خضراء» خالية من القيود التجارية لنقل الأدوية والأغذية عبر العالم، والبحث عن حلول لمشكلة البطالة طويلة الأمد الموجودة منذ ما قبل انتشار الفيروس، والتي تفاقمت ومن المتوقع أن تواصل تفاقمها مع انتشاره في دولٍ جديدة.
لن نعود...
تعاني المنظومة الرأسمالية العالمية من أزماتٍ ومشاكل بنيوية في الصلب منها: ميل معدل الربح نحو الانخفاض مع تعقد التركيب العضوي لرأس المال، وتركيز الاستثمار على القطاعات غير المنتجة بمقابل إهمال القطاعات الإنتاجية الأساسية والضرورية، وتزايد الجيش العالمي من المُعطَّلين عن العمل أو العاملين في مجالات غير مستقرة، وهذا النوع من الأزمات متواصل وطويل الأمد، وثمة نوع آخر متفرع، مثل: انهيار أسعار النفط وتداعيات فيروس كورونا.
الفكرة هنا: أن المشاكل التي تعاني منها البشرية ناتجة بجوهرها عن النوع الأول من الأزمات، والتي يشترط حلّها بالضرورة أن تتخلص البشرية من المنظومة الرأسمالية، وكل ما يدور في وسائل الإعلام من محاولات لإلقاء اللائمة فيما يجري على مشكلة أسعار النفط وتداعيات فيروس كورونا وحدهما، هدفه الإلقاء بالمزيد من القنابل الدخانية لتعمية حقيقة وصول المنظومة الرأسمالية إلى طريقٍ مسدود، بات يستدعي طرح البديل عنها على المستوى العالمي.
كان من الملفت خلال الأسبوع الماضي الجدارية التي ثبتها متظاهرون تشيليون على جدران أحد أبنية سانتياغو، والتي حملت شعار: «لن نعود إلى وضعنا الطبيعي، لأن (الوضع الطبيعي) كان هو المشكلة».
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 959