الاتفاق الأمريكي- التركي: «المنطقة الآمنة»: خطوة إلى الوراء!
مأمون علي مأمون علي

الاتفاق الأمريكي- التركي: «المنطقة الآمنة»: خطوة إلى الوراء!

أعلنت كل من واشنطن وأنقرة توصلهما إلى اتفاق حول «المنطقة الآمنة» التي كانت تركيا تطالب بها. وجاء الإعلان بعد تفاوض طويل بين الطرفين، سادت فيه أجواء الخلاف والتهديدات المتبادلة، ليأتي الاتفاق مُبهماً غير واضح المعالم، ما قد يفتح الباب على احتمالات تفجير الأجواء مجدداً...

سبق الإعلان عن الاتفاق عملية حشد القوات العسكرية التركية على الحدود الشمالية السورية، والمتواصلة حتى اللحظة، بحجج مختلفة «سواء أكان ذلك مع حلفائنا أو من دونهم»، بحسب تعبير الرئيس التركي رجب طيب أردوغان. وكان قد صرح في السياق ذاته وزير الدفاع الأمريكي مارك إسبر قبل يومين من إعلان الاتفاق أن: «أية عملية تركية في شمالي سورية ستكون غير مقبولة، وأن الولايات المتحدة الأمريكية ستمنع أي توغل أحادي الجانب».
إلى أنْ جاء الاتفاق ليخمد ضراوة التصريحات المتبادلة، التركية- الأمريكية، فما الذي خلص إليه الاتفاق؟

اتفقوا على أنهم سيتفقون!

بعد ثلاثة أيام من الاجتماعات المتواصلة في أنقرة لوفد عسكري أمريكي رفيع المستوى مع نظيره التركي (وهذا ليس الاجتماع الأول من نوعه، بل سبقته عدة اجتماعات مماثلة خلال الأشهر الثلاثة الماضية انتهت جميعها إلى الفشل)، ظهر اتفاق مُبهم لم تُعلن معالمه الكاملة حتى اللحظة؛ حيث نشرت السفارة الأمريكية في أنقرة بياناً مشتركاً أكدت فيه وزارتا الدفاع في البلدين على: «تسريع تنفيذ كافة التدابير من أجل معالجة المخاوف والقلق الأمني لدى تركيا». وأضاف البيان: «سيتم تشكيل مركز عمليات مشتركة في أقرب وقت ممكن لتنسيق وإدارة المنطقة الآمنة من قبل الطرفين». كذلك: «ستصبح المنطقة الآمنة ممر سلام، وسُتبذل كل الجهود من أجل إعادة المهجَّرين السوريين إلى بلدهم».
يلجأ البيان في الأماكن الخلافية، والتي يبدو واضحاً أن اتفاقاً نهائياً لم يُنجز بعد حولها، وهي بالضبط النقاط التي كانت مُعلنة بوصفها النقاط العالقة؛ من ذلك: «عُمق المنطقة التي يتم الحديث عنها»، الجهة أو الجهات، التي ستدير وتشرف على هذه المنطقة، وصلاحيات كل منها، وما هو مصير «وحدات حماية الشعب الكردية»، الجناح العسكري من «قوات سورية الديمقراطية». تبقى هذه النقاط عالقة، بحسب المعلن من الاتفاق المذكور آنفاً، وفقاً لبنوده.
لكن، بعيداً عن التصريحات، وإذا ما انطلقنا من أنَّ ما يسمى بـ «المنطقة الآمنة» عبارة عن مسألة أمريكية- تركية مشتركة، متقاربة من حيث الشكل، ومتناقضة بالعمق على مستوى المصالح؛ فلا بد من قراءة ما وراء البُعد الإعلامي والشكلي للأمر...

تركيا والمخاوف المعلنة

تعلن أنقرة، أن الغاية المباشرة من «المنطقة الآمنة» هي تأمين حدودها السياسية مع الشمال السوري، بالإضافة إلى حلّ مشكلة اللاجئين السوريين المتواجدين في تركيا، فحسب الرئيس التركي: «إذا لم تفعل تركيا ما يجب فعله اليوم في الشمال السوري ستدفع ثمناً باهظاً في وقت لاحق». أما حول المخاوف التركية المعلنة من الاتفاق الأمريكي- التركي المذكور؛ فتتمثل بجديّة السياسة الأمريكية بتنفيذ من الاتفاق، وعبَّر عن ذلك بشكل صريح وزير الخارجية التركي مولود تشاويش أوغلو بأن: «بلاده لن تسمح بتحويل المنطقة الآمنة مع الولايات المتحدة الأمريكية شمالي سورية كما جرى على غرار خارطة طريق منبج»، في إشارة إلى عدم تنفيذ الاتفاق الأخير حتى اللحظة.

حلّ المشكلة بمشكلة أعمق

تُعدَ المسألة الكردية، بحسب المنظور التركي، من المشاكل الداخلية والخارجية بالنسبة لأنقرة؛ ففي الداخل السوري كانت هذه المسألة بأحد جوانبها من أهم أوراق الابتزاز الأمريكي بوجه الانعطاف التركي شرقاً، حيث كان أكثر ما يقلق أنقرة هو الدعم الأمريكي العسكري «لوحدات حماية الشعب الكردية»، والذي تعدّه تركيا فرعاً من فروع «حزب العمال الكردستاني»، المصنف إرهابياً في تركيا نفسها.
يضاف إلى مسألة القضية الكردية جملة كبيرة من المسائل التي تعبر عن أزمات داخلية وخارجية تعيشها تركيا، ولم يعد ذلك خفياً على أحد.
يمكن القول: إن أي اتفاق مع الولايات المتحدة من هذا النوع وفي ظل التوازن الدولي الجديد، ما هو إلاَ توريط للطرف الأخر في الاتفاق أكثر من كونه مخرجاً، أي أن زيادة التواجد العسكري التركي في الداخل السوري يُفاقم من المشاكل التركية الداخلية بمعنى فتح جبهة عسكرية جديدة معرضة للمقاومة المشروعة وللصدامات العسكرية المتنوعة، وهذا يزيد من وطأة الأزمات الداخلية التركية بأبعادها السياسية والاقتصادية والاجتماعية المختلفة.

أمريكا ومحاولات التعقيد

ليس من الوارد بالنسبة للولايات المتحدة أي تصادم عسكري للحليفين الأطلسيين، أمريكا وتركيا، وإنما المطلوب تعقيد الملف السوري أمام الحل السياسي الذي يطرق الباب بقوة أكثر من أي وقت مضى، وإشعال الحرائق في المنطقة لإعاقة ومنع استقرارها.
ويمكن القول: إن الرغبات الأمريكية المستترة من اتفاق «المنطقة الآمنة» تتلخص بما يلي:
أولاً: السماح للقوات العسكرية التركية بالتواجد في المنطقة الشمالية السورية، وفقاً للضرورات الأمريكية وبما يخدم مصالحها.
ثانياً: محاولة ضرب ثلاثي أستانا ببعضهم البعض، عبر خلق خلاف روسي- تركي- إيراني.
ثالثاً: قطع أي حوار بين دمشق و«الإدارة الذاتية» في الجزيرة السورية، وإبعاد القوى الكردية عن المشاركة بالمسارات السياسية لحل الأزمة السورية على المستوى البلاد.
رابعاً: تحويل شمال شرقي سورية إلى منطقة قابلة للتفجير بأية لحظة، تتحكم بشرارة التفجير فيها الولايات المتحدة الأمريكية.

سورية والاستفادة من أخطاء الماضي

إن الرد المناسب على هذا الاتفاق، هو القطع الكامل والنهائي بين أية قوة سياسية سورية وطنية مع الولايات المتحدة الأمريكية، ودفع العملية السياسية إلى الأمام من كافة القوى الوطنية، وانخراط الإدارة الذاتية وجميع القوى السياسية الكردية في عملية الحل السياسي على مستوى سورية ككل، ضمن المسارات الثلاثة (أستانا– سوتشي- جنيف) والتوافق على حل سياسي للقضية الكردية في الإطار السوري الشامل، وصولاً إلى تنفيذ القرار 2254 كاملاً وغير منقوص، والذي يقضي بخروج كل القوى الأجنبية من الأراضي السورية، والذي يحمي منطقة شمال شرق سورية من التجاذبات والصفقات الإقليمية والدولية.

وجه آخر...

رغم وضوح الاستهداف الأمريكي العام من اتفاق «المنطقة الآمنة»، إلا أنّ مجرد الوصول إليه في هذه المرحلة، هو تعبير عن الخروج عن حالة السكون التي كانت سائدة في ملف الشمال الشرقي خلال عدة سنوات مضت، وهو سكون كانت وظيفته إبقاء هذا الملف عالقاً كأداة لمنع الحل، في ظل تهاوي المعيقات الأخرى الواحد تلو الآخر، وبشكل خاص وضوح أفق انتهاء ملف إدلب كواحد من آخر الملفات المعيقة...
الواضح في المسألة ككل، أنّ الولايات المتحدة، وضمن التراجع العام الذي تعيشه على المستوى الدولي، وانعكاسات ذلك التراجع في اتباعها سياسات تُعيد من خلالها توزيع قواها (العسكرية والاقتصادية والسياسية...) بحيث يجري تكثيف تلك القوى المتراجعة في نقاط قليلة لتركيزها وتكثيفها بغية الحصول على أكبر قدر من النتائج ضمن الإمكانات المتاحة، باتت مضطرة في سورية إلى إعادة توزيع جديد لسياسات الضغط التي تتبعها... بكلام آخر، فإنّ مجرد الوصول إلى الاتفاق المعلن حول المنطقة الآمنة، ورغم خطورته الواضحة، إلا أنّه يُعبر عن تراجع أمريكي إضافي، وعن حاجة أمريكية إضافية إلى تقليص نيرانها في سورية عبر توريط الآخرين في افتعال «نيرانهم» الخاصة، والعمل على توجيه تلك النيران ضمن المصلحة الأمريكية، ولكن الأسابيع والأشهر القادمة سرعان ما ستبين من جديد أنّ قدرة اللاعب الأمريكي على ضرب الجميع بالجميع باتت أقل من أي وقت مضى، وأنّ كل تنازل تقدمه واشنطن لأية جهة ضمن المنطق، سرعان ما سيتحول إلى تنازل لا رجعة فيه، بل ولا قِبل للولايات المتحدة على التحكم بمآلاته اللاحقة، واحتمالات التفاهمات البينية المحلية حوله، وخاصة في إطار ثلاثي أستانا، وفي الإطار السوري الداخلي...

معلومات إضافية

العدد رقم:
926
آخر تعديل على السبت, 17 آب/أغسطس 2019 16:01