INF والانسحاب من سورية!
ارتفعت حرارة التوتر العالمي مجدداً مع إعلان بومبيو تعليق بلاده العمل بمعاهدة الصواريخ متوسطة المدى (Intermediate-Range Nuclear Forces Treaty)، والذي ردت عليه روسيا بشكل فوري ومماثل، بل وأعلنت أنها ستمضي نحو وضع منصات على البر لصواريخ كاليبر (الأمر الذي كان ممنوعاً وفقاً للمعاهدة)، وأكثر من ذلك فإنها ستطور صاروخاً متوسط المدى بسرعة تفوق سرعة الصوت «ومن المعلوم أنّ الدول حين تعلن أنها ستطور سلاحاً معيناً، فهذا يعني أنها قد طورته واختبرته سلفاً، وربما يكون معنى الحديث هنا هو دفع هذا الصاروخ من المخبر باتجاه المعمل، ومن ثم باتجاه الميدان».
التعليق الأمريكي منح روسيا «مهلة من ستة أشهر» لإعادة صياغة المعاهدة وتوسيعها لتضم دولاً أخرى على رأسها الصين، الأمر الذي رفضته هذه الأخيرة، والتي أنجزت خلال السنوات الماضية قفزة نوعية كبيرة في تطورها العسكري، وباتت على حافة الوصول إلى وضع تطرد فيه الأمريكيين وتنهي عبثهم في محيطها وعلى تخومها، وفي المحيط الهادئ على وجه الخصوص، وهو ما دفع عدداً كبيراً من مراكز الأبحاث المهمة إلى ترجيح فرضية أنّ الإجراء وإنْ كان موجهاً ضد روسيا، ويستهدف تحويل تخومها الأوروبية إلى حالة استنفار حربية تمنع تطبيع العلاقات وتطويرها مع أوروبا، فإنّه يستهدف الصين بالدرجة الأولى، والتي لم يعد ممكناً بأية حال من الأحوال فرض أي شيء عليها بالإطار الاقتصادي، بل بات المركز الغربي يسعى سعياً محموماً للتقليل من آثار سيطرة البضائع الصينية وانتشارها على المستوى العالمي...
إنّ «حربجية» الإعلان الأمريكي في تعليق العمل بالمعاهدة، وما يقال عن أنه سيطلق سباق تسلح جديد، ونووي بشكل خاص، قد يخلق التباساً إذا ما وضع في كفة واحدة مع الإعلان الأمريكي نهاية العام الفائت عن انسحاب قواتها من سورية، وهي البلد المركزي والمفتاحي لكامل منطقة الشرق العظيم، والأساسي في الصراع مع روسيا... وهنا لا بد من توضيح جملة من النقاط
أولاً: إنّ القول بأنّ تعليق العمل بالمعاهدة يعني إطلاق سباق تسلُّح، لا ينبغي أن ينطلي على أحد؛ فالسباق قائم ولم يتوقف في يوم من الأيام. ربما توقف بشكل مؤقت في السنوات الأولى بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، لكن أي عاقل لن يغيب عنه أنّ العالم الذي تحاول أمريكا حكمه بالبلطجة العسكرية لن يكفَّ يوماً عن السعي وراء تطوير مستمر للسلاح، خاصة وأنّ أهداف الولايات المتحدة تجاه الصين وروسيا ليست واضحة فحسب، بل ومعلنة بأقصى ما يمكن من وقاحة؛ يمكن في هذا الشأن العودة إلى الإستراتيجية التي أطلقتها وزارة الدفاع الأمريكية مؤخراً.
ثانياً: إنّ التراجع المستمر لهيمنة الولايات المتحدة، والاقتصادية أساساً، ولدولارها بشكل خاص، ابتداءً من ظهور اليورو وما تبعه، وحتى اليوم، يفترض ضمناً أنّ حرباً أمريكية مفتوحة على كل الخصوم، وفي الوقت نفسه، هي أمر بات شبه مستحيل؛ من هنا بتنا نسمع تنظيرات أمريكية عن ضرورة الحفاظ على مثلث دولي متساوي الأضلاع (أمريكا، روسيا، الصين)، بحيث تكون علاقة أمريكا بالطرفين متساوية، ومساوية للعلاقة بين الروس والصينيين، وبكلام آخر ينبغي منع التقارب الروسي الصيني، ومن ثم التهام كل منهما على حدة وعلى التوالي.
ثالثاً: الطريف، ولكن الواقعي حتى اللحظة، في هذه التنظيرات، أنّ أوروبا لا دور مستقلاً لها البتة، بل هي مجرد أداة أمريكية في الصراعات المختلفة، سواء مع روسيا أو الصين أو غيرهما... ولكن هذا الواقعي لن يطول به الأمر حتى يتغير، وهو قد بدأ يتغير فعلاً، وإنْ كان ببطء.
رابعاً: إنّ الاتجاه العام لتوزيع كثافة النيران الأمريكية، يميل أكثر فأكثر، نحو تركيز القسم الأكبر منها باتجاه الصين، بالتوازي مع الانخفاض العام لهذه الكثافة، وبداية تطبيق خطط انكفاء عسكري من كل المناطق التي لا يمكن تشتيت النيران بالاستمرار ضمنها...
كمحصلة، فإنه لا تناقض بين تعليق العمل بمعاهدة الصواريخ المتوسطة، والتي تأخذ طابعاً تصعيدياً، مع الانسحاب من سورية؛ فالاتجاه الأمريكي العام هو نحو الانكفاء من جهة، ولكن نحو تنظيم ذلك الانكفاء بحيث يجري الحفاظ على كثافة نيران ظاهرية توحي باستمرار الكثافة العامة نفسها... توحي فقط!