«إما أن تقاوموا وإما أن تشبعوا»
سال حبرٌ كثير خلال الأسبوع الماضي في عدد كبير من وسائل الإعلام الرسمية وشبه الرسمية، «متصدياً» لارتفاع موجة الاحتجاج الشعبي ضد الأداء الحكومي الذي وصلت رداءة حاله إلى إنكار وجود أزمات معيشية في البلاد، عازياً الطوابير الطويلة التي تقف بانتظار جرة غاز أو «بيدون» مازوت إلى وجود «حملات على مواقع التواصل الاجتماعي يديرها الخارج».
على صفحات إحدى الصحف الخاصة شبه الرسمية، قرر كاتب اعتدنا حضوره على الشاشات بوصفه «خبيراً جيوسياسياً إستراتيجياً» أن «يعالج» موضوع الاحتقان الشعبي ليس من باب التقصير الحكومي، ولا من باب حصة الفساد الكبير من مقدرات الدولة السورية، ولا حتى من باب مطالبة المواطن بالصبر في وجه الشدائد كما كان يجري سابقاً، بل يقدّم لنا هذه المرة وصفته السحرية التي سرعان ما تحولت إلى مادة تهكم وتندر في أوساط الناس: إذا أردنا أن نحلل الوضع المعيشي السوري، علينا أن نفهم «الحرب السيبرانية- حرب المعلومات»، لماذا؟ لأن «الكثير من دول العالم بدأت تُشكل جيوشاً إلكترونية لاستخدامها في حالتي الدفاع والهجوم أسوة بالجيوش العسكرية، كما لجأت دول عديدة لتأسيس إدارات متخصصة بالأمن السيبراني لحماية مجتمعاتها... هناك سلبيات عديدة في هذا العالم الافتراضي منها عدم وجود الرقابة، وانعدام المسؤولية لدى البعض من المستخدمين، وانتشار الإشاعات والمبالغة في نقل الأمور، وعدم تبادل الاحترام في بعض النقاشات، وتقبل آراء الغير، إضافة إلى إهدار الوقت وعدم استغلاله في أمور مفيدة، وانعزال البعض عن أسرهم والمجتمع المحيط بهم، وأخيراً عدم احترام خصوصية الغير».
نسي صاحب المقال الذي ينفي عن نفسه تهمة الدفاع عن الحكومة، أن الحديث عن المبالغة وانتشار الشائعات ربما ينطبق على خبر خلافات داخل الوسط الفني أو زواج وطلاق هذه الفنانة أو تلك، لكن أن تكون الأزمة المعيشية هي حديث الناس اليومي، وتأتي الطوابير التي لا يمكن لمبصر إلا أن يراها في شوارع البلاد لتعزز ذلك، فإن هذا يعني شيئاً واحداً: هنالك من يريد أن يتعامى عن رؤية الأزمات التي يتعرض لها المواطن السوري، وليس له سبيل إلى ذلك سوى اللغة الفوقية التي اعتاد هذا النوع من «المحللين» عليها.
حلول أمام «الحكومة المظلومة»
عزيزي المواطن، إذا لم تقنعك محاكمة المحلل إياه حول الحرب السيبرانية، فإن في جعبته ما قد يجعلك تغير رأيك، فبعد ديباجته الطويلة عن المؤامرة التي تتعرض لها الحكومة السورية، يجري الكاتب المذكور قفزة تاريخية إلى الوراء، ليستنبط حلاً ينتمي في عقليته إلى القرون الوسطى: «وبالتالي، فإن دور الحكومة بعد إصدار قانون الجرائم الإلكترونية فرض عقوبات مالية عالية لمن يسيء للآخرين أو يشتم من دون مسؤولية، والعقوبة المالية كما ثبت هي الأنجع والأقوى، والمطبقة في أغلب دول العالم، لأنها رادعة، وتُعلم بعض المستهترين وغير المسؤولين عما يكتبون أن هناك ضوابط لأي حرية في العالم، وأن العالم الافتراضي لا يمنحك الحق في بث الفتن والإشاعات والأكاذيب أو استهداف الناس، وتوجيه الاتهامات لها برعونة ومن دون أدنى شعور بالمسؤولية».
حكومة من المريخ... وشعب من الزهرة
إذا ما حالفك الحظ عزيزي المواطن، وكنت ممن لا يقرأون الصحف المحلية، فإن هنالك نموذجاً آخر أكثر قطعاً مع الواقع السوري، نموذج إذاعي هذه المرة، ميزته أنه لا ينكر وجود الأزمات، لكنه يفكر في سببها، يفكر ويفكر ويفكر، وفجأة يصرخ صرخة كولومبوس الذي اكتشف أمريكا: «إنه المواطن. المواطن هو السبب، لأنه لا يملك ثقافة الشكوى، لماذا لا يشتكي على من يعملون في السوق السوداء؟».
وهكذا، بحسب منطق صاحب الكلام أعلاه، فإن المواطن لا يلجأ للسوق السوداء لأنها الخيار الوحيد المتاح أمامه في ظل تراجع دور الدولة وانتشار الفساد، ولا لأنه يدرك أن هذا الفساد المتنفذ داخل جهاز الدولة له اليد الأولى في تنظيم شبكة السوق السوداء، ولا لأنه يعرف أن شكواه ضد السوق السوداء ستضاف إلى ملايين الشكاوى التي لم تغير ساكناً. لا، بل يفعل ذلك لأنه متواطئ ضمناً مع السوق السوداء، وفاقد لثقافة الشكوى.
الاحتجاج ليس خياراً
سنختم مع نموذج ثالث يذهب بعيداً جداً في تحليله، واضعاً الناس أمام الخيار بين وطنيتهم ولقمة عيشهم، مفترضاً في أحد المواقع الإلكترونية خيارين أمام النظام السياسي للتعاطي مع «المؤامرة الخارجية الجديدة»: «الخيار الأول: تقديم التنازلات السياسية مقابل الطعام والنفط ورفع الحصار لإطعام شعبه وإسكات الاحتجاجات. الخيار الثاني: عدم الرد على تلك الاحتجاجات واستمرار الصمود بوجه الحصار والاحتجاجات والعدوان الأمريكي «والإسرائيلي» والتركي والأوربي».
ليس جديداً هذا الطرح الذي يتعامل مع المقاومة والوضع الاقتصادي الاجتماعي وكأنهما على طرفي نقيض، «إما أن تقاوموا وإما أن تشبعوا»، مع كل ما يحمله هذا الطرح من إهانة للشعب السوري بالقول: إن المقاومة هي خيار النظام السياسي لا خيار الشعب، وبأن هذا الأول يضحي بكل شيء، بما في ذلك لقمة المواطن، في سبيل الصمود، متناسياً أن خيار مقاومة الغرب والصهيونية هو خيار شعبي بالدرجة الأولى، وأن الاحتجاج الشعبي عند درجة معينة من الفقر والعوز والحاجة هو قانون وليس خياراً. وعلى هذا النحو، فإن صبر الناس على الحصار (الذي يتحول في بلادنا إلى شماعة كما جرت العادة) ممكنٌ إلى حدٍ معين في تلك الحالة التي توجد فيها عدالة في الحرمان، بمعنى أن تكون تبعات الحصار ممتدة إلى الجميع بنفس القدر، أما أن يحافظ الفساد على حصته من النهب، وتكون تبعات الحصار حكراً على كاهل الشعب فليس من مبرر واحد يدفع الناس إلى الاستكانة إزاء من يغتنون في فترات السلم كما في فترات الحرب.