يبحث عن الحماية .. عن الدولار أتحدث!
تكاد تتفق كل الدراسات التي تعالج واقع العلاقات الدولية الراهن، بأن فكرة العولمة الأمريكية التي اقترنت بعولمة رأس المال قد أصبحت طي الماضي، وذلك من خلال جملة مظاهر اقتصادية وسياسية وثقافية، تتعزز وتترسخ بتسارع على النطاق الدولي، بدءاً من حرب العملات، ومروراً بما يسمى الحمائية، وانتهاءً بالخلافات والصراعات الدولية المختلفة، والتفكك التدريجي لكل البنى التي تشكلت بعد الحرب العالمية الثانية.
أصبح الدولار العملة الأساسية في التبادل التجاري العالمي، من خلال ربط بيع النفط بالدولار، وسمي هذا النظام البترودولار، واضطرت جميع دول العالم بتأمين إمدادات مما أدى إلى زيادة الطلب الأمريكي على الدولار بشكل كبير، ومكّن من شراء النفط بعملة تستطيع طباعتها من جهة أخرى ومن خلال نظام البترودولار تتمكن أمريكا من إنفاق ما يزيد عن دخلها، مثال: عام 2014 كان الدخل الأمريكي 3 تريليون والمصروفات كانت 3,5 تريليون، أي: أنه كان هناك عجز نصف تريليون دولار، ولسدّ هذا العجز تصدر أمريكا سندات مالية لاقتراض ما تحتاج إليه من نقود، ولكن ما هي السندات المالية؟ السندات تقوم بإصدارها الخزانة الأمريكية وتعرضها للبيع مع فائدة شهرية، ويشتريها إمّا الشعب الأمريكي أو البنوك أو دول العالم، هذه السندات تمثل دين الحكومة الأمريكية التي تستدينه من أجل سد العجز المالي، إن نظام البترودولار جعل الطلب على الدولار مرتفعاً ولذلك أصبحت السندات المالية الأمريكية مرغوبة ومطلوبة، مثال: الصين ترسل صادرتها لأمريكا مقابل الدولار فتكثر الدولارات عند الصين وعوضاً عن تركها مجمدة تقوم الصين بشراء سندات مالية أمريكية بحيث تكسب الفائدة التي تُسدد مع السندات، فترجع تلك الدولارات إلى أمريكا لتعيد أمريكا استخدامها لشراء المزيد من الصادرات وسد العجز في الميزانية، وفي النهاية تبقى الدولارات خارج أمريكا ويمكن ذلك من إنفاق أمريكا مبالغ أكثر من دخلها دون الشعور بآثار التضخم المالي.
نقطة الضعف في هذا النظام المالي هي: أنّ أمريكا تستمر بأخذ قروض جديدة لإصدار سندات مالية جديدة لكي تغطيَ عجز الميزانية، ولتستطيع دفع الديون المستحقة سابقاً، وهذه سلسلة بلا نهاية لأن هذه الديون عليها فائدة والفائدة تتضاعف مع الوقت والآن وصل الدين الأمريكي إلى 19 تريليون وهو بازدياد مضطرد بسبب الفائدة التي تتراكم وتتضاعف، وقد خسر الدولار 89 بالمئة من القوة الشرائية خلال المئة سنةٍ الأخيرة كما يشير المختصون، ومن أكثر الدول المنافسة، هي: روسيا والصين وبنفس الوقت تملكان الكثير من السندات المالية الأمريكية، فالصين هي الدائن الأول لأمريكا وتستطيع أن تهاجم الاقتصاد الأمريكي متى شاءت، باستطاعة هاتين الدولتين بيع مكثفٍ لهذه السندات، فروسيا قامت بذلك قبل أن تتدخل في أوكرانيا لتخلق فوضى في النظام المالي الأمريكي وتضعف من إمكانية رد الولايات المتحدة، وعندما تقومان ببيع السندات سيؤدي ذلك إلى ارتفاع الفائدة مما سيؤدي إلى انهيارات متتابعة في عدة أسواق 70% من فئة الدولارات 100 موجودة في الخارج، صدرت أمريكا تضخمها المالي إلى الخارج ولكن عندما يتوقف بيع النفط بالدولار ستعود تلك الدولارات إلى أمريكا وتنهار القوة الشرائية للدولار، إن بيع النفط بالدولار سينتهي عاجلاً أو آجلاً، روسيا من أكبر المصدرين للنفط، وهي قادرة على بيع نفطها باليوان أو الروبل، وروسيا لن تتخذ هذا القرار إلّا في الوقت المناسب، ولكن الصين ليست لها مصلحة لأن الولايات المتحدة من أكبر المستوردين.
ما يجري اليوم، أن العديد من دول العالم الأساسية وبالأخص القوى الصاعدة فيه، تحاول التخلص من هيمنة الدولار الأمريكي، وتمتلك المقومات الكافية للقيام بمثل هذا الإجراء، مما يعني: انتهاء عصر الاستعمار المالي الأمريكي للعالم.
مراكز الأبحاث الأمريكية، ودوائر صنع القرار هناك تدرك معنى ودلالات ظهور عملات بديلة ومنافسة، دون أن تملك حلاً حقيقياً لهذه المعضلة، وسلاحها الوحيد الذي يمكن من خلاله تأخير انهيار عملتها، هو قدرتها على إشاعة الفوضى واستنزاف الآخرين حلفاء وخصوماً، لعل وعسى أن تؤخر الانهيار القادم من كل بد، من هذه الزاوية فقط يمكن تفسير سلوك الإدارة الأمريكية، وطريقتها في إدارة الأزمة، عبر الحروب العسكرية أو التجارية، أو الاثنتين معاً.
العولمة البديلة
طالما أن الدولار المعولم، كأحد أعمدة الهيمنة الأمريكية في طريقه إلى السقوط عن العرش، وطالما أنه كان من رموز « القرية الكونية الواحدة» كما أشيع عنه، فإن عولمة بديلة موضوعياً تصبح على جدول الأعمال.
إن وحدة واندماج العالم ظاهرة موضوعية، ومع تطور الحضارة البشرية تزداد الحاجة إلى هذا الاندماج أكثر فأكثر، وإذا كانت البشرية شهدت ذاك الاندماج القسري عن طريق الاحتلال، والحروب الناعمة، والحروب المباشرة في ظل هيمنة الرأسمالية، فإن بدأ العد التنازلي لهذه التشكيلة الاقتصادية الاجتماعية، يعني: صياغة جديدة لمفهوم العولمة، قائم على أساس الاحترام المتبادل، والاعتراف بالمصالح المتبادلة، كخطوة أولى على طريق تحول نوعي في تطور الحضارة الإنسانية كلها، نحو عالم لا مكان فيه لاستغلال إنسان لإنسان واضطهاد شعب لشعب