أمريكا تخسر... رغم (انسحابها النشط)

أمريكا تخسر... رغم (انسحابها النشط)

منذ أن تولى ترامب الرئاسة الأمريكية ببرنامجه الناري، وبكاريزما الرئيس (البزنس مان الأرعن)... والولايات المتحدة تنتقل بقوة إلى سياسة (الانسحاب النشط): حيث تستبق أمريكا كل خطوة للوراء، بأكبر قدر من الضجيج. ولكن هذا الأسلوب الهوليودي الجديد ليس أكثر من ديكور حرب ودخانٍ مصطنع، لمنتجين بميزانية أقل، ولم يعد مقنعاً لأحد!
كلما علا الضجيج الأمريكي، كلما كانت خطوة الانسحاب أكبر. ولكن ما يمكن أن يسري على المزاج السياسي العام للناس، لا يتحول إلى قوى واقعية، فالتراجع هو التراجع. وأصبح واضحاً أن كل استعراض للقوة والرعونة الأمريكية مؤخراً، يعقبه حكماً خسائر أمريكية، ومكاسب للآخرين، وضرره لم يعد يتعدى التأخير وإدامة الاشتباك.

 

وإذا ما أخذنا مقطعاً زمنياً في المرحلة الأخيرة، لمجموعة من القنابل السياسية الأمريكية ومآلها، ربما يتضح هذا بشكل أفضل.
قنبلة: الحرب
التجارية على الصين
صعّدت الولايات المتحدة ضد الصين في حربها التجارية، وأثارت الفوضى في الاتفاقيات الدولية التي كان الأمريكيون عرابيها... ومهما كان المدى الذي أرادت الولايات المتحدة أن تصله من ذاك التصعيد، إلا أن الصين ردت (بهدوء عنيف) حيث لوّحت بأسلحتها الاقتصادية الفتاكة، مثل: بيع جزء من ممتلكاتها من الدين الأمريكي، وسرّعت مباشرة إطلاق سوق عقود بيع النفط باليوان. والنتيجة كانت إدخال الولايات المتحدة لملف حربها التجارية مع الصين (إلى الثلاجة) ودخولها في مفاوضات مع الصينيين، الذين يعلنون أنهم لن يخفضوا عجزهم التجاري، ولن يحققوا المطلب الأمريكي. أي: دخلت الولايات المتحدة المفاوضات مع الصين من موقع أضعف. فالأمريكيون في مواجهتهم الاقتصادية مع الصين خاسرون، لأن التهديد الصيني يطال الدولار مباشرة، وأي تصعيد قد تعقبه كارثة مالية، ستصيب العملة الأمريكية قبل أي شيء آخر...
قنبلة: الخطر الروسي
لا تتوقف القنابل الدخانية الأمريكية ضد روسيا، وكثرة الاستعراض والتركيز هنا، تعكس شدة الخطر والتهديد، و(قلة الحيل والحيلة) الفعليين، تجاه هذا البلد المُتعب للهيمنة الغربية تاريخياً.
موجات متتالية من القنابل: في أوكرانيا، ومن ثم العقوبات، ومن ثم ملف التدخل في الانتخابات، فإعادة تصعيد العقوبات، وآخرها وأهزلها قضية سكريبال، عدا عن كل ما يتعلق بالمواجهة المباشرة في ملف الأزمة السورية.
فما الذي نتج عن كل هذا؟ ربما الكثير من التوتر السياسي العالمي، حتى توقع البعض أن طبول الحرب العالمية الثالثة ستقرع بالمواجهة العسكرية المباشرة... ولكن فعلياً، وبمعنى توازن القوى لم تكسب الولايات المتحدة شيئاً، حتى الوقت! لأن هذا التصعيد سرّع في ظهور تغيرات ميزان القوى.
في أوكرانيا استعادت روسيا القرم، وبرّدت الجبهة النارية التي كانت ستفتح، وأنشأت أساساً للتسوية السياسية في مينسك مع الأوروبيين، ودون الأمريكيين.
وعقب كل الإجراءات الاقتصادية الأمريكية، سواء في العقوبات وحرب النفط والعملات، فإن الاقتصاد الروسي لم يصَب بالضرر البالغ المطلوب، والدليل أن روسيا استطاعت أن تستكمل تطوير قدراتها العسكرية، وتشكل فارقاً في التوازن العسكري. هذا عدا عن أن العقوبات الاقتصادية ساعدت روسيا اقتصادياً لسد ثغرات كبرى من مرحلة التسعينيات، مثل: تراجع الزراعة الروسية التي ارتفعت اليوم عن مستويات الذروة أيام الاتحاد السوفييتي. وستساعد الإجراءات العقابية المالية على سد ثغرة هامة مرتبطة بالقطاع المصرفي، والسلطات النقدية والمالية الروسية. كما أن العقوبات والتصعيد الغربي ضد روسيا، يمتّن الحلف التاريخي الروسي الصيني، ويسرّع من وتائر تعاونه الاقتصادية والسياسية والعسكرية.
قنابل الشرق الأقصى
في الشرق الأقصى، وفي شبه الجزيرة الكورية تحديداً المسألة أكثر وضوحاً. فهناك حيث تتجاور الصين وروسيا واليابان، وحيث يتواجد ملف الانقسام الكوري، والدول النووية... فإن ما أوقدته الولايات المتحدة، انتهى بلقاء الكوريتين، وبلقاءٍ مرتقبٍ بين ترامب والرئيس كيم. وأخذت هذه الأزمة مسار حلها السلمي، على عكس الرغبة التصعيدية الأمريكية، التي لا تزال تناور وتحاول.
قنابل (الشرق الأوسط)
أما في منطقتنا، التي ينظر إليها الأمريكيون (كواحة غنّاء) باحتمالات التصعيد، والملفات الشائكة... فإنها اليوم تأخذ شكلاً جديداً، رغم أن الولايات المتحدة تطبق هنا بوضوح سياسة قنابل الانسحاب الدخانية، وتحديداً في الملفات: الإيراني والفلسطيني والسوري.
فالولايات المتحدة تطوي صفحة القوة العسكرية في منطقتنا، وتذعن للتغيرات على هذا الصعيد. فلا إيران يمكن ردعها عسكرياً، ولا الكيان الصهيوني يمكن دعمه جدياً في حرب طويلة بعد خسائره المتتالية منذ عام 2000، ولا سورية عام 2013 هي العراق عام 2003، حين لم يستطع أوباما أن يجري ضربته العسكرية، بينما استطاع بوش قبل عقد فقط أن يحتل العراق دون رادع.
وعلى هذا الأساس، اضطرت الولايات المتحدة أن تبدي مرونة تجاه الدخول في الحلول السياسية في المنطقة، لتماطل في محاولة تغيير التوازنات للتفاوض من موقع أفضل لاحقاً. فوقعوا الاتفاق النووي الإيراني عام 2015، ونشطوا مع الأوروبيين في (وساطة السلام) في القضية الفلسطينية، متبنين (حل الدولتين)، وفي سورية اضطروا للتجاوب مع الطرح الروسي- الصيني في مجلس الأمن للوصول إلى خارطة طريق للحل عبر القرار 2254.
ونشطت الولايات المتحدة في معارك التدخل غير المباشر، محاولةً إعادة التوازن لوضعها في المنطقة، عبر قوى الفاشية والإرهاب... ولكن النتائج كانت سلبية، فالإرهاب لم يستمر، وورطت الولايات المتحدة حلفاءها كما دول الخليج، وخسرت أهمهم كما تركيا. وتحولت محاربة الإرهاب والخطورة التي تهدد المنطقة إلى محفز لدخول قوي عسكري ودبلوماسي للروس إلى المنطقة، ومساهمتهم في تشكيل معادلة ردعٍ عسكرية جديدة في سورية ضد (إسرائيل). وأمّن مجمل هذا الظرف مسعى سياسياً بديلاً لحل أزمات المنطقة، ضم في سورية كلاً من روسيا وتركيا وإيران، وسيضم في إعادة حل الملف النووي الإيراني الأوروبيين أيضاً.
الولايات المتحدة خسرت المعركة العسكرية، والسياسية في المنطقة، ولم تعد قادرة بالتوازنات الحالية أن تكسب شيئاً هاماً من المساهمة السياسية في حل أزمات المنطقة، فالدخول الأمريكي اليوم إلى الحلول السياسية، يعني تظهيراً كبيراً لميزان القوى ويعني: انقشاع الضباب عن الخسارة الأمريكية. ولهذا فإن الولايات المتحدة تسعى لاستثارة أكبر قدر من الفوضى والقنابل الدخانية، لتديم الاشتباك، وتغطي على خروجها، وتؤخر تقدم المنطقة نحو إنجاز الحلول السياسية التي تنهي الأزمات. وسيؤدي التصعيد الأمريكي الاستعراضي في المنطقة إلى (عزلة أمريكية)، وتسريع الحلول السياسية الجدية التي يخرج منها الأمريكيون (بخفيّ حُنين) كما يظهر في موقفها من الاتفاق النووي الإيراني، وفي موقفها من التصعيد في فلسطين عبر نقل السفارة، وكما سيظهر من المسعى الجدي للحل السياسي للأزمة السورية.