الانسحاب المنظم تحت «النار الإعلامية»

الانسحاب المنظم تحت «النار الإعلامية»

شهد الشهر الماضي قدراً غير مسبوق من التصعيد الإعلامي والسياسي والدبلوماسي بين المعسكر الغربي من جهة، والروس من جهة مقابلة، وذلك تحت عناوين متعددة جاء على رأسها: ملف سكريبال إضافة إلى الملف السوري بتفاصيله المختلفة والتهديد بضربة عسكرية أمريكية، وكذلك الأمر مع الملف الإيراني وغيرها من الملفات.

 

تصعيد غريب من نوعه لا يخلو من كوميديا بائسة على غرار تهديدات لويس السادس عشر المعاصر؛ ماكرون، بأن مملكته ستقوم بضربة منفردة في سورية في حال كذا وكذا...
حتى إنّ المراقب، وإنْ كان له نصيب جيد من المعرفة بعمق الأمور الاقتصادية الدولية وطبيعة الصراعات القائمة، وما تحمله من إشارات لا تقبل الجدل بشأن التراجع الأمريكي الغربي العاصف والمتسارع، حتى بالنسبة لهذا المراقب، فقد بات الاحتمال المجنون لحرب عالمية مباشرة ومدمرة احتمالاً قابلاً للتفكير!
ولكن الأمور على الأرض، ليس في سورية وحدها، بل وفي العالم بأسره، وقد اقتربت من الرسو ضمن وضع مؤقت جديد ترجح فيه الكفة الروسية- الصينية بوضوح ما بعده وضوح، فقد بات من الممكن حتى للمراقب سالف الذكر أن يهدّئ أعصابه لينظر عن كثب في وظيفة قديمة (ولكن مطورة) للحرب الإعلامية- الدبلوماسية: تغطية الانسحاب الفعلي على الأرض... ولنتناول بداية المثال السعودي...
المتابع للإعلام السعودي- الإماراتي، بما يتعلق بالشأن السوري، خلال الشهر الماضي، وخاصة القناتين الأبرز، أي: العربية، الحدث، وسكاي نيوز عربية، سيلحظ بشكل فاقع، أن الطاقم المتشدد القديم ضمن (منصة الرياض- الهيئة العليا للمفاوضات) قد تم استحضاره بكثافة وبشكل يومي، ابتداء من رئيس وفد الائتلاف إلى جنيف ومروراً بكبير مفاوضيه وبالعديد من أعضائه، وهم يشتركون بـ«صمودهم الصميدعي» على المواقف ذاتها التي فصلت لهم منذ 2012، وبكلمة؛ المواقف المشتقة من مواقف جماعة الجلبي في العراق المعدة لدخول البلد على دبابة الأمريكي، مع فارق أنّ هذه الدبابة دخلت متحف العاديات منذ الفيتو الروسي الصيني الأول، وأدخلت الحالمين بامتطائها المتحف ذاته وهم بعد غير منتبهين!
رغم «الحربجية» الإعلامية السعودية، فإنّ الموقف الرسمي غير المعلن، والذي بات معلناَ على لسان بن سلمان في مقابلته الأخيرة مع التايم، كان في مكان آخر كلياً. ولكن كلمة الحق التي ينبغي أن تقال، هي: إنّ الموقف غير المعلن لم يكن إلّا سيناريو من عدة سيناريوهات تعمل السعودية والمعسكر الغربي بأكمله وفقاً لها، من بين هذه السيناريوهات: السيناريو التصعيدي الذي يتوافق مع اللهجة الإعلامية، ولكن نسبة تحققه حتى بالنسبة لواضعيه لم تكن مرتفعة، بل كانت منخفضة جداً طوال الوقت، ولذا فإنّ التصعيد الإعلامي ينبغي أن يُفهَم في إطار السيناريو الأكثر احتمالاً؛ السيناريو التراجعي. وبالتالي ينبغي فهمه كطلقات خلبية تغطي على الانسحاب الفعلي وتنظمه، وخاصة لجهة طبيعة القوى السورية التي انتهت صلاحيتها (ليس ضمن «الطاقم القديم» فحسب، بل وضمن «الطاقم الجديد» الذي لا يخلو من أشباه القديم) وذلك بدفعها ودفع أفعالها ضمن السيناريو الأحمق حتى النهاية، لكي تصبح عملية التخلص منها مبررة، سهلة، ومرنة...
ما وراء المحيطات، تجري عملية مكثفة من نوع مختلف، أكثر جدية، هي: محاولة ضخ الروح في قوى الفاشية الجديدة التي تتلقى ضربات متتالية ضمن الصراع الظاهر على السطح داخل الإدارة الأمريكية. من ذلك مثلاً، وليس أهم مظاهره: أن العجوز مادلين أولبرايت ستطرح في العاشر من هذا الشهر كتابها الجديد «الفاشية» والذي اعتبرته «نداءً ينبغي إطلاقه لأن لدينا واجباً للوقوف والتكلم عالياً ضد الفاشية المعاصرة»، ويتبين من النبذة الأولية المقدمة عن الكتاب أن «الفاشية» التي تقصدها أولبرايت ليست إلا روسيا والصين والقسم من الإدارة الأمريكية الذي ينحو منحى الحلول السياسية. وليس هذا بغريب على فاشية أصيلة من طراز أولبرايت.
في الولايات المتحدة، يتخذ العويل ضد التوازن الدولي الجديد، منحىً متميزاً قد لا يشابهه سوى العويل البريطاني؛ حيث مركز المركز المالي العالمي يبذل قصارى جهده لوقف التراجع وقلبه، وإن عبر حروب واسعة من مستوى، قد لا يبقى بعده موضوع لأي خلاف بشري؛ من مستوى يهدد بحرق المراكب كلها.
يأتي ذلك بمقابل تصريحات ترامب، والتغييرات المستمرة التي يقوم بها، والتي تكرس الاتجاه الانكفائي للولايات المتحدة، سواء بما يخص منظمة التجارة العالمية، واتفاقات التجارة الحرة، واتفاقيات البيئة، وغيرها، أو بما يخص الوضع في سورية وشرق المتوسط عموماً، إلّا نقاط الارتكاز الحامية التي لابد من وجهة النظر الأمريكية من الاحتفاظ بها زمناً أطول: الكيان الصهيوني، والمحميات الخليجية.
بالمحصلة، فإنّ عمليات الانسحاب لن تتوقف، بل ستأخذ مداها الكامل خلال الأعوام القادمة، بل وربما الأشهر القليلة القادمة. ولذلك، ومن وجهة نظر سورية، فإنّ تلك القوى التي تتخادم مع المشروع الغربي، والتي تشكل في الواقع استمراراً له، سواء كان البعض في الموالاة أو المعارضة، ستكون الجزء الخاسر بجدارة ضمن الحل السياسي، ولكن ما سيكرس هزيمتها النهائية، هو: برنامج اليوم الأول بعد الأزمة، والذي سيكون بعد وقت قصير الموضوع الأول على طاولة البحث التاريخي.