العبوة الأمريكية... بين أربيل وعفرين
يملك الأمريكيون في جعبتهم ورقة الفالق القومي في المنطقة، ويديرونها مستخدمين الظلم التاريخي الذي لحق بالشعب الكردي، وممارسات دول المنطقة المعنية بهذه المسألة، خلال المراحل السابقة وحالياً أي: تركيا_ سورية_ العراق_ إيران. وبين ما جرى في أربيل في أيلول العام الماضي، وما يجري في عفرين اليوم قواسم مشتركة، وسلوك أمريكي مشترك...
عندما بدأت القوى الكردية في إقليم كردستان العراق، تتحدث عن الاستفتاء والاستقلال، كان الصمت الأمريكي وعدم التشجيع العلني، يغلف الدفع والتحفيز والوعود وراء الكواليس. وكان واضحاً لكل متابع سياسي، وأياً كان موقفه من حق إقامة دولة كردية في المنطقة، بأن القوى الإقليمية، والأطراف الدولية كافة لن تقبل بهذه الخطوة. ولا يمكن أن تقوم دولة دون إطار إقليمي ملائم، وكان واضحاً أن هذه الخطوة متهورة، وتأتي في وقت غير مناسب، وهي ستتيح الفرصة لقوى الفوضى الأمريكية لتنجح في إيقاد الفتيل القومي. وأن الثمن الذي سيدفع، ستدفعه المنطقة كلها، وفي المقدمة أكرادها.
اللحظة السياسية والقوى العراقية
جرى الاستفتاء، وكانت ردات الفعل تصعيدية، وتخلت القوى الدولية جميعها عن دعم أربيل وخطوتها، بعد أن دفعتها سابقاً، وإن لم يكن بالعلن. هددت ردود الأفعال الإقليمية، وردود أفعال الحكومة العراقية بفتح بوابة للتصعيد في العراق، ولكن تم احتواء المسألة بأقل قدر من المعارك، وكانت الخسارة السياسية من نصيب بعض القوى السياسية الحاكمة في كردستان العراق.
كانت تلك الخطوة بمثابة، عبوة معبّأة أمريكياً، وموضوعة لتنفجر في جو معين، ولحظة معينة. فمن حيث الجو فهو مهيّأ بقوى سياسية حاكمة في العراق تعود كلها إلى عهد المحاصصة الطائفية والقومية، عقب الاحتلال الأمريكي للعراق، وتشبه بعضها من حيث المساهمة والاستفادة من إبقاء العراق من دوامة العنف، والحاجة، والإرهاب، وقادرة على المساهمة مجدداً في سلوك سياسي، وردود أفعال تؤجج الموقف. أما من حيث اللحظة فقد اختار الأمريكيون توقيتاً محدداً للتصعيد القومي في العراق، بحيث يمنع التقدم الإيجابي والاستفادة الوطنية الجامعة من نتائج المعركة على داعش، والتي كانت تفتح بارقة أمل ما في استعادة جزء من الوحدة الوطنية في العراق.
أما لماذا لم يتصعد الوضع إلى أقصى حد، فلأن عناصر التوتير المتوفرة إقليمياً ومحلياً في العراق أصبحت محاطة وبعد التجربة، بعوامل إخماد، متمثلة بالدرجة الأولى بالمبادرات السياسية للقوى الدولية الصاعدة، وفي مقدمتها روسيا في منطقتنا، التي تستخدم قدراتها الدبلوماسية والعسكرية، لتطويق الحرائق التي لا يمل الأمريكيون من إيقادها. وساهم هذا الجو الدولي الجديد، في ألّا تلعب القوى الإقليمية التركية والإيرانية دوراً تصعيدياً، وبأن تتراجع بعض القوى الكردية في العراق، بالإضافة الى دور التجربة التي اكتسبتها الشعوب حيال مثل هذه الخيارات التدميرية.
قبل سوتشي وحماية للنصرة
ما العودة إلى ما حصل في كردستان العراق، وفي المحاولة الأمريكية الأهم، إلّا للسحب والقياس على ما يجري اليوم في الشمال السوري.
فالأمريكيون أيضاً جهزوا عبوة متفجرة، ودفعوا الأطراف المتشددة كافة إلى تقاذفها، في لحظة سياسية محددة. حيث بادروا للحديث عما أسموه (جيش سورية الجديد)، ليكون حرس حدود. أي: أنهم أمنوا كل عناصر التوتير والاستفزاز التركية، وقدموا لتركيا المأزومة داخلياً وفي سورية، فرصة تصعيد، وإعادة ترتيب أوراق سياسية في لحظة حرجة.
فمن حيث اللحظة اختار الأمريكيون الوقت الذي يخسرون فيه تدريجياً قوتهم العسكرية الأساسية المتمثلة بالنصرة في إدلب، علّهم يؤخرون خسارتها، وينقلون التوتر إلى منطقة أخرى، وهذا أولاً وربما الأقل أهمية. لأن الأهم بالنسبة للأمريكيين في اختيار اللحظة، هو: مؤتمر الحوار الوطني في سوتشي. حيث إن هذا التصعيد يسبق المؤتمر، ويستخدم أحد الأطراف الضامنة، وهم الأتراك. بالإضافة إلى أن سوتشي يضع واحدة من مهامه تأمين الحضور الكردي الواسع للمؤتمرات المتعلقة بالحل السياسي في سورية للمرة الأولى. والأكراد السوريين إذا ما دخلوا في إطار الحلول السياسية، فإن ورقة الإغواء العسكري الأمريكي، المستخدمة معهم تصبح أقل فعالية، ومهددة بالزوال كلما انخرطوا في الحلول والحوار، ووضعوا رؤيتهم وقضيتهم ومشاكلهم في إطار سياسي سوري جامع.
الأمريكيون يريدون عرقلة مؤتمر سوتشي، وإحاطته بجو من النار، لأنهم يعلمون بأنه مجهز لينجز نقلة نوعية في الحلول السياسية في سورية، وليؤمن دفعة قوية للعملية السياسية في جنيف، والأهم أن المؤتمر معدّ لدفع تطبيق القرار 2254، أي: خارطة الحل السياسي في سورية، ويريدون كذلك أن يؤخروا حسم المعركة مع النصرة، وإنهاء وجودها. وهذه هي محددات اللحظة التي اختار فيها الأمريكيون التصعيد، أما من حيث الأجواء، وتحديداً وضع الأتراك. فإن أصحاب مشروع الفوضى الأمريكي يعلمون أن احتمالات رد فعل هجومي تركي على الاستفزاز هي احتمالات عالية، وتحديداً بعد أن بدأ الأتراك يخسرون أوراقهم السياسية المفاوضة، والمتمثلة بالجزء الأكبر من الفصائل العسكرية في الشمال، التي تضيق عليها النصرة، والتي لم تنجح عملية فكها عن النصرة بشكل نهائي، وبالتالي فهي مهددة بوجودها في إدلب وريف حلب وغيرها، لذلك فإن الأتراك ستكون ردة فعلهم العسكرية على الاستفزاز الأمريكي عالية نسبياً، لأنهم بحاجة لتصعيد عسكري، كورقة سياسية في مواجهة حلفائهم وأعدائهم.
نجح الأمريكيون باستفزاز الأتراك إلى العتبة الحالية، وساعدت الرعونة التركية، بإحداث تصعيد عسكري، حيث تهاجم القوات التركية عفرين هجوماً حذراً، مستخدمة فصائل عسكرية سورية في الهجوم، ما يحقق عتبة في الصراع القومي: تركي- عربي- كردي في الشمال السوري.
ولكن الهدف الأساس من الخطوة الأمريكية، هو: حماية النصرة من جهة، وتعطيل مؤتمر سوتشي من جهة أخرى، ولم يتحقق حتى الآن. فالمعارك مع النصرة مستمرة في إدلب، والروس أكدوا على موعد سوتشي في 30 من الشهر الحالي، وأعلنوا اتفاقهم مع الأطراف الضامنة على قائمة المدعوين.
رد الفعل الروسي واضح، بالتركيز على جوهر المشكلة، أي: الدور الأمريكي، ومحاولة احتواء السلوك التركي قدر الإمكان. حيث أدان الروس العملية التركية، وحملوا الأمريكيين المسؤولية، وفتحوا كل الخطوط مع تركيا، ليتم إعادتها إلى الحلول السياسية، ووضعوا مبادرات متمثلة بتسليم مناطق للجيش السوري، ولكن تم رفضها حتى الآن. لن تستطيع هذه المعركة أن تستمر طويلاً، وسيطوقها الوضع التركي المأزوم داخلياً، والاحتمالات المفتوحة في المناطق الكردية في تركيا من جهة، ومن جهة أخرى ستطوقها المبادرات السياسية قبل سوتشي وخلاله. فما يجري من تصعيد هو: رفع للسقوف التفاوضية التركية، والأمريكية، ولكنه سينقلب إلى خسارات سياسية، عندما يرى الطرفان المأزق الناجم عن خسارة أوراقهم وحرقها بالرعونة العسكرية.