«البلاد تريد حلولاً سياسية»
ينبغي تقديم تنازلات من الأطراف كلها، كي يصل السوريون إلى توقيع الاتفاق السياسي لحل الأزمة السورية حلاً سياسياً برعاية دولية، وعندما يمتنع أحد من الأطراف أو كلاهما عن التنازل، ويدفع بذلك إلى عرقلة العملية التفاوضية، وبالتالي تأخير الوصول إلى الحل، فإنه عملياً يمتنع عن تقديم التنازلات للشعب السوري، أو بالأحرى يمتنع عن تقديم التنازلات في سبيل المصلحة الوطنية.
ما هي المصلحة الوطنية حالياً؟ وما هو معيار الوطني وغير الوطني في اللحظة الحالية من عمر أزمتنا؟
إن محدد السلوك الوطني في سورية، هو: السعي لمنع وصول البلاد إلى نقطة اللاعودة، أي: إلى حالة الانهيار الشامل، التي تفتح على احتمالات التقسيم واستمرار الكارثة الإنسانية. وإن كانت هذه العتبة قد تم تجاوزها، وأصبحت وراءنا إلى حدٍ بعيدٍ، نتيجة ظرف توازن القوى الدولي الجديد، إلا أن المهمة لم تكتمل بالطبع، فسورية، وإن وصلت إلى حافة الهاوية، ولم تسقط بها دون رجعة، إلا أنها لا تزال بوضع هش جداً، يتطلب مساعي سورية وطنية جدية لوضع ركائز استقرار، تمنع النكوص. فما هي المهمات الوطنية الأساسية أمام الوطنيين السوريين؟
الحفاظ على خفض التصعيد وتمديده
أولاً: وبالطبع ينبغي أن تنتهي الكارثة الإنسانية السورية، أو يتوقف تمددها... فلا مزيد من المعارك التي تبتلع أعمار الناس، وتهدم استقرارهم الهش، وتجعلهم يسيرون في الأرض باحثين عن مأوى ومعيل. وبالتالي، فإن كل من يساهم في تعزيز وتثبيت ما تم الوصول إليه، من هدنٍ ومناطق خفض التصعيد، يساهم مساهمة وطنية فعالة، والعكس بالعكس، فكل من يحاول العودة عمّا أنجز، يلعب دوراً غير وطني، ويعادي مصلحة عموم السوريين. سواء كان هذا عبر الخروقات والتعديات، والهجوم والاعتداء، أو حتى رد الاعتداء بمستوى استفزازي أعلى، أو عبر التعامل مع أطراف الإرهاب ورفض الانفصال عنها.
إن العمل الوطني اليوم، يقتضي: تثبيت مناطق الهدن وتوسعيها، وتقليص مساحة المعارك لتقتصر على ما تبقى من مناطق الإرهاب، وعلى الأطراف التي ترفض الانفصال عنه تماماً. والأهم: عودة هذه المناطق لتتصل حيوياً مع محيطها، وليتمكن سكانها وأهلها من الخروج منها والعودة إليها، والاحتكاك بالمناطق السورية الأخرى، بما يتيح إنهاء حالة تقطيع أوصال البلاد عن بعضها البعض المنتشرة خلال سنوات الأزمة.
وإن كانت هذه العملية تؤدي إلى إيقاف العنف، وإتاحة الهدوء واستعادة وضع أكثر استقراراً وأقل «حربية»، فإن هذا لا يكفي بحد ذاته، وإن كان شرطاً لازماً وواحداً من أسس الاستقرار، إلا أنه غير كافٍ بمفرده.
الحل السياسي ضرورة وطنية
ثانياً: يجب أن يعقب إيقاف العنف، الوصول إلى الاتفاق السياسي، كضرورة وطنية، وفق القرارات الدولية التي ترسم خارطة طريق للمستقبل وتشكل ضمانة دولية، أي، تحديداً: القرار 2254. ولا يمكن أن يلعب أيُّ طرف من الأطراف دوراً وطنياً حقيقياً، طالما أنه يمانع الوصول إلى حل سياسي جدي للأزمة السورية... فلماذا هذا الربط بين الاثنين؟ ولماذا الحل السياسي يخدم المصلحة الوطنية؟
إن وصول السوريين فيما بينهم إلى اتفاق سياسي، بضمانات دولية، يعني إلزاماً لكل الأطراف الدولية والإقليمية والمحلية، بعدم التدخل عسكرياً بالشأن السوري، ويعني إذعان الجميع لإنهاء المعركة. ويعني إعلاناً لإنهاء الجزء الأهم من تدويل الأزمة السورية، وعودة محددات حلها إلى شأن داخلي بين السوريين، وعبر جسم حكم جديد، ودستور جديد، وصولاً للانتخابات. فعملياً، تأخير الحل السياسي، يجعل الهدن والاتفاقات العسكرية هشة، ويتيح العودة إلى المعركة، ويتيح الجو للأطراف المتشددة بالعودة إلى دائرة العنف، بل يتيح للإرهاب العودة مجدداً كما حصل في العراق، عندما لم يكن القضاء على القاعدة عسكرياً، كافياً لمنع ظهور داعش لاحقاً، وبقيت بيئة العراق جاهزة لتوليد التطرف، طالما أن الاستقرار السياسي والاقتصادي الاجتماعي، لم ينجز في البلد المنكوب بعد الاحتلال الأمريكي.
إذاً الحل السياسي، هو، أولاً: ضمان تثبيت وقف العنف، وضمان القضاء فعلياً على الإرهاب، وضمان خروج القوات الأجنبية كلها من سورية.
وكذلك فإن الاتفاق السياسي، هو ضمانة استعادة الوحدة الوطنية، حيث لا يمكن تجاهل ضرورة رأب الصدع الوطني السوري، وترميم حالة الانقسام الفعلية، التي حصلت على المستوى الوطني خلال سنوات الأزمة. وهذا لا يمكن أن يتم دون تغييرات كبرى، تتطلب تنازلات للوصول إلى شكل حكم جديد مشترك، وقائم على التوافق، وقادر على أن يشكل ضمانة وثقة للسوريين جميعهم ومن الأطراف والمكونات السياسية كلها، ومرعي بالإجماع والقرارات الدولية.
فعلى سبيل المثال: لا يمكن في الظرف الحالي، ودون الوصول إلى اتفاق سياسي بضمانات دولية، أن يعود السوريون جميعهم إلى بلادهم، ومناطقهم، بغياب عامل الثقة، وبالتجربة المرّة لعمليات التغييب القسري، التي مارستها الأطراف كلها، والتي تتحول إلى واحدة من أهم الجروح الوطنية، وإذا لم تدمل، فإنها تمهد لانفجار لاحق، وهذا واحد فقط من تفاصيل إعادة بناء الثقة، يضاف إليه مسائل التعويض وجبر الضرر واستعادة الكرامات.
في هذه اللحظة من عمر الأزمة السورية، يتحدد الموقف والدور الوطني لهذه القوى أو تلك، بناء على موقفها من وقف العنف كشرط أولي ضروري، أي: من مسألة الحفاظ على مستوى خفض التصعيد الحالي، وبناءً على موقفها من الإرهاب وعلاقتها به. هذا أولاً، أما ثانياً: فإن موقف هذه القوى أو تلك من الحل السياسي، ومن المسعى باتجاه الوصول إلى اتفاق سياسي نهائي بين السوريين... فعمليات المنع والتعطيل والتأخير والتذرع والاشتراط كلها، هي عمليات تؤخر الوصول إلى مرحلة سياسية جديدة، تلزم الأطراف الدولية بوقف أشكال التدخل العسكري والسياسي المباشر كلها في سورية، وتسمح بتأمين ظروف استعادة الوحدة الوطنية السورية، عبر استعادة الثقة بين الأطراف التي قدمت تنازلات متبادلة للوصول إلى توافق انتقالي مؤقت، يفضي إلى دستور وانتخابات قد تكون الانتخابات الحقيقية السورية الأولى منذ خمسة عقود...