في منطق التوازن الدولي الجديد
يعتبر عام 2018 عام الإقرار بالتوازن الدولي الجديد، حيث تكوّن إجماع عالمي حول ذلك، بين الأنظمة والحكومات، والمعارضات، والنخب السياسية والثقافية والإعلامية، بدءاً من الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، وانتهاء بأي «متثاقف» من كتّاب «القطعة بعشرة» في بلدان العالم الثالث، ومروراً بـ «ماكرون و عمر البشير...» الجميع يقر بأن ميزان القوى الدولي السابق قد تغير، وأن عصر الاستفراد الأمريكي بالقرار انتهى، وأن قوى أخرى باتت شريكة في صناعة القرار الدولي، وتحديداً روسيا والصين. ولكن هذا الاتفاق على التراجع الأمريكي لم يلغ تعدد زوايا الرؤية إلى التوازن المستجد، كل حسب موقعه ومصالحه ومداركه العلمية، وأدواته المعرفية، مما يؤدي إلى اختلاف طريقة التعاطي مع هذا الظرف الناشئ.
في توصيف الظاهرة
التوازن الدولي الجديد، ليس ضربة حظ، ولا هو صدفة تاريخية، ولا مسألة مؤقته وعابرة، ستقف عند حد معين، بل عملية تاريخية مستمرة، وعملية تراكمية ستفضي بالضرورة إلى حالة نوعية جديدة.
التوازن الدولي الجديد، ليس مجرد معطىً جغرافي، تجسد بانتقال مركز التحكم من قارة إلى قارة، أو من دولة إلى أخرى، بل هي عملية اقتصادية اجتماعية، وسياسية وثقافية - قيمية شاملة، صراع بين ملاك الثروة الحقيقية، والثروة الوهمية. صراع بين الروح الجماعية التعاونية، والنزعة الفردية الأنانية، صراع بين منطق القوة في العلاقات الدولية، ومنطق القانون الدولي.. صراع بين الاحتكام إلى إرادة الشعوب، أو الاحتكام إلى إرادة النخب.
التوازن الدولي الجديد، هو في العمق: تجلٍ لأحد أهم التناقضات في عالمنا المعاصر «إمبريالية_ شعوب» وإن كان يتمظهر حتى الآن، بأنه صراع بين الدول، إلا أن الجانب الآخر منه هو: الصراع داخل الدولة الواحدة أيضاً، بمعنى آخر هناك دول، دفعها الواقع الموضوعي، بأن تصطف في مكان ما ضمن الاستقطاب الأساس آنف الذكر، لأن رأس المال المعولم، سعى ويسعى إلى ابتلاع العالم.. العالم كله، وهو بذلك وسع دائرة خصومه لتشمل قوىً واسعةً بما فيها جزءاً من البنية الرأسمالية العالمية.
التوازن الدولي، هو عملية صراع، وإذا كان هناك توافق، فهو توافق الأمر الواقع، الذي يلزم طرفاً بالتراجع لمصلحة طرف آخر.
في طرائق التعاطي مع الظاهرة
أولاً: القوى المركزية المتراجعة وتحديداً قوى «رأس المال المالي» التي تستخدم كل الوسائل، من أجل الحفاظ على مواقعها، في الهيمنة واحتكار القرار الدولي، لم يعد في جعبتها لإيقاف هذا الانحدار التاريخي، غير إشعال الحرائق، في مناطق العالم المختلفة، وهي تجر خلفها طابوراً من وسائل الإعلام، والساسة و المثقفين المنتفعين، الذرائعيين، والرموز الاستهلاكية المصنعة بقوة الإعلام والمال، في الأنظمة والمعارضات على امتداد مساحة العالم، ومن يعمل بالتخادم مدفوعاً بمصالحه الآنية المفترضة. ورغم وجود تيارات عقلانية بورجوازية، تقرّ بالتراجع، وتعمل على تنظيمه تجنباً للانهيار الكلي، والمفارقة هنا، أن التيار الحربجي، هو الأبرز حتى الآن في المشهد، مستفيداً من هيمنته المزمنة، وتحكمه بالمفاصل التنفيذية وأدوات الهيمنة في البنية الرأسمالية العالمية، «المصارف والبنوك_ وسائل الإعلام_ اجهزة القوة» بالرغم من أن التيار العقلاني، هو الأوسع عدداً، وفي موقع أفضل ضمن خريطة الصراع، ولديه طاقات كامنة غير مفعلة، أقلها: منع إيصال التناقض بين القوى الصاعدة، والقوى المتراجعة إلى مستوى الصدام العسكري المباشر، ولعل ما يؤخر تبلور هذه الشريحة في خريطة الصراع هو: قلقها الوجودي، باعتبارها في المحصلة جزءاً من المنظومة المتراجعة.
ثانياً: العالم الثالث، يمكن ملاحظة نموذجين من التعاطي:
النموذج الأول:
على مدى عقود كانت الشرائح الطبقية الحاكمة في الكثير من الدول الطرفية، جزءاً من المنظومة الرأسمالية، وتحديداً في موقع التابع للمركز الغربي المهيمن، وفي ظل تأزم المركز، ومنطقه الاستعلائي في التعاطي مع الأطراف، وتحديداً في جعل هذه الأطراف ساحة لتأريض الأزمة، من خلال شفط المزيد من الثروة، وتحميل الحلفاء في هذه الأطراف، فاتورة الثقب الأسود للأزمة، بما فيها تفكيك هذه البلدان، ضمن إجراء عمليات «الهندسة الاجتماعية» وتعميم الفوضى التي تتطلبها الأزمة، واضطرار المركز إلى التخلي عن الأحمال الزائدة، أو ابتزازها أكثر فأكثر وإلى الحدود القصوى، جراء ذلك كله، وجدت النخب التابعة في الكثير من بلدان الرأسمالية الطرفية نفسها يتيمة أحياناً «الانقلاب التركي_ الخلاف الخليجي» «إقليم كردستان العراق بعد الاستفتاء» مثلاً، فانقسمت على نفسها، بعضها بات واضحاً، وأخرى لم تتضح، فتمر في اللحظة التاريخية الراهنة بمرحلة مخاض قاسٍ ومؤلمٍ، ولكنه بالتأكيد سيفضي في سياق عملية الصراع إلى فضاء سياسي جديد، لم تتضح معالمه وبنيته حتى الآن، بسبب حالة التأرجح التي تعيشها النخب المهيمنة، والمحاولة البائسة في اللعب ضمن هوامش الصراع بين المراكز الدولية، ومحاولة ابتزاز الطرفين، وعدم القدرة على حسم الخيارات حتى اللحظة، مما يعني موتها المؤكد كنموذج ساد في هذا البلدان.
النموذج الثاني: سورية مثالاً
من المعروف أن سورية وبسبب موقعها الجيوسياسي، كانت وما زالت ذات مكانة متميزة في الصراع الدولي، ولمرات عديدة، كانت أحد خطوط التماس في الصراع الدولي، وعليه من المفروض، ومن المنطقي أن تكون أولى الدول التي تظهر فيها مفاعيل التوازن الدولي كاملة، ولعل هذا ما يفسر «استكلاب» الطرف المتراجع بأدواته كلها في منع ذلك، من خلال إعاقة الحل السياسي الذي يعتبر أهم تجليات ميزان القوى الجديد في سورية حتى الآن.. ولكن المشكلة أن النظام، لا يرى في هذا التوازن إلا ما يدعم استمراره وبقاءه كما هو، بما يخالف طبيعة ومحتوى ومنطق التوازن الدولي الجديد، وحقيقة الأمر: أن الأصل في هذا التوازن، هو: انفتاح الأفق أمام الجماهير، وعودتها إلى الشارع، للدفاع عن مصالحها، وتقرير مصيرها بنفسها، بعد أن فقدت الثقة بالحركة السياسية الحاكمة والمحكومة، والعنوان النهائي لهذه الحركة الجماهيرية هو: الانتهاء من عصر احتكار السلطة والثروة.
إن ميزان القوى الدولي الجديد، لا يتوافق مع منطق اقتناص الفرص، لاستمرار القديم، فالتغيير جوهر هذا التوازن، ومحتواه، وغايته، لا بل أحد أدواته الأساسية، وخط الفصل في الاصطفاف بين القوى الصاعدة، والقوى المتراجعة بالنسبة لبلدان العالم الثالث يكمن في الموقف من هذه المسألة تحديداً!