«المسلسل الحقيقي لجنيف»
يكرر البعض ويعيد بأن «جنيف ليس أكثر من مسلسل» والإعلام بلغته ومقولاته المتخمة بمصالح الممولين، ينشغل خلال فترات المباحثات بضجيج: «عدم جدوى الجولات وشكليتها»... فهل فعلاً مسار جنيف والحل السياسي في سورية لم يشهد تقدماً؟ لا بد لنا من استعادة حلقات المسلسل بقراءة أكثر واقعية...
عشتار محمود
2012-2013
بادرت الأمم المتحدة إلى جنيف 1 في حزيران 2012... ورغم أن الدعوة كانت مدعومة بمجموعة العمل من أجل سورية ومن ضمنها روسيا والولايات المتحدة، إلا أن هذا الأساس المبكر لانطلاق التسوية السياسية في سورية، تبناه الطرف الروسي قولاً وفعلاً، بينما اختار الأمريكيون بعده أن يستمروا في التصعيد.
وتصاعدت الأعمال العسكرية حتى فتح الأمريكيون احتمال الضربة العسكرية المباشرة في عام 2013، والذي منعته توازنات القوى الدولية الجديدة التي تمثلت بمجموع «الفيتوات» الروسية والصينية. واعتمدت قوى الفوضى العالمية توسيع التدخل العسكري غير المباشر بديلاً، عبر تسليح الحركة الشعبية كلها، وبدأ ظهور المنظمات الإرهابية في سورية مثل: النصرة وبدايات داعش.
2014- 2015
مع هذا رد الروس بالتجاوب مع الدعوة إلى جنيف 2 في عام 2014، والذي فشل بأدوات مختلفة. فأولاً: تم إبعاد طرف فاعل في الأزمة السورية، وهو الطرف الإيراني، وثانياً: طبيعة وفد المعارضة الذي كان من لون واحد صبغته التشدد، ومتخم بالتعهدات والتصريحات النارية «لأصدقاء سورية في الغرب والإقليم». وقابله وفد النظام بتشدد مماثل، فنجحت عرقلة المؤتمر، بأن أصر كل طرف على الموضوع الذي يريد مناقشته: الانتقال السياسي/ الإرهاب.
وفي العام ذاته توسع تنظيم داعش ليحتل الموصل في العراق، وتبين أن القوى الفاشية الدولية تسعى إلى إيصال المنطقة إلى نقطة اللاعودة، وبدا الحل السياسي للأزمة السورية بعيداً.
وكان الدخول العسكري الروسي في 2015، هو رد الفعل المتوقع من القوى الدولية الجديدة التي تريد مواجهة مشروع الفوضى الفاشي. حيث جاء بعد توسع تنظيم داعش، والتصعيد العسكري القياسي في سورية، والذي هدد جدياً استمرار الدولة السورية. وأحدث هذا منعطفاً في المحاربة الجدية للإرهاب، وفتح أفقاً جديداً للحل السياسي في سورية.
لقد حول الروس إنجازهم العسكري، إلى واحد من أهم الإنجازات السياسية خلال الأزمة السورية، وهو: استصدار القرار 2254 من مجلس الأمن في نهاية عام 2015، وذلك بعد جولة من اجتماعات فيينا. القرار رسم خارطة طريق لحل الأزمة السورية، وحاول أن يجد حلولاً للعرقلات السابقة التي تمت في جولات جنيف السابقة، كمسألة طبيعة وفد المعارضة، حيث تضمن توسيعها من منصات المعارضة الأخرى: موسكو والقاهرة، بالإضافة إلى الرياض، وغيرها. وأكد على ضرورة عدم وضع الشروط المسبقة، وذكر النقاط الأساسية وخارطة الطريق متحدثاً عن الانتقال السياسي، والدستور، والانتخابات، والإرهاب.
2016
على إثر ذلك، دعت الأمم المتحدة إلى جولة جنيف 3 في بدايات عام 2016، وكان للقرار الدولي أثره الطفيف على هذه الجولة، حيث تمت دعوة منصات المعارضة الأخرى. ولكن استمرت العرقلات عبر أروقة الأمم المتحدة حيث للغرب وقعه وأدواته، وكان الأداء البطيء المقصود للفريق الدولي... فكانت الدعوة لأطراف المعارضة السورية الأخرى ملتبسة، فمرة يقال مستشارون، ومرة يقال وفود، والخلاصة: أن وفد منصة الرياض في حينها، قد اختار الانسحاب من المفاوضات، أي: إفشالها، بذريعة التصعيد العسكري، و«الدفاع عن الشعب السوري»!
تلا هذا مسعى روسي جدي لإنجاح هدنة حقيقية في سورية، وقد وصل الروس مع الأمريكان إلى اتفاق وقف الأعمال العدائية، واستئناف العملية السياسية في سورية، وذلك في شهر 9-2016. ولكن الأمريكيين المنقسمين بعمق لم يلتزموا باتفاقهم، وقد هاجمت قوات أمريكية في اليوم التالي قواتاً للجيش السوري في دير الزور.
وبناء على هذا لم يتأخر الروس في خلق البديل، فاجتمع في شهر 12-2016 وزراء خارجية: روسيا، تركيا، إيران في موسكو، وأصدروا بياناً مشتركاً لإطلاق محادثات سورية في أستانا العاصمة الكازاخية بين وفد الحكومة، والفصائل العسكرية للوصول إلى اتفاقات خفض التصعيد. وتتالت في عام 2017 اجتماعات أستانا ونجحت في إنشاء مناطق خفض التصعيد لتشمل المناطق الأكثر توتراً. وكانت نتيجة هذا أن أصبح للأزمة السورية مسارب حل إقليمية على الصعيد العسكري، وتدعم العملية السياسية في جنيف. وترتب على هذا أن سعت الولايات المتحدة للالتحاق بمسار خفض التصعيد في المنطقة الجنوبية، الذي أعقب لقاء الرئيسين الروسي والأمريكي الأول، ثم أتى بعده اللقاء الثاني مؤخراً الذي صدر عنه بيان مشترك بدعم التسوية السياسية في سورية وفق القرار 2254. وكذلك الأمر سارعت الأمم المتحدة عقب أستانا واحد، إلى عقد جولات جنيف المتتالية في عام 2017: الرابعة الخامسة والسادسة والسابعة، والثامنة المستمرة حالياً.
2017
مع كل جولة من جولات عام 2017 كانت محاربة الإرهاب تتوسع في سورية والعراق، حتى بات داعش الآن فلولاً متناثرة هنا وهناك. ومع كل جولة كان يجري تقدم في أستانا لإيجاد حلول سياسية لمناطق تصعيد عسكري. وأصبح المتشددون دولياً وإقليمياً ومحلياً عراة من أدواتهم الأساسية: أي التصعيد العسكري.
ولم يتبقّ في الجعبة من ذرائع لتأخير المفاوضات المباشرة والوصول إلى اتفاق، إلا مسألتان أساسيتان، أولاً: وفد المعارضة الذي ينبغي أن يكون واحداً، ومنوعاً بتمثيله للقوى السياسية السورية المعارضة. وثانياً: مسألة الشروط المسبقة، وفي مقدمتها: رحيل الرئيس، أو بقاؤه. وأصبح هذان الجانبان أداة المجاذبة والمناورة الرئيسة، والتأخير الذي من ورائه القوى الدولية الغربية التي تجد صعوبة في تقبل التغير الكبير في ميزان القوى الدولي الذي سيحققه إنهاء الإرهاب، وتسوية سياسية للأزمة السورية، حيث تسعى بعض هذه القوى للمماطلة إلى حين خلق بؤر توتر جدية في المنطقة، وبعضها الآخر يسعى لضمان شكل تسوية سورية يتيح حصة من «غنائم» إعادة الإعمار.
على مدار جولات عام 2017 كان العمل جارٍ ولا زال على إزاحة هذه العرقلات، وقد أنجز نسبياً في هذه المسألة، فوفد المعارضة أصبح وفداً واحداً. ولكن البيان الختامي لاجتماع المعارضة الموسّع في الرياض الشهر الماضي أبقى على الشروط المسبقة رغم أن الوقائع فرضت إزاحة عدد من المتشددين، ولكن لم ينتهِ خطابهم تماماً. وتلقف المتشددون في النظام هذا الأمر، وبدأ الحديث عن أن وفد الحكومة في جنيف سيتأخر، ثم لن يفاوض تفاوضاً مباشراً طالما أن الشروط المسبقة موجودة.
وتداركاً للعرقلات التي قد تنشأ عن الشروط المسبقة، وعن استبعاد أطراف سورية وعدم مشاركتها، بل وعن محاولات الأمريكيين تأخير الحل، عبر عدم التجاوب التام لبعض القوى الإقليمية مثل: السعودية... تداركاً لكل تأخير، بدأ الطرف الروسي يلوح بمؤتمر سوتشي: مؤتمر الحوار الوطني. ويؤكد مراراً وتكراراً أنه ليس بديلاً عن جنيف بل داعماً له كما كان الأستانا.
ورغم أن سوتشي لم يحدد بعد موعده الدقيق، ولا جدول عمله، لكن من الواضح أنه سيعمل على تسريع التسوية السياسية، وذلك عبر توسيع المشاركة في الحوار السوري، وعدم اقتصارها على وفود في جنيف، حيث يركز أيضاً على دعوة الأكراد «حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي»، ويمهد لفتح باب نقاش التسوية بين السوريين على أساس 2254، وذلك أيضاً بمشاركة إقليمية: تركية-إيرانية.
إن تسوية الأزمة السورية في لحظاتها الأخيرة، وما سنكتبه لاحقاً عن عام 2018 سيكون مختلفاً كلياً... فمسار الحل السياسي السوري منذ عام 2012 شق طريقه بصعوبة، ولكنه أزاح من أمامه: احتمالات تقسيم سورية، والتدخل العسكري المباشر، والإرهاب بشكل شبه نهائي، وقلص رقعة المعارك باتفاقيات خفض التصعيد، وفرض على الأطراف الغربية قوى معارضة سورية جدية ومستقلة، وكيّف الكثير من القوى الإقليمية مع المتغيرات الدولية الجديدة، وبقي أن ينتهي عزل المتشددين نهائياً وإطفاء خطابهم، وأن يتم توسيع مشاركة القوى السورية المتعددة والجدية، في الحل للوصول إلى مرحلة سورية جديدة: بجسم حكم انتقالي توافقي ينهي مركزة السلطات، والإسراع في صياغة دستور جديد، والتحضير لانتخابات رئاسية وبرلمانية خلال 18 شهراً بعد الاتفاق، والتفاصيل المتعلقة بمحاربة الإرهاب كلها ومنع ظهوره مجدداً.