التعددية، والمقدس وثقافة إلغاء الآخر.. كل شيء أو لا شيء..!

توجد حقيقة أثبتتها الوقائع على الأرض، وتطوراتها عالمياً وإقليمياً ومحلياً. وهي:

أن هناك فضاءً سياسياً يموت وفضاءً سياسياً آخر يولد..

من المعروف علمياً أنّ لا شيء في الحياة والطبيعة مطلق إلاّ الحركة، وعدا ذلك كل شيء نسبي مرهون بالزمان والمكان أي الظرف التاريخي.. وأن المحرك الأساس هو الصراع في الوحدة والتناقض..وهذا ينطبق على المجتمع البشري. وفي المجتمع قد تضعف العلاقات والحركة والتناقض ظاهرياً، لكنها في الواقع ومع الزمن تُخلق تراكمات لتصل في لحظة تاريخية لابد فيها من التغيير رغماً عن أنف حتى من لا يريد.. وهذا التغيير سيأخذ مداه شاء من شاء وأبى من أبى.. في كافة المستويات ومهما تعرض من محاولات لعرقلته أو حرفه...

   منذ عقود، وقبل الدستور المخضرم أي القديم الجديد، سادت – بالقوة - الثقافة ذات اللون الواحد فكراً وممارسةً وخطاباً..الثقافة التي لا ترفض الآخر فقط، بل تحاول أن تلغيه، وصار ما تقوله هذه الثقافة مقدس، ومن المحرمات التي لا يجوز مسها من الآخرين وحتى من الموالين،.. ومن يتجرأ أن يفكر خلافها مصيره القمع..    اليوم وبعد أن انفجرت الأزمة نتيجة التراكمات، والتهبت النيران الكامنة تحت الرماد، وكلفت وما زالت تكلف من خسائر بشرية ومادية.. وكنّا قد  حذرنا قبل سنوات وطالبنا باصلاحات وتغيير حقيقي، وأخيرُها وليس آخرَهَا قبل انفجار الأزمة بعشرين يوماً.. لكن قوى الفساد والقمع المهيمنة وحرصاً على مكاسبها لم تقبل أن يكون هناك رأي آخر وأن تتخلى عن أرباحها وجشعها وهيمنتها، فكانت الحركةً الاحتجاجية الشعبية وشعارها البسيط .. حرية.. سلمية..

ونتيجة الهيمنة الطويلة الأمد، اعتقد الأحاديون أنها سحابة صيف عابرة ستمر..بل حاولوا خداع الشعب باعتبارها مجرد مؤامرة خارجية وأصبح لديهم وهم، ولم يصدّقوا حتى أنفسهم، ومارسوا أبشع أشكال القمع لوأدها في مهدها..

وأكثر من ذلك أيضاً استغلوا الأزمة لتحقيق مكاسب وأرباح أخرى، وفساداً جديداً ولو أدى ذلك إلى فناء ثلث الشعب.. لكن حساب السوق لم يتطابق مع الصندوق، أو حساب البيدر لم يتوافق مع الحقل..وأثبتت الوقائع على الأرض أنّ ذلك مستحيل فساعة التاريخ قد تتوقف لفترةٍ لكنها لن تعود إلى الوراء..فاضطروا تحت ضغط الواقع أن يقرّوا أنّ هناك طرفاً آخر موجود، ومهما بلغ فرد أو أي قوى من إمكانات فلن يكون أحدٌ أكبر من الشعب والوطن، فهما أكبر المقدسات. 

وعلى المستوى المحلي انعكس ذلك أيضاً لدى الطرف النقيض، فمن الطبيعي أنّ الفعل يؤدي إلى ردّ فعل ويرفض أية مقاربة..أي منطق كلّ شيء أو لا شيء..

 كما ظنّ البعض، أنّ الأزمة انفجرت نتيجة ممارسة فردية قمعية خاطئة حدثت في درعا، وأنّ هذه الممارسة هي السبب الأساس وكان يمكن تداركها أو حلّها.. بسبب الجهل والقصور المعرفي، أو متجاهلين عن عمد أنها كان يمكن أن تنفجر لسبب ظاهريٍ آخر، وفي مكان آخر لكن في الزمان ذاته نتيجة التراكمات القمعية والهيمنة والفساد في العقود السابقة، التي مست كرامة الوطن والمواطن، وخاصةً ما سمي بسياسة الانفتاح والاستثمار الوهمي، وما تلا ذلك من السياسات الليبرالية الاقتصادية التي طبقت في السنوات العشر الأخيرة ..

اليوم بعد تفاقم الأزمة، وبعد أن دخلت أطرافاً أخرى خارجية بشكلٍ مباشر لإذكاء النيران ولتحقيق الهيمنة الكاملة على المنطقة والعالم، سواء من الدول الامبريالية التي تريد الخروج من أزمتها العالمية، أو الدول الدائرة في فلكها من الرجعية والتي تحاول ألاّ يمتد الحراك إليها..أقر الدستور المخضرم أي القديم الجديد بعجره وبجره، أقر تحت ضغط الأزمة، ورغم أنّ حجم التنازلات التي وردت فيه قليل، ولا يتناسب مع حجم التضحيات أو مع حجم الحاجات والامكانات أو ما لدى الشعب السوري من قدرات وما يستحقه.. وهو ذو التاريخ والحضارة العريقة..

فمن أقره شكلاً ومضموناً ومن طبلّ له، مازال يتعامل بالمقدس ممارسةً وخطاباً.. المقدس الذي فرض بالقوة، علماً أن التقديس والخلود يجب أن يأتي من خلال ما يقدم للشعب والوطن.. الخلود الذي بحث عنه الانسان مذ وجد، ووجده جلجامش بأحد أمرين: إمّا القيام بعملٍ بطولي، وإمّا بالتضحية من أجل الوطن. ،

وما زالت الممارسات القمعية مستمرة واشتدت أكثر.. وما زال خطاب إلى الأبد ولا أحد يجلجل ويستفزّ الأكثرية.. والذي يتناقض بشكلٍ مباشر مع مبدأ التعددية الذي اعترف فيه وأقره.. فهل هذا يحتاج إلى فترةٍ زمنية طويلة كي يتمّ الاعتياد عليه.. أي أما زالت المراهنة على الزمن ومازالت نظرة كل شيء له ولا شيء لغيره..؟

وفي النقيض أيضاً تحول الخطاب دراماتيكياً من الحرية والسلمية إلى الاسقاط والمحاكمة والاعدام..كرد فعل على العنف والقمع القاسي ..والتأجيج الخارجي الاعلامي أولاً ثمّ المال والسلاح..

فالبعض رفضه دون أن يمعن النظر فيه، ولو في مفهوم التعددية فقط، لأنه يائس وفقد الثقة وملّ سماع قصة الراعي الكذاب.. وقلةٌ منهم من رفضه وينتظر أن يترسخ هذا المفهوم على أمل، ومنهم من رفضه مسبقاً ولم يكلف نفسه عناء قراءته استجابةً لأجنداتٍ ارتبط بها.. ولغاياتٍ في نفس يعقوب..ويسعى لتسعير النيران المشتعلة.. والجميع أيضاً على مبدأ كل شيء لي و لا شيء للآخر..

 فكيف يمكن جسر هذه الهوة والأخدود الذي سيُلقى به الجميع إلى الجحيم.. ومن عليه أن يبدأ أولاً:

هل هو الطرف المهيمن والمسيطر ويملك السلطة أم نقيضه.. وما حجم التنازلات التي يمكن تقديمها..؟

هناك من يفكر بواقعية واعتبرالدستور والتعددية فيه نقطةَ انطلاقٍ يمكن البناء عليها لاطفاء الحريق والخروج من الأزمة بأقل الخسائر والمحافظة على الدم السوري الطاهر..وخاصةً في ظلّ موازين القوى الحالية، مع استمرار النضال من أجل استكمال التغيير الجذري والشامل.. ويطالب علناً بخطواتٍ وممارساتٍ عملية ملموسة على أرض الواقع ومنها الافراج عن كافة معتقلي الرأي وممن لم يرتكبوا جرائم جنائية بحق الشعب والوطن ومحاسبة الفساد الكبير..مع استمرار الحراك السلمي كحقٍ مشروع وهو الضامن لاحداث النغيير..

 

 وتبقى الأغلبية المتعطشة للتغيير والحرية والعدالة بمواقفها الوطنية والتي لم تتخلى عن الأراضي المحتلة أو عدائها للظلم والاستغلال وترفض التدخل الخارجي بأي شكلٍ من الأشكال.. والمعتزة بإرثها وتاريخها وحضارتها..لم تحسم أمرها بعد، حتى تلمس بشكلٍ عملي التعددية الحقيقية التي تحقق كرامة الوطن والمواطن.. التعددية التي تعترف بالحرية وتحقق العدالة الاجتماعية وانتهاء الهيمنة والقمع والمقدس الوهمي حتى تقبل بالآخرين .

معلومات إضافية

العدد رقم:
544