الحرية والديمقراطية في الأدبيات السياسية

يزداد تداول مفهومي الحرية والديمقراطية في الخطب والأدبيات السياسية والإعلام مع ازدياد درجة النشاط  السياسي في المجتمعات، وكثيراً ما يتم الدمج بينهما وكأنهما يشيران إلى مضمون واحد، على الرغم من أنهما ليسا كذلك،

الأمر الذي يبقي هذين المفهومين في إطار صوري مجرد، يعكس شعارات و«نوايا طيبة» لدى القوى السياسية المختلفة، أكثر مما يعكس تحققهما على أرض الواقع، ويعكس لدى الجماهير الرغبة في إزاحة ما بَلي وتخلف من العلاقات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، واستبدالها بأخرى أفضل، لكن ليس بقدر ما يعكس الطريق إلى ذلك، ذلك أن الوهج المعنوي الذي يميز هذين المفهومين يُستخدم  لممارسة مختلف أشكال الانتهازية السياسية في استثمارهما، ولتغطية كل أشكال الاضطهاد المشرعنة قانونياً، سواء على نطاق دولي أومحلي..

وتقدم اليوم في منطقتنا نماذج مشوهة من «الأنظمة الحرّة» المصنعة غربياً،العراق وليبيا وجنوب السودان، التي تمثل الابن الشرعي للديمقراطيات البرجوازية الغربية، وتشكل أدوات سياسية ملائمة للنهب الاستعماري، وصواعق للتفجير الطائفي والإثني والقومي...إلخ

الديمقراطية لمن؟ ولماذا؟

 تتضمن الديمقراطية بمعناها السياسي العام، معنى دستورياً يتمثل في الاقتراع العام، وضمان الحريات السياسية والعمل السياسي، إلا أنها ظهرت عملياً، كشكل لممارسة السلطة، مع ظهور السلطة نفسها على مسرح التاريخ، أي مع ظهور الطبقات الاجتماعية، فهي شكل ممارسة الطبقة السائدة للحكم في مواجهة الطبقات المحكومة، فحتى في دولة العبيد في روما، حينما كانت تتعرض طبقة العبيد إلى أقسى أشكال الاضطهاد الذي شهده التاريخ الانساني، كانت الطبقة السائدة، طبقة سادة العبيد أو من يسمون بالأحرار، يمارسون فيما بينهم نظاماً ديمقراطياً متقدماً في حينه، وكان حكمهم يتم من خلال مجلس شيوخ يتم اختياره من أبناء تلك الطبقة، إلا أن الطبقة بمجملها كانت تمارس ديكتاتورية على طبقة العبيد، التي لم تحسب في حينه في عداد «المجتمع الديمقراطي» الرسمي، ولم يختلف جوهر الديمقراطية في التشكيلات الطبقية اللاحقة، بل ارتقت أشكالها وأصبحت أكثر قدرة على إخفاء الاضطهاد الطبقي في المجتمعات وتقنيعه، وصولا إلى الديمقراطية البرجوازية بخطوطها العامة التي رسمتها الثورة الفرنسية، والحريات السياسية التي أوجدتها كضرورة تاريخية، تقدمية في حينه، لتطوير علاقات الانتاج بما يتلائم مع تطور القوى المنتجة، بعدما أصبحت علاقات الإنتاج الإقطاعية في القارة العجوز عائق تاريخي أمام تقدم البرجوازية الصاعدة، وهذه الأخيرة كانت تزيد من ديكتاتوريتها في مواجهة الطبقات المضطَهَدة مع ازدياد نظامها الديمقراطي الداخلي رقياً، كما يقول لينين: «كلما كانت الديمقراطية متطورة كانت أقرب من المذبحة ومن الحرب الأهلية، في حالة حصول خلاف سياسي عميق وخطير على البرجوازية» وهذا ما نشهده اليوم مثلاً، مع دخول الرأسمالية العالمية في أزمة عميقة وشاملة، وقيامها بشن الحروب لإخضاع شعوبٍ بأكملها لسيطرتها، بغية الخروج من أزمتها بعدما استنفذت نظامها الديمقراطي الخاص..

لذا لم تنوجد يوماً ديمقراطية خالصة مجردة عن المضمون الطبقي، ولن تنوجد إلا في الأذهان والدساتير البرجوازية، وهي موجودة عملياً في مضمونها الطبقي، مع وجود الديكتاتورية الطبقية كوجه آخر لها..  

الحرية والضرورة

 الحرية، كما صورها هيغل هي معرفة الضرورة، والضرورة في هذه الحالة تعني القوانين الموضوعية للمجتمع وموازين القوى السياسية والدولية، وهي ليست الاستقلال الموهوم عن قوانين المجتمع، الموضوعية وليست الوضعية، بل هي تتلخص في معرفة هذه القوانين والامكانية المستندة إلى هذه المعرفة لحملها بانتظام على العمل من أجل أهداف معينة ، ويقول فريدريك أنغلز بهذا الصدد:» كلما كان حكم المرء على مسألة معينة أكثر حرية، تحدد مضمون هذا الحكم بقدر أكبر من الضرورة»، ووفقاً لهذا المفهوم تخضع الحرية إلى تناسب ضروري مع الضرورة، أي مع الواقع وقوانينه الموضوعية، وتخلع عنها رداء القداسة المثالي المجرد المطلق، لتعود حيّة إلى أرض الواقع..

لذا فإن الحرية الحقيقية التي ستبلغها البشرية مع زوال الطبقات الاجتماعية، والتي سوف تتعزز بإطراد مع وعي الضرورات، «ستسقط» الديمقراطية وتنفيها مع نقيضتها وقرينتها في آن معاً الديكتاتورية.

ضمن هذا المفهوم للحرية، يكون تحرر الجماهير بممارستها العمل السياسي، والانتقال من العفوية المنفعلة، إلى الحالة السياسية الفاعلة، القادرة على التحكم الواعي بالعمليات الاجتماعية، وهذا سيكون المصير الموضوعي لأي حركة شعبية بوصفها منصة لانبثاق الحركة السياسية أو البنية السياسية الجديدة، أما العبودية الحقّة ستكون للقوى التي ستحافظ على عفويتها وتبقى عمياء لا تبصر شيئاً من قوانين الواقع الموضوعي، لا بل أدوات بيد قوى أخرى واعية تسعى للتحكم بالواقع السياسي بما يضمن مصالحها الدولية أوالطبقية...

نماذج «ديمقراطية وحرة» مشوهة

يتبادر في ضوء ذلك مفهوم الفوضى الخلاقة إلى الذهن، ليكون ضد الحرية تماماً، فهذا المفهوم، الذي أعلنه الساسة الأمريكان عشية الاحتلال الأمريكي للعراق، يرمي إلى جعل محصلة القوى السياسية في المجتمعات تساوي الصفر تماماً، ليسهل عليهم التحكم بمجريات حياته السياسية والاقتصادية، وهو يجعل المجتمع قوى عمياء لاتختلف عن قوى الطبيعة الأخرى بشيء، هو يقضى تماماً على الوعي البشري كخاصية مميزة للمجتمعات البشرية عن الطبيعة الأخرى، هو يقضي على وعي الضرورة، أي هو يقضي على الحرية..

وبما أن الفوضى الخلاقة تعتمد على التناقضات الثانوية، فهي أنتجت ديمقراطية المكونات ما قبل الدولة الوطنية، الطائفية والعرقية والإثنية...ألخ، التي تؤول بعد قسط من الاحتراب الأهلي و الصراعات الداخلية إلى ديمقراطية توافقية يرأسها أمراء الطوائف ومشعلي الحروب وشيوخ العشائر والاقطاع السياسي...

 تلك النماذج «الديمقراطية»،القائمة حالياً في العراق ولبنان مثلا، تتميز بأنها خاضعة تماماً لقوى خارجية إقليمية ودولية ذات مصالح سياسية واقتصادية، ولا تنال من ثرواتها الطبيعية إلا الفتات  في حين تحوز الأمبريالية العالمية على حصة الأسد منها، إضافة إلى أنها ألغت أبسط الحقوق التي قدمتها الديمقراطية البرجوازية وهو حق المواطنة، الحق الذي يعكس بأحد جوانبه الانتماء الطبقي، وبالتالي يقطع السبل أمام أي نضال طبقي واعٍ ممكن..

 

لذا فإن أقصى أشكال ممارسة الحرية في المنطقة اليوم تتم عبر فعلين، الأول المقاومة الشعبية ضد الاحتلال، ورفض كل أشكال التدخل الخارجي والوصاية الاجنبية و«ديمقراطيتها»، والثاني هو النضال الطبقي ضد الطبقات السائدة، لذا فإن الحريات السياسية، ضمن مفهوم المواطنة الحقيقية، بعيداً عن أشكال التمييز الطائفي والعرقي والقومي والإثني، هي الأداة الفاعلة لممارسة النضالين الوطني والطبقي، وبكلمة أخرى المضي خطوة على طريق الحرية الحقيقية..

معلومات إضافية

العدد رقم:
544