الافتتاحية أوباما والعالم و«الأحوال الشخصية» السوري

لم يراوغ الرئيس الأمريكي باراك أوباما وكبار أركان إدارته، ولاسيما وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون، عندما أكدوا أن واشنطن سوف تعتمد سياسة «القوة الذكية»، في سياق الترويج لامتلاكه رؤية وأسلوباً مغايراً لسلفه «الغبي»، حسب هذه الإشارة، جورج بوش، الذي اعتمد سياسة القوة السافرة، وأبرز أدواتها، التدخل العسكري المباشر سواء في أفغانستان أو العراق.

وضمن «سباق التتابع» بين الجمهوريين والديمقراطيين، فإنه من الممكن إعادة تأكيد استنتاج سابق قدمناه، مفاده أنه إذا كان بوش حاول أخذ البلدان «بالمفرق»، فإن أوباما يعمل على أخذها «بالجملة». وهو يعتمد في ذلك على «دماثة» الديمقراطيين الأمريكيين المعهودة في مقابل «فجاجة» جمهورييهم، بسبب ارتباط المذكورين أولاً، عموماً، بأوساط التجارة والمصارف، والمذكورين تالياً، وأيضاً بالعموم، بأوساط صناعة النفط والتسلح. ولا ننسى هنا أن حكم الديمقراطيين في البيت الأبيض إبان فترتي رئاسة بيل كلينتون ارتبط بالتحولات الدولية الكبرى التي جرت في مستهل تسعينيات القرن الماضي، وغيرت لوحة العالم كله آنذاك، (تفكك الاتحاد السوفييتي وأوربا الشرقية «مخملياً أو دموياً»، ولاسيما تفتيت يوغسلافيا وبدء تعميم آلية «البلقنة»، واعتماد سياسة «الاحتواء المتمايز» مع إيران والعراق، بمعنى التودد للأولى آنذاك وزيادة الضغط والحصار والحروب على الثانية، بدلاً عن «الاحتواء المزدوج» التي اعتمدها بوش الأب وريغان، وتسببت بالحرب العراقية-الإيرانية، وإطلاق «مدريد» و«أوسلو» و«وادي عربة» وكل ما مهد لاختزال الصراع العربي الإسرائيلي والقضية الفلسطينية تباعاً، وصولاً إلى مطلب أوباما اليوم بـ«تجميد الاستيطان»، فقط لاغير، واعتباره سقف «النضال» الأمريكي مع الإسرائيليين)، دون أن تغيب عن إدارة كلينتون معالم استخدام القوة المباشرة (يوغسلافيا والصومال، مثلاً).
اليوم، وبعد ستة أشهر على «تبوأ» أوباما سُدًّة المكتب البيضاوي في واشنطن، وفي استعراض سريع لمجريات الشهر الأخير فقط من هذه الفترة، تبرز على نحو لافت الأمثلة التالية عن التطورات الخطيرة التي يشهدها العالم، من ضمن التطبيقات والتجليات الملموسة لسياسة «القوة الذكية» للرئيس الأمريكي، ودائماً مع احتفاظه ببلاغته اللغوية وطلاقته «الدمثة»:

إيران: التذرع بالحملات الانتخابية الرئاسية ونتائجها التي لم ترق للغرب وإسرائيل لزرع «قنابل مؤقتة» داخلياً عبر تصعيد محاولات أخذ إيران من الداخل (توترات سياسية- اجتماعية وتفجيرات أمنية) مع الإبقاء على سيف العقوبات والتهديدات العسكرية مسلطاً ضمن أسلوب «الضربة المركبة المركزة» واختيار «لحظتها المناسبة».
الصين: تفجر الأوضاع على نحو مفاجئ ودموي/ قمعي في إقليم شينغيانغ الصحراوي غرب البلاد، واتخاذ الصراع طابعاً عرقياً- دينياً، مع بروز أدوار لدول أو «قوى» إقليمية حليفة لواشنطن في تأجيج الوضع، ويشمل ذلك تركيا، التي طالب المبعوث الصيني الخاص لها وسائل إعلامها للتعامل بواقعية مع مجريات الوضع في الإقليم، لكي لا تسوء العلاقات بين البلدين، في تحذير ضمني لأنقرة بألا تتورط أكثر فيه، مثلما يشمل التهديدات التي أطلقها «تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي» (صنيعة الاستخبارات الأمريكية أو المخترق من قبلها على أقل تقدير) بالانتقام من المصالح الصينية لما يعانيه «اليوغوريون» في شينغيانغ.
روسيا: عودة الاضطرابات المتزامنة إلى جمهوريات ومناطق الشيشان وداغستان وأنغوشيا فيها بما في ذلك اشتباكات دامية مباشرة مع مسلحين في منطقة شمال القوقاز، بعد هدوء نسبي ساد في الأعوام الماضية.
 هندوراس، على الطرف الآخر من العالم: تفجر أزمة الإطاحة بالرئيس زيلايا وتحولها إلى مشكلة إقليمية تتجاوز مسائل «الشرعية الدستورية»، بالمعنى الداخلي في هذا البلد الأمريكي الجنوبي، إلى إعاقة أي تحول يساري حقيقي فيه، ليشكل ضربة لمثيلاته وسابقيه في بقية أرجاء أمريكا الوسطى والجنوبية.

أما بخصوص سورية، ومن زاوية «القوة الذكية» الأمريكية بالذات، يمكن تقديم قراءة أساسية أخرى «للبلبلة واللغط» اللذين أحدثهما ما يسمى بـ«مشروع قانون الأحوال الشخصية الجديد» فيها، الذي تنطبق عليه كل معايير استكمال محاولات أخذ سورية من الداخل، ليشكل إضافة نوعية في خطورتها على النسيج المجتمعي السوري، لما كنا نؤكد عليه سابقاً من اعتماد الغرب الإمبريالي لسياسة «الضربة المركبة» لسورية، عبر السياسة الاقتصادية «الإفقارية» المتبعة، والإبقاء على العقوبات والتهديدات العسكرية والضغط السياسي، الذي لم تكن آخره تصريحات أوباما بخصوص ما أسماه «بقاء بعض مظاهر السلوك السوري التي تقلقنا»! وسبق ذلك بروز محاولات لليبرالية الاقتصادية السورية لإيجاد «المعادل السياسي» لها، ليأتي مشروع القانون سيء الذكر محاولة لتثبيت أوتاد ذلك المعادل «بالشرع والقانون»، فتصبح سورية اجتماعياً تحت حكم «طالبان» وبنسخة قروسطية قميئة.
صحيح أن مجلس الشعب قام برد المشروع المذكور، ولكن من سيتولى معالجة آثار الفيروس الرهيب الذي نشره التسريب «السري» لبنوده والمفردات الطائفية والمذهبية الواردة فيه(؟)، في وقت بات يجاهر فيه البعض، متجرئاً، مستقوياً، «بأننا بلد طائفي، وكل منا لديه مرجعية طائفية»، قافزاً فوق كل مفرداتنا وقواسمنا الوطنية الجامعة، وكأن نماذج الحكم الطائفي في المنطقة «تشع نوراً»، وليس استعصاءً سياسياً- اجتماعياً فئوياً، ودماً على الهوية، لكي نستلهمها، سواء في لبنان أو في عراق ما بعد الاحتلال الأمريكي!
مشروع القانون رُد، ولكن لم تتوقف محاولات تسويقه بلبوس أخرى. وبالتالي فإن رده فعلياً إلى غير رجعة يتمثل في نزع كل صواعقه، عبر الإقلاع عن سياسة الإفقار الليبرالي المنهجية لعامة الناس، ومحاسبة القائمين عليها، مع التراجع عن المساس بالمكتسبات الاجتماعية والعمالية، وضرب مراكز الفساد الكبرى، ووضع شعارات الإصلاح والتنمية المستدامة موضع التنفيذ الكامل لخدمة فقراء سورية وليس أغنيائها، وإلغاء كل القوانين والإحصاءات التمييزية أو الإشكالية، السابقة والجديدة، بما يكفل بمجمله الاعتذار الجدي، عن طرح المشروع المذكور للتداول، من كل شهداء الشعب السوري على مذبح الحرية والكرامة الوطنية (لا الطائفية- المذهبية)، من أبطال ميسلون والثورة السورية الكبرى والاستقلال، إلى الآلاف من جنود وضباط الجيش السوري ومتطوعي الأحزاب والقوى السياسية والاجتماعية السورية الذين قضوا في المعارك الأولى لوأد الفتنة في لبنان والتصدي للعدوان الإسرائيلي عليه. وعلى درجة الأهمية ذاتها تأتي ضرورة الاعتذار من كل سوري طالته مفردات مشروع القانون المذكور بالسوء أو الانتقاص من مواطنيته السورية الكاملة. وفي ذلك «رد ذكي» من شأنه كشف هشاشة «ذكاء قوة» أوباما مع سورية.

معلومات إضافية

العدد رقم:
412