الافتتاحية رفع الأجور.. كم؟ ومن أين؟

يكثر الحديث في الآونة الأخيرة عن رفع متوقع للأجور.. والسؤال المشروع: كم يجب أن تزداد الأجور كي تؤمن حياةً كريمةً للمواطن؟

إذا ابتعدنا عن الأرقام التي يقول بها الاختصاصيون خارج الحكومة حول الحد الأدنى لمستوى المعيشة، فإن الحكومة نفسها اعترفت بأن الحد الأدنى للمعيشة هو 25 ألف ليرة سورية في الشهر، حينما قررت أن دعم مادة المازوت النقدي لن يُصرَف إلا للعائلة التي دخلها تحت هذا الحد المعلن.. وبذلك يتبين أن وسطي الحد الأدنى للأجر، لكي يكون مساوياً للحد الأدنى للمعيشة، يجب أن يساوي 19.711 ل.س (تسعة عشر ألفاً وسبعمئة وإحدى عشرة ليرة سورية تماماً)، آخذين بعين الاعتبار أن متوسط عدد أفراد العائلة السورية هو من أربعة إلى خمسة أفراد، وحدّ الإعالة 4.1، وإذا قارنّا هذا الرقم مع الحد الأدنى للأجور، لتبين أنه أكبر بـ 3.2 مرةً، أي بـ 320 %.. وإذا افترضنا أنه تجري سنوياً زيادة 30 % على الأجور، فإن هذه الهوة ستردم بعد عشر سنوات، وإذا افترضنا أن الأسعار ستبقى ثابتةً خلال هذه المدة منتظرةً وصول الأجور إليها، وهو ما لن يحدث طبعاً.. فهل من المقدر للمواطن السوري البسيط أن ينتظر العمر كله لحل هذه المشكلة؟ وهل لا حلّ لهذه المشكلة فعلاً ؟
كان من الممكن الموافقة على ردم هذه الهوة خلال عقد أو عقدين من الزمن، إذ كانت هناك ظروف استثنائية تجبر البلاد على هذا الوضع، ولكن أن يجري هذا الأمر في وقت تتكدس فيه الثروات بأيدي قلة قليلة من الناس خلال فترات زمنية قصيرة جداً، فهاذا أمر غير مقبول، ولا يجوز التساهل معه..
إن لدى سورية كل الإمكانيات لكي يعيش مواطنوها الحياة اليومية التي تليق بهم، والتي استحقوها بفضل تضحياتهم الوطنية على مر التاريخ، وخاصةً في الأوقات العصيبة.. ناهيك عن أن الضرر الذي يصيب المستوى المعيشي للمواطنين يخلق توتراً اجتماعياً مستمراً يمكن أن يستفيد منه العدو الخارجي ويوظفه لمصلحته في منطقة تغلي وتفور، ولا تنفك المخططات الأمريكية- الصهيونية عن استهدافها بشكل دائم..
إن الالتفات الجدي إلى الوضع المعيشي لأوسع الجماهير الكادحة هو جزء، ومكون رئيسي من الوحدة الوطنية التي يجب صيانتها وتوطيدها باستمرار.. وليس صحيحاً ما يقال بأن موارد الدولة لا يمكن أن تفي بحل هذا الإشكال خلال المدى المنظور، لأن موارد البلاد الفعلية قادرة على حل هذه المعضلة إذا وُظّفت بالاتجاه الصحيح، وإذا لعبت الدولة الدور المطلوب منها في هذا المجال..
إن إزالة الخلل بين نسبة الأجور والأرباح في الدخل الوطني كفيلة بحل جزء أساسي من هذه المشكلة، فنسبة الأجور من الدخل الوطني لا تتجاوز بحال من الأحوال 25% مقابل 75% للأرباح، وإذا علمنا أن جزءاً هاماً من هذه الأرباح يذهب فساداً كبيراً، وإذا أضفنا إلى ذلك تواطؤ أصحاب المال الكبير مع الفاسدين في جهاز الدولة الذين يهرّبون كميات هامة من ثرواتهم خارج إطار التكليف الضريبي، ما يسبب فاقداً كبيراً في موارد الدولة التي يمكن أن تغذي بها صندوق الأجور، لتبين لنا أن الحل ليس ضرورياً فقط، بل وممكن أيضاً في حال توفر الإرادة الضرورية لذلك..
إن الوضع أصبح يتطلب السير الحثيث نحو ردم الهوة بين مستوى الأجور والحد الضروري لمستوى المعيشة، خلال فترة زمنية قصيرة لا تتعدى العامين أو الثلاثة، وذلك ممكن تماماً بتصعيد الضربات الجدية ضد الفساد الكبير وضد التهرب الضريبي لأصحاب الأرباح، أي أن الأمر يتطلب رفع الأجور الفعلية، وليس الاسمية فقط بنسبة 300% على الأقل، وخلال المدى القصير المنظور..
إن سياسة الخطوة- خطوة في تصحيح الأجور لم تعد تجدي نفعاً، لأن الأسعار كانت أسرع دائماً في سباقها مع الأجور.. وليس صحيحاً أن رفع الأجور بهذا الحجم سيسبب أي تضخم إذا أخذت الزيادات من مصادر حقيقية ،وهي الضريبة على الأرباح، والحد من التهرب الضريبي، ومحاربة الفساد الكبير، ناهيك عن أن إجراءً كهذا سيحرّك الطلب، وسيدفع عجلة الاقتصاد الوطني رافعاً معدلات نموه، إضافةً إلى المناخ الاجتماعي والسياسي الإيجابي الذي سيخلقه..
إن لدى سورية كل الإمكانيات لتصحح وضعها الاقتصادي والاجتماعي، والظروف الخارجية الضاغطة تستعجل هذا الأمر ولا تؤجله، وفي ذلك ضمانة لكرامة الوطن والمواطن..

معلومات إضافية

العدد رقم:
411