الافتتاحية الأزمة...بين المخارج الوهمية والحل الحقيقي!
دخل مصطلح الأزمة قيد التداول في الخطاب السياسي السوري بمضامين مختلفة تختلف باختلاف زاوية الرؤية، فهناك من يرى أن الأزمة تقتصر على التوتر الأمني والوضع الاقتصادي والاجتماعي وحالة الاستعصاء القائمة بعد انطلاق الحركة الاحتجاجية، وإذا كانت هذه الرؤية تنطوي على شيء من الحقيقة إلا أنها تظل رؤية مبتسرة، لأن الأزمة أبعد وأعمق من ذلك، بل ما نجده الآن هو نتيجة لمقدمات وتراكمات تاريخية اقتصادية اجتماعية وسياسية تتعلق بطبيعة النظام الاقتصادي- الاجتماعي وبناه الفوقية، والتطورات التي حصلت ضمن هذه البنية، أي أن ما تشهده البلاد منذ آذار 2011 هو أحد تجليات أزمة مستمرة منذ عقود خصوصاً في العقدين الأخيرين، يضاف إلى ذلك دور سلوك وذهنيّة القوى المختلفة من هنا وهناك ومساهمتها في تعقيد الموقف أكثر فأكثر بعد انطلاق الحركة الشعبية.
إن ضرورة الانطلاق من هذه الحقيقة تنبع من أنها تضع حجر الأساس لسبيل الخروج الحقيقي من الأزمة، فهي الشرط المعرفي الذي لاغنى عنه للوصول إلى الحل الآمن والوصول إلى سورية الجديدة.
عملياً يجري العمل في ثلاثة اتجاهات لـ «حل» الأزمة تحددها مواقع، ومواقف ومصالح القوى المختلفة في عملية الصراع الجارية
الاتجاه الأول: يعبر عنه النظام الذي اختزل الأزمة في وجود «مؤامرة» أو في أحسن الأحوال وجود بعض المطالب المشروعة، لبى بعضها بشكل متأخر وجزئي وترقيعي، سرعان ما أُجهِضَت تأثيراتها الايجابية المفترضة بسبب سلوك الأجهزة التنفيذية وخصوصاً الأمنية منها على الأرض بعد أن مارس البعض من هذه الأخيرة قمعاً متعدد الأشكال تجاه الشارع المحتج، قمعاً ليس مرفوضاً فقط، بل يدعو إلى الريبة والتساؤل من جهة مصالح النظام نفسه، ناهيك عن مصالح البلاد والعباد، محاولاً «إنهاء» الأزمة بطريقته أي بالقمع، مع بعض التغييرات الشكلية في هذا الجانب أو ذاك، ظانّاً « أنها سحابة عابرة» لتأتي الوقائع وتفنّد ذلك، وتكشف حقيقة أن التغيير ضرورة تاريخية نابعة من حاجات الواقع الموضوعي وأن الحركة لن تتوقف إلى أن تحقق أهدافها في التغيير الجذري الشامل.
الاتجاه الثاني: تعبر عنه مواقف المعارضة اللاوطنية بما تمثل من مصالح دول وأجندات مختلفة وبما يدعمها من وسائل إعلام حاولت أن تفرض على الحركة الشعبية الشعارات التي تريدها هي، وبما تعاطف معها من الحراك الشعبي ليس حباً بتلك المعارضة بل كرد فعل على سلوك النظام على الأرجح، هذه المعارضة اختزلت الموقف إلى «إسقاط النظام» أي إسقاط البنى الفوقية فقط دون أي حديث عن البنية التحتية أي طبيعة علاقات الإنتاج السائدة، لا بل ثمة تطابق في برامج هذه المعارضة في القضية الاقتصادية الاجتماعية مع برامج النظام «الإصلاحية» خلال الفترة الماضية، فـ «الثورة» حسب صيغة هذه المعارضة هي صراع على السلطة دون تغيير شيء في جذر المشكلة، أي دون المسّ بعلاقات الإنتاج السائدة وطريقة توزيع الثروة، وبمعنى آخر دون السعي إلى تغيير جوهر الظاهرة التي تجاوزها الزمن، وهي نموذج الرأسمالية الطرفية البدائية المنتجة للفساد والاستبداد.
ولاينفع هنا متصدري الشاشات من هذه المعارضة وحواشيها حفلات الندب والنواح والتباكي على الدماء السورية النازفة، في خطاب انفعالي يلعب على الوتر العاطفي فرغم قداسة هذه الدماء لا يجوز تحويل القضية إلى موقف أخلاقي فحسب، لأن المعالجة الجدية لأية ظاهرة تتطلب معالجة أسبابها العميقة، والأب الشرعي للعنف والقمع هو الفساد، والفساد هو نتاج طبيعي لعلاقات الإنتاج الرأسمالية الطفيلية، وطالما أن هذه الرأسمالية تتحكم بالثروة فإن القمع سيستمر مهما كان الحزب أو الدين أو المذهب الذي تنتمي إليه، سواء أسمت نفسها معارضة أو موالاة.
الاتجاه الثالث: كما قلنا في البداية، إن ما يجري على الأرض من توتر أمني وعنف وتدويل هو أحد تجليات أزمة عميقة وشاملة، وإذا كان المخرج الآني يتطلب إيقافاً فورياً لكل مظاهر القمع والعنف والعنف المضاد، والاستقواء بالخارج، ويتطلب ضرورة الجلوس إلى طاولة الحوار الوطني، فإن كل ذلك على أهميته لا يشكل حلاً نهائيا للأزمة دون أن يكون ضمن رؤية تؤسس لنموذج جديد للبلاد يقطع مع النموذج السابق شكلا ومضموناً، وأول شروطه توفير الحاجات المادية والروحية للشعب السوري، وهذا ما يتطلب أعلى نسبة نمو، وأعمق عدالة اجتماعية، وإيجاد البنية الحقوقية والسياسية الناظمة لذلك، التي تجعل السلطة والثروة للشعب، ودون هذا الأفق لا نعتقد أن هنالك حلاً حقيقياً وآمناً للأزمة، لأنه من خلال ذلك فقط تتحقق الديمقراطية الحقيقية لمن يبحث عنها، ولأنه بذلك فقط تتوفر أفضل الظروف لمن يريد الدفاع عن الوطن وحاضره ومستقبله.