ثالثا: الوضع الدولي الناشئ، مهامنا، ودورنا

من المعروف أنه بعد انهيار المنظومة الاشتراكية، اختل ميزان القوى الدولي بين القطبين النقيضين، قطب الإمبريالية، وقطب الشعوب. وأُتيحت الفرصة للإمبريالية الأمريكية، أن تحاول فرض هيمنتها عبر فرض قطبها الأوحد، هذه المحاولة التي أكد حزبنا منذ البدء أنها آيلة إلى الفشل، لأن المجتمع كالطبيعة لا يقبل الفراغ، وبالفعل حاولت الإمبريالية الأمريكية التأسيس الأيديولوجي لمحاولتها الجنونية عبر عشر نظريات: نهاية التاريخ، وصراع الحضارات، وقوس التوتر..إلخ...

وقد استنتج حزبنا باكراً في أوائل التسعينات وبعد انهيار الاتحاد السوفييتي، أن انتهاء الحرب الباردة لن يجعل العالم أكثر أمناً واستقراراً، بل العكس هو الصحيح. وفعلاً حاولت الإمبريالية الأمريكية فرض سيطرتها وهيمنتها في السنوات  العشر اللاحقة لانهيار الاتحاد السوفييتي بوسائل مختلفة: سياسية وعسكرية واقتصادية. وكانت حرب الخليج الثانية والحرب اليوغسلافية محاولات أساسية على طريقها هذا، ولكن الذي حدث أن تناقضات الرأسمالية ازدادت حدة بسبب المشكلة العضوية البنيوية التي تعاني منها، وخاصة اقتصادياً، إذ كانت تتصور أن الخلل الموجود لديها هو خلل وظيفي مؤقت يمكن تجاوزه بزيادة رقعة الهيمنة والسيطرة سياسياً وعسكرياً. وعندما اتضح أن استفحال التناقضات يمكن أن يؤدي إلى انهيار بنيوي شامل، لجأت إلى الحل العسكري عبر ما يسمى: حربها العالمية ضد الإرهاب كحل وحيد لمشكلتها. فأين تكمن أسس المشكلة لديها:

1. أزمة اقتصادية مستعصية:

  منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وبعد أن جنت الإمبريالية الأمريكية الثمار الاقتصادية لهذه الحرب، احتلت المركز الأول اقتصادياً بين البلدان الرأسمالية، محسوباً على أساس حصتها منفردة في الإنتاج العالمي، بالمقارنة مع المراكز الإمبريالية الأخرى. ولكن منذ بداية السبعينات بدأ يتضح ميل تراجع موقعها الاقتصادي، وثبت نهائياً بعد ظهور الاتحاد الأوروبي الذي احتل المركز الأول، الذي كانت تشغله سابقاً الولايات المتحدة الأمريكية. وبما أن الدور السياسي والعسكري هو انعكاس للنفوذ الاقتصادي فقد نشأ تناقض بين هذين العملاقين، كانت تُحل أشباهه في القرن العشرين عبر الحروب العالمية. واستباقاً للخسارة النهائية لموقعها، وضعت الإمبريالية الأمريكية استراتيجية للسيطرة السياسية، وحتى العسكرية إذا لزم الأمر، على كل موارد الكرة الأرضية الطبيعية والبشرية كحل استباقي لأزمتها التي لا حل اقتصادي لها. من هنا يتضح سبب الميل التوسعي العدواني للإمبريالية الأمريكية.

أما قضية خياراتها وبدائلها في عملية التوسع العالمية فهي قضية تتحكم بها الظروف الملموسة والوقائع المستجدة.

ولهذه الأزمة الاقتصادية المستعصية جانبها المالي العالمي الهام جداً في الظروف الحالية. فبعد إلغاء اتفاق «برايتون وودز» في أوائل السبعينات، حيث تم فك ارتباط الدولار والعملات الأخرى بالذهب، أخذت الإدارة الأمريكية حريتها بطبع كميات هائلة من الدولار الورقي، مستفيدة من حاجة السوق العالمية لعملة تداول عالمية تكون مقياساً ومعياراً بين العملات الأخرى مكان الدور الذي كان يلعبه الذهب، فنشأ نتيجة ذلك وضع جديد تميز بإنتاج الولايات المتحدة لكميات هائلة من الدولار الورقي أكثر بكثير من حاجة سوقها المحلية  لتلبية الطلب العالمي على عملة تلعب دور مقياس معيار للتبادل، وثبتت هذا الوضع بفرضها الدولار كمعيار للتبادل النفطي الذي يعتبر سلعة عالمية استراتيجية تؤثر في التبادل على باقي السلع. والواضح أن إنتاج الدولار الورقي بلا حدود أعطى الولايات المتحدة وضعاً تمييزياً سمح لها بالمقابل بالاستيلاء على ثروات العالم دون مقابل، ولكن هذه الأفضلية التي سماها كاسترو (بفقاعة الصابون) التي لابد أن تنفجر في يوم من الأيام، تحولت إلى نقطة ضعف كبرى وصاعق يدفع الاقتصاد الأمريكي إلى الانهيار في حال تخلي العالم أو جزء منه عن الدولار كمعيار للتبادل. وكان هذا الأمر واضحاً للأوساط القيادية في الإمبريالية الأمريكية قبل انهيار الاتحاد السوفييتي، وكان هذا الانهيار مخرجاً مؤقتاً من الأزمة بسبب النهب الواسع الذي تلاه لثروات الاتحاد السوفييتي الذي سمح مؤقتاً بتأجيل الأزمة سنوات قليلة. ومنذ عام 1995 استخدمت الإمبريالية الأمريكية آلية البورصات العالمية التي تحولت إلى نادي قمار عالمي من أجل تسريع دوران الدولار الفائض عن حاجة الأسواق. والدليل على ذلك هو أن التبادلات في البورصات العالمية كانت حتى 1995 (90 %) منها لها علاقة بالاقتصاد الحقيقي و(10 %) بالمضاربات المالية، التي تهدف إلى البيع والشراء السريع للأسهم بعيداً عن عمليات الإنتاج الحقيقية، وانقلبت الآية بعد 1995 إلى العكس، وأصبح (90 %) من المبادلات لا علاقة لها بالاقتصاد الحقيقي. وإذا علمنا أن حجم المبادلات اليومية في البورصات العالمية يبلغ  (1.5) تريليون دولار، نعرف تماماً حجم الأزمة التي يعانيها الدولار الأمريكي، وقد سمحت هذه الآلية بتأجيل انفجار الأزمة حتى 2001، حين دخل عامل جديد على الخط، وهو ظهور اليورو بكامل أبعاده في أوائل عام 2002، وكان كثير من الاقتصاديين و المختصين يتوقعون انهياراً كبيراً للدولار في الربع الأخير من 2001 بسبب مجمل العوامل المذكورة أعلاه، مما اضطر صندوق النقد الدولي أن يقترح على الإدارة الأمريكية في تقريره في حزيران 2001 الانتقال إلى سياسة الدولار الضعيف بالتدريج عبر تخفيضه

 (6 حتى 7 %) شهرياً، وصولاً إلى (40 %) من قيمته الاسمية، وذلك تجنباً للصدمة التي يمكن أن يسببها اليورو بطرده للدولار من مساحة واسعة كان يشغلها، هي أوروبا الغربية.

وحسب تقديرات الاختصاصيين فإن حجم الدولار النقدي الموجود في السوق العالمية يزيد ما بين (50 ـ 200) مرة عن حاجة السوق فعلياً له، لذلك فإن الأوساط المالية العالمية التي تلعب الاحتكارات الأمريكية دوراً أساسياً فيها إلى جانب الصهيونية العالمية، كانت أمام خيارين لا ثالث لهما في نهاية المطاف:

■ إما التخلي الطوعي عن الدور العالمي للدولار بالتدريج، مما يعني فقدان الإمبريالية الأمريكية لموقعها الأول اقتصادياً وبالتالي سياسياً وعسكرياً.

■ وإما الاستفادة من الوضع السياسي والعسكري القائم لديها للحفاظ على وضع الدولار، وبالتالي الهيمنة العالمية الاقتصادية الأمريكية للدولار، ولكن هذه المرة عبر استخدام القوة.

لذلك فإن الكثير من الباحثين، من الغرب والشرق قد تنبؤوا بأحداث 11 أيلول قبل وقوعها بأشهر عديدة مثل: الأمريكي (ليندون لاروش)، والروسية (تاتيانا كالياغينا)، والكندي (ميخائيل شادوفسكي). وقد نشرت «قاسيون» الكثير من هذه التوقعات في حينه. وجاءت الأحداث وأكدت، أن الإمبريالية الأمريكية لجأت إلى الحل الثاني للحفاظ على دورها المتهاوي، وكانت ضربة أفغانستان، العملية الأولى في إعلان ما سمته «الحرب العالمية على الإرهاب»، دون تحديد آفاق مكانها وزمانها.

2. تناقضات اجتماعية داخلية عميقة:

لقد أسست الإمبريالية الأمريكية لنفسها عبر نهبها المنظم للعالم على مدى نصف قرن نمطاً من الحياة الاستهلاكية داخل الولايات المتحدة الأمريكية، خفف إلى حد كبير من التوترات الاجتماعية التي يسببها التناقض الأساسي بين العمل ورأس المال، والذي يتجلى بتمركز هائل للثروة بيد أربعين عائلة تملك الولايات المتحدة الأمريكية وتحكمها، ومن الواضح أن تراجع إمكانية الاستمرار بالنهب العالمي بالوتيرة السابقة، يحمل في طياته احتمال التراجع عن نمط من الاستهلاك انتشر في الولايات المتحدة، يتميز بالاستهلاك المفرط، والذي أصبح نمطاً، إذا تم التراجع عنه بسبب الضرورات الجديدة، سيحمل في طياته خطر تفاقم الصراع الاجتماعي الطبقي داخل الولايات المتحدة، مع الاحتمالات التي يمكن أن يفتحها من إمكانية انهيار بنية المجتمع والدولة القائمة. لذلك فإن أحداث 11 أيلول كانت مبرراً ضرورياً لتجاوز عقدة فيتنام من جهة، مما سيسمح بنشر القوات الأمريكية خارج الولايات المتحدة دون مقاومة كبيرة من جهة، وسيسمح من جهة أخرى بتقييد الحريات السياسية والمدنية العامة، وتحويل الدولة في الظروف الجديدة إلى دولة من نمط فاشي تستطيع السيطرة على المجتمع في ظل استفحال تناقضاته الداخلية التي تتوقع مراكز البحث المرتبطة بالمخابرات الأمريكية والبنتاغون بتحولها في لحظة ما إلى ما يشبه الحرب الأهلية. وفعلاً أصبح من الواضح، أن الغلاف الديمقراطي للدولة الأمريكية قد بدأ بالتمزق لتحل محله لأول مرة منذ الحملة المكارثية في خمسينات القرن الماضي دولة بوليسية قمعية شمولية تضع أمامها هدف تخفيض عدد سكان الولايات المتحدة نفسها إذا لزم الأمر إلى (100) مليون نسمة. إن الانهيار الاقتصادي المتوقع، والذي يقترب يوماً بعد يوم، وهو مرتبط في الظروف الحالية بفشل الحملة العسكرية الخارجية، يمكن أن يحمل في طياته إمكانية انفجار الدولة والمجتمع الأمريكي إلى شظايا من الجوانب السياسية والاجتماعية والعرقية والقومية، وحتى الجغرافية.

إن نمط الحياة الاستهلاكية الأمريكي المستند إلى الاستهلاك المفرط يتطلب حجماً هائلاً من موارد الطاقة، تعبر عنه الأرقام التالية:

(5%) من سكان العالم، الذين هم سكان الولايات المتحدة الأمريكية يستهلكون 30% من ثرواتها ويتسببون بـ(50%) من التلوث البيئي في الكرة الأرضية الذي يحصل بسبب استخدام واسع لمصادر الطاقة غير المتجددة، وأهمها النفط، ولذلك فإن موضوع النفط وموارده يرتدي أهمية هائلة بنظر الدوائر الحاكمة في الولايات المتحدة للحفاظ على الاستقرار الاجتماعي. وبما أن هذه الموارد غير كافية في الولايات المتحدة، فإن السيطرة عليها عالمياً يحقق هدفين:

● حل مشكلة موارد الطاقة الداخلية للهروب من الأزمة الاقتصادية والاجتماعية القادمة.

● محاصرة المراكز الإمبريالية المنافسة الأخرى لإملاء الشروط عليها.

واستناداً لكل ذلك يمكن القول: بأن ما يُسمى بـ «الحرب العالمية على الإرهاب» أمريكياً تهدف لتحقيق عدة أهداف على عدة مستويات:

الهدف الأول: على المستوى القريب: إيقاف تدهور الدولار عبر فرضه عالمياً بالقوة العسكرية. والسيطرة على منابع النفط لمنع تسعيره بأي عملة أخرى. وإلى جانب ذلك تشغيل المجمع الصناعي العسكري بطاقته القصوى من أجل تحريك الاقتصاد الأمريكي الراكد الذي وصلت فيه فوائد الاستثمار إلى أدنى مستوى عرفته تاريخياً، وهو (1%) حسب ما يقرره البنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي.

الهدف الثاني: المتوسط المدى: إحداث تغييرات عميقة في بنى الأنظمة والدول التي يطالها العدوان التوسعي الأمريكي من أجل تأمين الهدف الأول، وفتح الطريق للهدف الثالث بعيد المدى وهو: إحداث تغييرات بنيوية في خريطة العالم الجغرافية ـ السياسية، وفي تركيبته السكانية، تسمح حسب ما يُنظرون بالوصول إلى «نهاية التاريخ» أي الوصول إلى السيطرة الكونية المطلقة عبر التحكم بالموارد الطبيعية والبشرية وبالجغرافيا ـ السياسية.

وهكذا يتبين أن التناقض بين القوى المنتجة وعلاقات الإنتاج على المستوى الكوني، في مرحلة العولمة الأمريكية قد وصل إلى نقطة أصبح فيها استمرار العلاقات الرأسمالية غير الإنسانية المبنية على النهب البطش والتبادل غير المتكافئ تتناقض كلياً مع حاجات تطور القوى المنتجة، وخاصة الشق البشري منها الذي أصبح استئصال جزء منه شرط ضروري للحفاظ على علاقات الإنتاج القائمة. هذا التناقض الذي تنبأ به ماركس وأنجلز حين قالا في حينه: «أن كل خطوة إلى الأمام في تطور القوى المنتجة في ظل الرأسمالية هي خطوة إلى الوراء بالنسبة للإنسان وإلى الطبيعة». 

وكما قالا في مكان آخر: أن المستقبل هو: «إما الاشتراكية وإما البربرية». هذه البربرية التي وصلت اليوم إلى حدودها القصوى في محاولتها تصفية جزء من الجنس البشري مع ما يحمله ذلك من خطر تصفية الحياة على الأرض نفسها.

إن التناقض مع الرأسمالية اليوم، هو تناقض اجتماعي بجوهره، وعدم حله لصالح البشر يمكن أن يؤدي إلى الإضرار بوجود البشرية نفسها. لذلك أصبح النضال ضد الرأسمالية مهمة اجتماعية وإنسانية تهم كل من له مصلحة في استمرار الحياة على الأرض. ويدل على ذلك انضمام أوساط أوسع فأوسع وخاصة في الغرب وبالملايين إلى الحركة المعادية للعولمة، وهذا اتجاه موضوعي لا مرد له.

وهذا يسمح لنا باستنتاج أن منجزات البشرية التي تحققت بعد ثورة أكتوبر وبعد الانتصار على النازية وبعد نهاية المرحلة الكولونيالية لا رجعة عنها، ومما يؤكد هذا الاستنتاج أن انهيار المنظومة الاشتراكية لم يوقف علمية تفسخ الرأسمالية وتعميق أزمتها العامة المستعصية ولجوئها إلى الخيار العسكري باعتباره حلاً أخيراً في ترسانة البدائل لديها، وهذا يؤكد أن الإمبريالية تسير نحو نهايتها  الحتمية، وهاهي تفقد السيطرة على الوضع العالمي أمام تنامي قوة وتأثير قطب الشعوب الذي أخذ بخيار المقاومة ضد العولمة المتوحشة.

وهنا لابد من التأكيد بأن مقولة سمة العصر هي الانتقال من الرأسمالية إلى الاشتراكية، هي مقولة صحيحة من الوجهة النظرية، وكانت ظاهرة واقعية ملموسة ما بين انتصار ثورة أكتوبر وبداية التراجع في الحركة الشيوعية والثورية العالمية الناتج عن الخلل في ميزان القوى لصالح الإمبريالية في بداية الستينات.وعند استكمال حالة النهوض ومعاداة العولمة التي نشهدها الآن والتي هي في جوهرها شكل جديد من الأممية بين الشعوب ، ومع بداية انسداد الأفق التاريخي أمام الرأسمالية ستتأكد سمة العصر من جديد وهي: الانتقال من الرأسمالية إلى الاشتراكية.

استناداً لكل ما سبق يمكن القول أن هذه المخططات التي تستند إلى القوة العسكرية، قد وصلت إلى طريق مسدود، لأن القوة العسكرية نفسها، بقدر ما تعاظمت لها حدود. فالانتشار العسكري الأمريكي اليوم في العالم قد وصل إلى حده الأقصى من كوريا الجنوبية إلى أفغانستان والعراق ويوغسلافيا، مما يجعل إمكانية التحكم اللاحق بالصراعات الجارية مستحيلاً على الإمبريالية الأمريكية، وهذا المأزق يمكن أن يضطرها حسب تقديرات الاقتصادي الأمريكي المعروف (ليندون لاروش) إلى استخدام أسلحة الدمار الشامل من الأجيال الجديدة (النظيفة) لحل المهام الموضوعة أمامها.

إن كل التطور العالمي يثبت أن قانون التطور المتفاوت الذي اكتشفه لينين في أوائل القرن الماضي يفعل فعله اليوم فيما بين ما يسمى بلدان الشمال وبلدان الجنوب، وتتحول هاتين الحلقتين إلى حلقتين ضعيفتين كل بطريقتها، وهذا يسمح بالافتراض بأن التطور العالمي اللاحق في أوائل القرن الواحد والعشرين سيشهد انهياراً شاملاً للمنظومة الرأسمالية العالمية التي ستنفجر بفعل تناقضاتها الداخلية، والتي يلعب فيها قطب الشعوب يوماً بعد يوم دوراً متعاظماً ومتسارعاً، مما يؤكد حتمية انهيار الرأسمالية التي لم تنج من مصيرها بسبب الانهيارات في الدول الاشتراكية التي جرت في نهاية القرن الماضي، بل إن هذه العملية بعد الوقت المستقطع بين (1991 ـ 2001) قد تطورت وتحفزت واقتربت من نهايتها المنطقية، وهذا يسمح لنا بالقول بكل جرأة: أن زمن انفتاح الأفق المؤقت أمامها في النصف الثاني من القرن العشرين الذي استطاعت أن تغير فيه ميزان القوى العالمي لصالحها، قد ولى إلى غير رجعة، وأن عملية عكسية قد بدأت سيميزها تغير تدريجي سريع لميزان القوى لصالح القوى الثورية العالمية أي أن الأزمة التي كانت تعاني منها هذه القوى هي في طور الانتهاء، وهي في حالة انتقال إلى مرحلة صعود، عليها أن تستعد لمواجهتها وتحقيق أكبر النتائج الممكنة على أساسها.

بعض أسباب الأزمة في الحركة الشيوعية العالمية:

يجب الاعتراف اليوم، أن الحركة الثورية العالمية، وطليعتها الحركة الشيوعية العالمية، قد عاشت مرحلة أزمة في النصف الثاني من القرن العشرين، هذه الأزمة التي كان أساسها التغيير البطيء المستتر لميزان القوى العالمي لغير صالحها، والذي انتهى بانهيار الاتحاد السوفييتي، وأن هذه الحركة اليوم، بسبب تغير الظروف الموضوعية، تسترد عافيتها وتلتقط أنفاسها من أجل تحقيق الانعطاف العالمي المطلوب في تاريخ البشرية. وهنا يُطرح سؤال جدي علينا البدء بمعالجته، وهو: ما هي أسباب الأزمة في الحركة، والتي لم نتوقف عندها كثيراً في السابق، بهدف تحقيق أوسع تجميع للقوى في مواجهة  الهجمة الإمبريالية الجديدة. إن الوضع يتطلب اليوم البدء بالبحث عن الأسباب العميقة للأزمة، وبرأينا أنها تكمن في عقلية الانتهازية اليمينية التي سادت في الحركة الشيوعية العالمية، وخاصة بعد المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفييتي، هذه العقلية التي انعكست عملياً تحت حجة «التعايش السلمي» بالتوقف عن تفعيل الصراع الطبقي، بل كبحه عالمياً، مما أدى إلى النتائج التي شهدناها،ونعتقد أن البحث في أسباب الأزمة في الحركة عالمياً يجب أن يتوقف عند القضايا التالية:

1) الانقسام الكبير في صفوف الحركة، خاصة بعد الخلاف الصيني السوفييتي، والذي يتحمل مسؤوليته حسب ما تبين المعطيات الجديدة كل من القيادتين في الحزبين، مما أدى إلى إضعاف زخم الحركة التي كانت تسير صعوداً بعد الحرب العالمية الثانية وفي الخمسينات.

2) عدم تعاطي القيادة السوفييتية المنبثقة عن المؤتمر العشرين تعاطياً جدياً، مع أهمية حركة التحرر الوطني العالمية في تغيير ميزان القوى بين النظامين. فتحت شعار «عدم الانحياز» بقيت بلدان حركة التحرر الوطني جزءاً من السوق الرأسمالية العالمية واحتياطياً اقتصادياً هاماً لها، مع أن شعاراتها السياسية كانت تعلن عكس ذلك. وقد لعبت النظريات التحريفية، مثل ضرورة حل الأحزاب الشيوعي في العالم الثالث وما سُمي بـ «طريق التطور اللارأسمالي في العالم الثالث» دوراً أيديولوجياً هاماً في التأسيس لهذا التراجع. وهنا لا يسعنا إلا الاعتراف أن ما استنتجه ثوريون عديدون مثل: تشي غيفارا وغيره عن ضرورة إشعال مئة فيتنام أخرى للقضاء على الإمبريالية الأمريكية، كان صحيحاً كل الصحة وينسجم تماماً مع منطق المؤتمر الـ19 للحزب الشيوعي السوفييتي الذي أكد ضرورة تصدي الشيوعيين لقيادة حركة التحرر من أجل إيصالها لأهدافها النهائية ومستنتجاً أن البرجوازية في بلدان حركة التحرر قد باعت الاستقلال والسيادة مقابل حفنة من الدولارات.

لقد بلغت حركة التحرر الوطني بعد الحرب العالمية الثانية وفي الخمسينات أوجها بسبب انهيار النظام الاستعماري القديم، وعدم استكمال النظام الاستعماري الجديد لمقوماته ولو استطاعت الحركة الشيوعية العالمية ملاقاة هذا النهوض الذي عبر عن نفسه في فيتنام وكوبا خلافاً للسياسة المعتمدة آنذاك على المستوى العالمي، لكان وجه العالم اليوم آخر. لذلك فإن سياسة القيادة السوفييتية بعد المؤتمر العشرين ما أضرت فقط بشعوب العالم الثالث، بل أضرت أيضاً وقبل كل شيء بشعوب  الاتحاد السوفييتي التي  انهار نظامها الاشتراكي بسبب عدم إحداث التغيير المطلوب في ميزان القوى  الدولي والذي كان تحقيقه ممكناً، وكانت الحرب الكورية والفيتنامية والثورة الكوبية دليلاً على ذلك. لكن الذي جرى أنه بعد استكمال نظام الاستعمار الجديد لمقوماته، وبعد انتهاء الموجة الصاعدة في الخمسينات، انتقلت الإمبريالية، دون مقاومة تذكر، إلى هجوم واسع على كل جبهة العالم الثالث مثبتة أنظمة ذات نموذج واحد في نهاية المطاف تتميز بالشعارات اليسارية والتطبيقات اليمينية، بالشعارات الشعبوية والسياسات المعادية للديمقراطية تجاه الجماهير الشعبية، وهذا النموذج اليوم هو ما نشهد انهياره بعد ن استنفد مهماته التاريخية في الوقوف ضد ما سُمي «بالمد الشيوعي»، وبآن واحد في عدم قدرته على تحقيق كامل متطلبات الإمبريالية الأمريكية وأهدافها.

إن الأزمة الإمبريالية اليوم تتطلب منها تغيير هذه الأنظمة عبر ما تسميه بتغيير خرائط العالم وألوانها لإيجاد النماذج الملائمة للعولمة المتوحشة.

3) بينت الحياة أن أي نظام اقتصادي اجتماعي حتى ولو كان اشتراكياً، إذا لم يحقق وتائر النمو الضرورية لتلبية حاجات الناس، فمصيره الهلاك. وقد أدى تطبيق الوصفات الرأسمالية لمعالجة الاقتصاد الاشتراكي منذ أوائل الستينات إلى استفحال أمراضه الجديدة التي كانت معالجتها ممكنة بطرق مستحدثة،  لا تؤخذ وصفاتها من جعبة تجربة الرأسمالية، لأن ذلك أدى إلى حساسية مفرطة في الجسد الاقتصادي ـ الاشتراكي مما أبطأ وتائر نموه المعهودة تاريخياً بالتدريج، وصولاً إلى حالة لا نمو فعلياً في الثمانينات. هذا الموضوع يتطلب من الفكر الماركسي دراسة التجربة السابقة وإيجاد الحلول الإبداعية الجديدة كي تكون الأنظمة الاشتراكية القادمة أرقى وأعلى مستوى مما سبقها. وهنا يجب أن لا يفوتنا التذكير أن المدرسة الاقتصادية للمؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفييتي قد تجاهلت تحذيرات ماركس وأنجلز ولينين حول خطر الطابع البضاعي النقدي على الاقتصاد الاشتراكي وحول إمكانية إعادة إنتاجه للرأسمالية، مما كان يتطلب دائماً تضييق حيز فعله، ولكن الذي جرى كان العكس، وهذا أحد الأسباب الداخلية الأساسية للانهيارات التي جرت بسبب عدم كفاءة الاقتصاد في الظروف الجديدة على تلبية حاجات الواقع وضرورات التطور.

لقد عالج الفكر الماركسي موضوع البضاعي واللابضاعي بشكل معمق، والاستناد إلى المدرسة البضاعية في حل القضايا الاقتصادية قد أدى بالقيادة السوفييتية الجديدة بعد المؤتمر العشرين إلى وضع هدف أمامها، وهو اللحاق بالنموذج الأمريكي، هذا النموذج الذي تثبت الحياة اليوم أنه يتناقض كماً ونوعاً مع مصلحة البشرية، مما يتطلب منذ الآن التفكير الجدي بالمعايير الاقتصادية الحقيقية الفعالة للأداء الاقتصادي الذي يلبي حاجات الناس والمجتمع ولا يتناقض مع الطبيعة.

4) وأخيراً، لابد من القول أن الاعتداء على التاريخ وتسويد صفحاته لم يمس القادة والشخصيات التي هوجمت عملياً، بقدر ما مس وأضر بالشخصيات والقيادات التي قامت بهذا العمل، والتي لم تفقد فقط، مصداقيتها أمام جماهيرها، بل قامت بكبرى الكبائر عندما هزت، جرَّاء ما قامت به النموذج والمثال المتكون تاريخياً في أذهان الجماهير الشعبية للاشتراكية وإنجازاتها. لذلك صحيح ما قاله الرفيق (لودو مارتينيز) قائد الشيوعيين البلجيك: إن قوى الردة في الاتحاد السوفييتي لم تهاجم عملياً لينين، ولكن كل ما استطاعت عمله هو إزالة تماثيله دون مقاومة بعد الحملة الشرسة على تاريخ الاتحاد السوفييتي خلال أربعين عاماً. ونعتقد أن النموذج الصيني في التعامل مع التاريخ والقادة يصلح للتأمل والتفكير، لأن القيادة الصينية بعد « ماو» الذي ارتكب الكثير من الأخطاء لخصت الموضوع بأن (70%) مما قام به هو صح و(30%) غاط وحاولت تصحيح الغلط دون تهديم ثقة الذاكرة الشعبية بالنموذج المتكون تاريخياً. وهنا لا نقصد الدفاع عن أحد، لكن نقصد القول أن الإمبريالية من خلال تطويرها لأدواتها الهجومية الأيديولوجية قد وصلت إلى استنتاج صحيح وهو أن تحطيم الرموز بأي شكل كان يؤدي الى تحطيم الإنجازات والنماذج المرتبطة بهم، وهذا الموضوع هو جزء من جبهة جديدة غير الجبهة الفكرية والسياسية والمطلبية، هي الجبهة الإعلامية النفسية، والمطلوب منا التعرف عليها وتعلم النضال في خنادقها.

 

إننا نعتقد أن مساهمتنا هذه في تحليل أسباب الأزمة في الحركة الشيوعية العالمية، لا تهدف إلى مراجعة الماضي بقدر ما تهدف الى تطوير أدوات النضال من أجل المستقبل. وفي كل الأحوال نبقى عند رأينا: أن الخلاف بين الشيوعيين حول الماضي البعيد يجب أن لا يمنعهم من الاتحاد حول المهام الآنية المتفق عليها والمتعلقة بمجرى النضال العام ضد العدو الأساسي، والذي ضاق كثيراً في الظروف الحالية هامش التباين فيه، لسبب بسيط، وهو أن خيار الحل العسكري الشامل الذي تبنته الإمبريالية الأمريكية يضعنا أمام خيار واحد لا غير، خيار المقاومة الشاملة بمختلف الأشكال وعلى جميع الجبهات.