رابعاً: انعكاس التطورات العالمية على الوضع الإقليمي
إن كل مجرى التطورات والتحليل يبين أن الإمبريالية الأمريكية المحكومة بالحرب، محكومة الآن وفي المدى المنظور بتوسيع رقعة الحرب. وشاءت الظروف أن تكون منطقتنا هي منطقة المواجهة الأولى اليوم مع الإمبريالية الأمريكية وحليفتها الاستراتيجية إسرائيل الصهيونية.
ونحن في هذا الاستنتاج حول الحرب وتوسيع رقعتها، لم نتردد ولم ندخل في إطار التبصير والتنجيم، لأننا انطلقنا من رؤية شمولية للوضع العالمي أساسها التناقضات الداخلية للإمبريالية العالمية، مما سمح لنا بالوصول إلى استنتاجات حول التطورات اللاحقة، وهذا التحليل هو أحد مميزات المنظور الطبقي الذي تسلحنا به الماركسية ـ اللينينية كأداة في التحليل. لذلك لم نتخبط في الرؤية، ولم نضل الطريق في الوصول إلى افتراضات سمحت الحياة بتأكيدها.
واليوم بعد الحرب على العراق نقول: إنه بغض النظر عن الاتجاه اللاحق للضربة الأمريكية ـ الإسرائيلية، فهذه الضربة هي ضرورة عضوية لهما، مما يضع أمام قوى التحرر الوطني العربية مهام كبرى، يأتي في مقدمتها إعادة النظر في طريقة تعاملها مع جماهيرها التي انكفأت عنها خلال المرحلة السابقة، بسبب عدم قدرة هذه القوى على التعبير الدقيق و الصادق عن مصالح هذه الجماهير.
لذلك تصبح قضية إطلاق الحريات السياسية للجماهير الشعبية في البلدان العربية، شرطاً ضرورياً لابد منه لانطلاق هذه الحركة في مرحلتها الجديدة، وهذه الحريات السياسية في حال تحقيقها ستكون الأداة التي تسمح بتحويل الجماهير الشعبية إلى درع حصين وإلى قوة مواجهة هامة جداً ضد قوى العدوان التي يعترف الجميع باختلال ميزان القوى العسكري معها. وليس هناك من مخرج لتعديل الخلل في ميزان القوى إلا بالاعتماد على الجماهير التي لم يجر تجنيدها في الصراع ضد الإمبريالية والصهيونية منذ عام 1948 وحتى الآن، فالذي خسر الحروب هي الأنظمة العربية وليست الجماهير. وفيما هو قادم من المهام والمخاطر لا يمكن الانتصار على المخططات الصهيونية الإمبريالية إلا بالاعتماد على الجماهير، ومن هنا أهمية رفع شعار: «لنجعل من كل مواطن مقاوماً».
إن الحرب العدوانية الأمريكية على العراق قد أكدت صحة التحليل والتوقعات التي أتينا على ذكرها سابقاً ولكنها تسمح لنا بالخروج بعدد من الدروس والاستنتاجات أهمها:
1. إن التعويل فقط على الرأي العام العالمي وعلى رفض عدد كبير من الدول لمنع الحرب بشكل سلمي أصبح أمراً غير ممكن في الظروف الحالية. فحدة الأزمة الرأسمالية وعمقها إلى جانب الاختلال في ميزان القوى الدولي لا يفتح أمام الإمبريالية إلا خيار الحرب.
2. واستناداً إلى ذلك يصبح خيار المقاومة وبكل الأشكال هو الخيار الوحيد أمام الشعوب لأن العدوان الإمبريالي ـ الصهيوني لم يترك أمام الشعوب إلا خيار المقاومة.
3. الآلة العسكرية الأمريكية يمكن مواجهتها إما بآلة عسكرية مماثلة وهو أمر غير ممكن في الظروف الحالية، أو بمقاومة شعبية واسعة النطاق وهو الأمر الوحيد الممكن.
4. سقوط النظام العراقي في الحرب العدوانية الأمريكية على الشعب العراقي وبهذه السرعة يثبت الحقيقة التي أكدنا عليها مراراً «أن النظام الاستبدادي لا يؤسس إلا للهزائم» لأن تلك الأنظمة لا تعتمد إلا على الأجهزة القمعية دون أي اعتبار لكرامة الوطن والمواطن.
لقد صمدت بيروت 88 يوماً لأن المقاومة كانت فيها شعبية حقاً ولم تؤخذ بكل الأحوال عسكرياً، أما بغداد فقد سقطت لعدم قدرة أجهزة الدولة على تأمين مقاومة واسعة مستمرة وبسبب الميل نحو التراجع والمساومة لدى جزء منها، ولكن السبب العميق لذلك ليس في اختلال ميزان القوى العسكرية بقدر ما يكمن في عدم القدرة والرغبة في تجنيد الشعب في هذه المعركة.
5. إن تجنيد أي شعب في معركة وطنية كبرى لا تكفي فيه النداءات والمواعظ في اللحظة الأخيرة، فبقدر ما تتم تلبية الحاجات الاقتصادية ـ الاجتماعية والديمقراطية لأي شعب بقدر ما يمكن حشده وتعبئته وتجنيده لخوض المعارك الفاصلة مع العدو دفاعاً عن أرضه ومصالحه، فالدفاع عن الأرض مرتبط بالدفاع عن المصالح الشعبية المباشرة وغير المباشرة.
6. إن الحاجات الاقتصادية الاجتماعية والديمقراطية تندمج اليوم فيما بينها لدرجة أنه لايمكن فصلها عن بعضها بعضاً، ولعل أحسن تعبير عنها هو الكرامة الوطنية. فشعب كرامته غير مصانة في وطنه لا يمكنه الدفاع عن كرامة الوطن حتى لو أراد ذلك، وبالعكس فالحفاظ على كرامة الوطن ممكن فقط بتأمين كرامة المواطن كاملة غير منقوصة.
7. نعتقد جازمين اليوم بأن العراق سيخرج من ربقة الاحتلال الأمريكي الذي يغوص في مستنقع سيكلفه كثيراً، وهاهي المقاومة الشعبية المتصاعدة يومياً تفاجئ المحتلين وتحرجهم وتضيق الخيارات أمامهم. ويجب الاعتراف هنا، وبغض النظر عن رأينا بالموضوع، أن خيار صدام أو الأمريكان قد شل الحركة الشعبية إلى حد كبير ومنعها من تفجير طاقاتها في المراحل الأولى من المواجهة، إلى جانب أن هذا الوضع، وبسبب التعقيدات المتكونة تاريخياً قد قسم حتى الشارع الوطني بين رافض وشامت منتظر وموافق ضمناً على العمل العسكري الأمريكي. أما اليوم فإنه تنفتح آفاق على أرضية توحيد كل القوى الوطنية المعادية للاحتلال الأمريكي بشكل يعزل نهائياً القوى العميلة المرتبطة بأسيادها الأمريكان والإنجليز، والتي ليس لها أية قاعدة شعبية، ولا دعم لها إلا أسنة حراب جيوش الاحتلال.
8. لقد برهنت تجربة الاحتلال الأمريكي للعراق أن المرحلة التمهيدية المتمثلة بالقصف الإعلامي ـ النفسي ليست أقل أهمية من المعركة العسكرية نفسها، وهذا طبيعي في ظل التطور المذهل لأجهزة الإعلام الجماهيرية اليوم والتي أصبحت أداة تحكم هائلة بالوعي الجماهيري. حتى أن الأمر وصل ببعضهم للقول إن الإعلام هو الذي يقرر اليوم من انتصر ومن خسر في المعركة العسكرية.
إن هذا الواقع الجديد يطرح أمامنا مهام جديدة صعبة، فالمطلوب تعلم مواجهة هذا الإعلام عبر تفكيك رموزه وآلياته وصنع إعلام مواجه له. كما يجب أن ندرك منذ الآن خطورة هذا الإعلام الذي تعّول عليه الإمبريالية الأمريكية الكثير وصولاً إلى إسقاط دول وأنظمة دون معارك عسكرية، وتجربة أوروبا الشرقية والاتحاد السوفييتي لا تزال بحاجة للدراسة من هذه الزاوية للخروج بالدروس الضرورية للمواجهات اللاحقة.
9. لقد برهنت الحرب العدوانية على العراق سقوط النظام الدولي القائم بعد الحرب العالمية الثانية، والذي مثلته الأمم المتحدة ومؤسساتها. فهذا النظام أصبح من جهة لا يلبي مصالح تلك القوة الساعية للهيمنة العالمية أي الإمبريالية الأمريكية كما أنه من جهة أخرى لا يلبي مصالح الشعوب المناضلة لتغيير النظام العالمي القائم بجملته.
10. كما برهنت على سقوط النظام العربي القائم والمتمثل بالجامعة العربية واتفاقاتها ومؤسساتها، والخلاصة إن النظام العربي برهن على أنه غير قادر على مواجهة الاستحقاقات الجديدة للمرحلة. وقياساً على ذلك يمكن القول بأن الأنظمة السياسية العربية المكونة لهذا النظام المتفسخ قد استنفدت نفسها وانسدت آفاقها التاريخية انسداداً نهائياً مما يفتح المجال لظهور خيارات أخرى.
11. وأخيراً برهنت أحداث الأسابيع الماضية على أن الحركة الجماهيرية في العالم بأجمعه وفي العالم العربي هي حركة صاعدة وأنها بشكل عام سباقة للأحزاب السياسية المتواجدة على الساحة، وما حركة المتطوعين العرب تجاه العراق، بغض النظر عن التعقيدات التي رافقت العملية، إلا دليل على أن الحركة العفوية للجماهير تخطت التنظيمات السياسية التي بقيت في أحسن الأحوال في إطار البيانات والشعارات بينما تظهر التجربة أن الجماهير قد بدأت تنتقل إلى الفعل. إن الخطورة في هذا الموضوع تكمن في أن هذا الفعل إذا ما بقي عفوياً فسيتلاشى دون أن يقدم نتائج على الأرض، أما إذا أوجد تنظيماته وقياداته فهو قابل للتطور ليتحول إلى عامل أساسي في المعارك القادمة.
12. إن تحرير جنوب لبنان والانتفاضة في فلسطين، والمقاومة في العراق تبين أن المقاومة المسلحة المستندة إلى الجماهير هي التي تحقق على الأرض مواقع متقدمة ونتائج، وإن قوى التحرر العربية، قد عادت إلى المقدمة في الصراع الضاري مع الإمبريالية، ولابد من حشد كافة الإمكانات لدعم وتطوير هذه المقاومة.
ويأتي العدوان الإمبريالي الأمريكي على العراق واحتلاله والسيطرة على نفطه من أجل تأمين موقع استراتيجي في المنطقة، وتحويل العراق إلى قاعدة عسكرية ثابتة لتهديد كل المنقطة والانتقال إلى دول أخرى وصولاً إلى مقولة كولن باول حول تغيير البنى السياسية ولون الخرائط في المنطقة. ويراد من ذلك خلق تصور أن من لا يقبل بسيطرة الإمبريالية فمصيره مثل العراق، تدخل عسكري، وتدمير للبلد وقتل للشعب.. لذلك لا مكان نهائياً لرأي بعض الانهزاميين الذين يدعون بسب ذلك للقبول بأية حلول لتجنب الضربة. إن هذا الرأي يصب في خانة الاستسلام والهزيمة، وتيئيس الجماهير من جدوى المقاومة التي بدأها الآباء بخيار ميسلون، وعلينا السير بها حتى النصر الأكيد وفق منطق التاريخ وما أكثر الشواهد على ذلك.
ورغم المحاولات الأمريكية لتشكيل حكومة محلية على غرار النموذج الفلسطيني، أي حكومة تقوم في ظل حراب المحتل، ولايمكن لها عدم تنفيذ أوامر الاحتلال، لكن الوقائع تثبت أنه لا يمكن منع المقاومة، والقتال ضد الاحتلال، وبالتالي لا مكان لأي سلطة في ظل الاحتلال، والبديل هو قوى مقاتلة ولجان وطنية على الأرض تؤمن مستلزمات الصمود والمقاومة عبر تمتينها للوحدة الوطنية والشعبية، وأي تنازل عن هذا الخيار يخدم الأهداف العدوانية للاحتلال، وعلى هذا الأساس يمكن أن يجري فرز وطني اجتماعي حقيقي للقوى السياسية المختلفة بناءً على موقفها هي من أي احتلال.
إن تصاعد المقاومة في العراق، وسقوط أعداد كبيرة من القتلى والجرحى في صفوف قوات الاحتلال، يؤكد أن خيار الكفاح الشعبي المسلح هو الخيار الوحيد في مواجهة أي احتلال، فتجربة التاريخ تبرهن أن الاحتلال الكلاسيكي لا يجابه إلا بمقاومة كلاسيكية، ونحن على ثقة أن المقاومة الجارية في العراق اليوم هي برسم الشعب العراقي كله، فبغض النظر عن وتيرتها وتصاعدها في هذه المنطقة أو تلك، فمنطق الحياة سيفرض الإجماع الشعبي الجماهيري على رفض الاحتلال بتصعيد المقاومة في مختلف المدن العراقية.
إن الشعب العراقي المجيد وطبقته العاملة الباسلة الذين خاضوا النضالات الوطنية والطبقية من أجل التحرر الوطني والاجتماعي على مدى القرن العشرين، قادرون على إيجاد الشكل المناسب لإخراج قوات الاحتلال، وهم إن عانوا من قمع نظام صدام حسين الديكتاتوري الذي منعهم عملياً من الدفاع عن استقلالهم الوطني في بادئ الأمر إلا أنهم يدركون أن الاحتلال الأمريكي والبريطاني لن يأتي بالحرية والديمقراطية. حيث انتقل العراق من حكم الطغاة إلى حكم الغزاة وهذا ما لايقبله الشعب العراقي المجيد الذي بدأ المقاومة ضد المحتل أسرع بكثير مما توقعه المحللون السياسيون.
وهذا يؤكد أن النضال الوطني للشعوب العربية سيترافق في المرحلة المقبلة مع النضال الطبقي والديمقراطي، وليست بدون دلالة أن المقاومة ضد المحتل في العراق تترافق مع المظاهر الشعبية المطلبية لأن الاحتلال زاد من إفقار الشعب العراقي ونهب ثرواته المادية والثقافية والمعنوية.
ومن جهة أخرى تثبت التجربة الفلسطينية من خلال حجم التآمر على الشعب الفلسطيني والهجمة التي يتعرض لها، حجم الخطر الذي يشكله استمرار الانتفاضة الشعبية والمقاومة المسلحة في فلسطين على المخطط الأمريكي الصهيوني، فمشروع خارطة الطريق، وزيارة باول للمنطقة، ومن ثم اجتماعات شرم الشيخ والعقبة، والمؤتمر الاقتصادي في الأردن، وصولاً إلى اتفاق جنيف الأخير، يستهدف ليس فقط ضرب النضال الوطني الفلسطيني وإلغاء الحقوق الوطنية الثابتة للشعب الفلسطيني في العودة وتقرير المصير وإقامة الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس، بل تطويع المنطقة العربية بأسرها، وقد عبرت الإمبريالية الأمريكية عن حقيقة مشروعها الذي يرى أن استمرار نضال الشعب الفلسطيني ضد الاحتلال الصهيوني مع تصاعد المقاومة المسلحة في العراق، يهدد المصالح الأمريكية مباشرة ويشكل نموذجاً للشعوب المقهورة في مواجهة الاستغلال والتحكم الرأسمالي بمصيرها وثرواتها.
إن ما يجري اليوم في فلسطين هو محاولة تصفية القضية الفلسطينية عبر مشاريعها السياسية المشبوهة، بعد فشل الاحتلال لكسر النضال الفلسطيني بالقوة العسكرية، وبالفعل فإن خارطة الطريق ليست مشروعاً للحل السياسي، بقدر ما هي مجموعة من الإجراءات الأمنية المطلوب الالتزام بها لتأمين الأمن الإسرائيلي، كما أنها تستهدف اختلاق اقتتال فلسطيني داخلي لضرب الوحدة الوطنية التي فرضتها الانتفاضة.
إن الإمبريالية الأمريكية تحمي الكيان الصهيوني، لأن إسرائيل هي جزء من الإمبريالية العالمية، ومواجهة إسرائيل هي مواجهة للإمبريالية، والعكس صحيح. إن الشعب الفلسطيني قد توحد بفعل الانتفاضة ولم يتأثر بسياسة الحكومة الفلسطينية القديمة والجديدة التي طُلب منها وقف الانتفاضة عبر اعتقال مناضليها، وحتى إبادتهم إذا لزم الأمر. والرد على الإمبريالية والسياسات الصهيونية لايمكن أن يمر إلا عبر المزيد من المقاومة، والمزيد من تصعيدها.
وتأتي في هذا السياق، الضغوطات والتهديدات التي تمارس ضد سورية ولبنان، وكان آخر تجلياتها «قانون محاسبة سورية» الذي يهدف إلى إضعاف البلدين في دعمهما ومساندتهما للشعب الفلسطيني، وفي رفضهما لاحتلال العراق. كما إن هذا القانون يهدف إلى خلق الجو الإعلامي النفسي العالمي الضروري لتوسيع رقعة الحرب والهيمنة الأمريكية في المنطقة إذا لزم الأمر. ولا نريد القول هنا، أن الجانب الاقتصادي من هذا القانون ليس ذا أهمية، فإن كان شكل هذا القانون بالدرجة الأولى هو عقوبات اقتصادية، ولكن جوهره بالدرجة الأولى هو سياسي يسعى إلى تأمين المقدمات الضرورية للحركة اللاحقة للإمبريالية الأمريكية وإسرائيل الصهيونية في المنطقة. ومنذ اللحظة الأولى لم يكن لدينا أي شك أن الإمبريالية الأمريكية بعد تنفيذ مهمتها الأولى في المنطقة باحتلال العراق، ستسعى إلى التصعيد مع الدول المجاورة له، لذلك لم نتفاجأ ولم نبن آمالاً وأوهاماً حول حسابات غير دقيقة بإمكانية إيقاف سير إقرار هذا القانون في مرحلة من مراحله، ونعتقد أن الجهد الأساسي في مواجهة العنجهية الأمريكية تجاه بلادنا يجب أن يوجه إلى القوى الموجودة في الشارع الأمريكي وفي الغرب عموماً، هذه القوى التي تخوض نضالاً باسلاً ضد العولمة المتوحشة والتي يمكن اعتبارها حليفتنا الأساسية في المعركة القائمة، ولنا في مثال نضال الشعب الفيتنامي على الجبهة الخارجية أكبر دليل على ذلك، فهي في لحظة معينة تحولت إلى جبهة فاعلة مساعدة للجبهة الأساسية ولعبت دورها المطلوب في حسم المعركة في الاتجاه الصحيح. إن كل تعويل على صراعات ما وتباينات في الإدارة الأمريكية تجاه هذه القضية، هو قبض للريح لن يساهم إلا في زرع الأوهام لدى الجماهير الشعبية، وبالتالي لن يسمح بالوصول إلى درجة التعبئة الضرورية لها تحضيراً للمواجهات القادمة.
مما يلفت النظر، أن بعض السياسيين الأمريكيين المعاديين للسياسة الأمريكية الحالية قد تنبهوا إلى المأزق الأمريكي في المنطقة، ويرون أن الإدارة الأمريكية اليوم مضطرة لتوسيع رقعة الحرب، ولكن قواها البشرية و العسكرية لا تسمح بذلك، مما سيضطرها للجوء إلى أحد الخيارين أو كليهما، وهما: الاستفادة من القدرة العسكرية الإسرائيلية مباشرة، واستخدام الأسلحة النووية التكتيكية الجديدة. وهذا ما يمكن أن يُدخل المنطقة في مرحلة جديدة من الصراع غير معروف نتائجها وأبعادها الإقليمية والعالمية اللاحقة.
وضمن هذا السياق، يأتي الموقف السياسي العربي ليشكل نقطة ضعف كبرى تؤثر على مجمل التطورات في المنطقة، وتعتبر أهم عوامل تجديد العدوانية الأمريكية والإسرائيلية. فالحكام العرب يخافون من شعوبهم أكثر من خوفهم من مخططات الإمبريالية الأمريكية التي يمكن أن تمس عروشهم وسلطاتهم، وهذا أمر لايمكن استبعاده في اللحظة الحالية ضمن إعلان الولايات المتحدة الأمريكية إعادة النظر في بنى دول المنطقة. ومن جهة أخرى لا تزال الحركة الشعبية العربية، رغم حالة الاحتقان الكبرى الموجودة لديها ضد الإمبريالية الأمريكية وضد إسرائيل الصهيونية، دون مستوى المتطلبات التي تفرضها خطورة الأوضاع الحالية. وهذا لايمكن إرجاعه إلا لسببين:
● القمع السياسي، وضيق الهامش الديمقراطي إلى درجة انعدامه.
● وعدم قدرة التنظيمات السياسية على الارتقاء إلى مستوى التأثير الفعال على الحركة الجماهيرية في اللحظة الحالية.
ولكن من جهة أخرى، يجب الاعتراف أن الحركة الجماهيرية في لحظات معينة أثبتت أنها متقدمة على كل تنظيماتها السياسية، فحركة المتطوعين العرب العفوية تجاه العراق، تستحق الدراسة المتأنية واستخلاص النتائج الضرورية، كما أن تحول ثقافة الاستشهاد إلى ثقافة شعبية في الشارع الفلسطيني، الذي لا يوجد فيه من يرفع الراية البيضاء، هي قضية يجب تحويلها إلى نموذج يقتدى به كي ينتشر على أوسع نطاق في ظروف اختلال ميزان القوى مع العدو، وخاصة في المجال العسكري التكنيكي.
إن استمرار مختلف أشكال المقاومة وتطويرها وجعلها قادرة على توجيه ضربات أكثر إيلاماً للعدو الأمريكي الصهيوني وتأمين كافة الأشكال الشعبية للمشاركة العربية بهذه المقاومة سيخلق وضعاً جديداً وأرضية تسمح بالتغيير التدريجي لميزان القوى إلى حد فرض الهزيمة العسكرية والسياسية على الولايات المتحدة وإسرائيل معاً. وهذا يتطلب من القوى الوطنية عموماً، ونحن الشيوعيين خصوصاً، بذل المزيد من الجهد لتطوير ودعم الحركات الشعبية في أنحاء العالم العربي كله. وتأمين جميع الأشكال المناسبة لدعم المقاومة في كل مكان، ونحن متأكدون أن انتصارها سيؤمن أجواء جديدة، وسيضع الأساس للتغيير التحرري الديمقراطي القادم الذي لن يكون إلا محصلة طبيعية لنهوض حركة التحرر العربية في الظروف الحالية، والذي نرى تباشيره ولو بشكل جنيني حالياً. لذلك يمكن التأكيد على ضرورة التفاعل بين فصائل حركات التحرر، فبقدر ما تتحرك هذه الفصائل بهذا الاتجاه، بقدر ما تسرع باتجاه الانتصار المطلوب. ويمكن القول إن الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل الصهيونية تدركان ذلك جيداً وتعملان على خلخلة العلاقات العربية العربية والاستفراد بكل دولة عربية على حدة. وهما إن استطاعتا إخضاع الموقف الرسمي العربي، فإن ذلك يملي علينا ضرورة زيادة فعالية النشاط التضامني الكفاحي الشعبي العربي، لتنتقل القضية إلى يد الشعوب في ظل تخاذل الأنظمة. وفي حال عدم حدوث ذلك، فإن فرصة تاريخية ستهدر وستستفيد من الوضع الناشئ أمريكا وإسرائيل لإعادة ترتيب المنطقة.
إن قوى التحرر الوطني العربية معنية بتعميق وتطوير تحالفاتها بالمنطقة مع قوى التحرر الوطني الشقيقة، الإيرانية والتركية والكردية. فاتساع الهجمة الإمبريالية يضع جميع هذه القوى موضوعياً في خندق واحد.
إن مقياس الانتماء لحركة تحرر، هو مدى الاندماج في النضال العام ضد الإمبريالية. فالفرز الذي جرى مثلاً خلال العقود الأخيرة في صفوف قوى حركة التحرر العربية، قد أخرج قوى منها اتجهت باتجاه المصالحة مع الإمبريالية الأمريكية وإسرائيل الصهيونية.
إن التطورات الأخيرة في المنطقة قد زادت من الوزن النوعي للقضية الكردية. فالشعب الكردي من المكونات الأساسية للمنطقة، وقد تعرض خلال تاريخه للاضطهاد، وخاصة على يد القوى الاستعمارية والأنظمة الاستبدادية التي فرَّطت بحقوقه المشروعة، ولكن الإمبريالية الأمريكية اليوم، مستغلة شعوره بالإجحاف القومي، تحاول استمالة بعض القوى فيه، موحية لها بإمكانية تحقيق مطالبها القومية المختلفة. وواضح أن مشروع العولمة الأمريكي يتناقض جذرياً مع مصالح كل شعوب المنطقة، بما فيها مصالح الشعب الكردي. لذلك ترتدي أهمية كبرى قضية يقظة ووعي قوى حركة التحرر الوطني الكردية لألاعيب الإمبريالية وعدم الثقة بها بتاتاً، وعدم الوقوع بأحابيلها بالاستناد على تجربتها التاريخية القريبة.
إن انزلاق أية قوة نحو أحضان الإمبريالية الأمريكية، يخرجها حكماً من إطار حركة التحرر، وعلى حركات التحرر الشقيقة المجاورة أن تلعب الدور المطلوب منها لإفشال المخططات الأمريكية من خلال منع تصوير الصراع وكأنه صراع بين الشعوب القاطنة للمنطقة، وتوضيح جوهره الحقيقي. مما سيمنع تغذية التيارات الشوفينية هنا وهناك. ومن خلال الاعتراف الكامل بالحقوق المشروعة لأي شعب من الشعوب دون المساس بالتركيب الجغرافي ـ السياسي للمنطقة، أي بالحدود الوطنية القائمة والسيادة الوطنية.
إن وجود بديل وطني ديمقراطي حقيقي يعبر عن مصالح حركات التحرر في المنطقة، هو الطريقة الوحيدة لمنع أي زعم كان بأن مصالح أي شعب منها يتطابق مع مصالح الإمبريالية الأمريكية.
ولا بأس من لفت النظر، أن الإمبريالية الأمريكية كقوة مأزومة، ستضطّر إلى تغييرات كثيرة في قواعد اللعبة في المنطقة، وستضحي حينذاك بأضعف الحلفاء المفترضين لديها، لأن الصراع في المنطقة بالنسبة لها في نهاية المطاف، هو صراع على النفوذ العالمي في مواجهة خصومها العالميين.
وهكذا نرى أن السياسة الأمريكية والإسرائيلية الصهيونية في المنطقة تتميز بالسمات التالية:
■ محاولة تفكيك النظام العربي القائم لإدخال إسرائيل في نسيج المنطقة.
■ اعتبارأي مقاومة إرهاباً يجب تصفيتها.
■ تأمين المقدمات الضرورية لنقل المعركة من منطقة إلى منطقة، ولا يخرج عن هذا الإطار، السعودية والسودان ومصر وسورية ولبنان وإيران...
■ تأمين أجواء دولية مساندة لسياستها، أو تخفيض المقاومة الدولية لسياستها إلى الحد الأدنى.
■ تهيئة الجو للقبول بالأمر الواقع، والانتقال إلى إعادة الرسم التدريجي لخرائط المنطقة، عبر تغيير بنية الدول والمجتمعات.
والمطلوب في مواجهة ذلك:
● أكبر ضغط شعبي ممكن لشل تردد النظام العربي الرسمي وتخاذله.
● الانتقال بالحركة الجماهيرية إلى الشارع بأسرع وقت ممكن.
● تأمين أشكال تضامنية عملية، وخاصة في دعم البؤر التي تجري فيها مقاومة نشيطة وفعالة، مما يتطلب تطوير علاقات التعاون والتضامن والتنسيق بين قوى حركة التحرر العربية.
● نشر ثقافة المقاومة دفاعاً عن الوطن حتى الانتصار أو الاستشهاد، وهي ثقافة لها جذورها في الوجدان الشعبي، والمطلوب إنعاشها وتشجيعها وإيجاد الأشكال الملائمة لها.
● مقاطعة البضائع الأمريكية بشكل واسع جماهيرياً، واعتبار الدولار أهم بضاعة أمريكية، وتنظيم تحركات جماهيرية جدية بهذا الاتجاه.
● تفعيل أشكال التأثير الفعال بالرأي العام العالمي الذي أخذ يعبر عن رأيه بشكل فعال بالشارع عبر القوى المعادية للعولمة.