الحركة المناهضة للعولمة تقدم أول شهدائها في جنوى 250 ألف متظاهر يلقون بثقلهم على قمة الثمانية
باستثناء المظاهرات الشعبية الكبرى الموازية لها لم تخرج قمة الدول الصناعية الثماني التي انعقدت في جنوى في الفترة بين 20-22 الشهر الجاري، وكما كان متوقعاً، عن إطار صور العائلة والمصافحات الجانبية وإطلاق بعض الدعوات والتصريحات بخصوص قضايا العالم الشائكة وبؤر توتره.
لابد من.. بيان ختامي!!
ولعل أبرز ما ورد في البيان الختامي لاجتماع القمة هو تأكيد قادة دولها عزمهم على جر أفقر البلدان إلى عربة الاقتصاد العالمي (!) وضرورة قيام مسؤولية متبادلة من أجل مكافحة الفقر والوصول إلى التنمية المستدامة وموافقتهم على إرسال مراقبين دوليين للأراضي الفلسطينية لضمان تطبيق بنود ما يسمى بتقرير ميتشيل.
وبالرغم من كل وقائع الوحشية الإسرائيلية المنظمة يومياً وبغض النظر عن جدوى الفكرة عملياً يبدو أن الولايات المتحدة وافقت الأوربيين على اقتراح إرسال مراقبين رغم أنها كانت ترى فيه فكرة سابقة لأوانها وذلك ضمن محاولتها الجديدة تثبيت توصيات تقرير لجنة السيناتور الأمريكي الأسبق جورج ميتشل لتقصي الحقائق كمرجعية بديلة عن مدريد وقرارات الأمم المتحدة بما يحاول أكثر فأكثر من تفتيت أرضيات الحقوق العربية في الصراع العربي الإسرائيلي.
«جديد».. في منظور متباين!!
وفي الشأن العراقي اتفق قادة الدول على ضرورة وجود سياسة جديدة تجاه العراق ولكن يبدو أن كلا منهم كان ينظر إلى هذا الجديد من منظوره حيث تباين الموقف الروسي عن الأمريكي كما كان متوقعاً أيضاً.
مواضيع ساخنة.. وقلوب باردة!!
وإلى جانب موضوعة «الإرهاب» وتناميه في العالم الثالث ولاسيما في أفغانستان تناول البيان كذلك موضوعات الانحباس الحراري والدرع الصاروخي الأمريكي. وفي القضية الأولى تم إقرار اقتراح روسي بعقد مؤتمر دولي لبحث ظاهرة الاحتباس الحراري ودور الدول في عام 2003 فيما أكد الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش أنه سيمنح نظيره الروسي فلاديمير بوتين بعض الوقت للتفكير بخصوص قضية الدرع الذي ينوي المضي فيه قدماً رغم كل شيء، كما اتفق الجانبان وبصيغة بدت ضبابية على وضع سياسة استراتيجية موحدة بخصوص قضايا التسلح.
تنامي الحركة الاحتجاجية
غير أن الأبرز في قمة جنوى هو تنامي الحركة الاحتجاجية الدولية المناهضة للعولمة واكتسابها زخماً جديداً دفع بربع مليون متظاهر من أنحاء إيطاليا وأوربا والعالم إلى دخول مدينة جنوى التي تحولت إلى ثكنة عسكرية حقيقية مع انتشار آلاف الدوريات من مختلف عناصر الشرطة والجيش في الطرقات والمرافئ.
عولمة القتل والدماء
القسم الأكبر من المحتجين أراد التعبير سلمياً عن رفضه للعولمة وسياساتها. وعلى الرغم من ردة الفعل القوية التي اجتاحت مشاعر كل المتظاهرين إثر مقتل الشاب كارلو جولياني الذي أصبح أول شهيد يسقط برصاص الشرطة الحامية لمصالح الرأسمال المؤتمر خلف السواتر والأبواب المغلقة فإن هذه الشرطة لم تكتف، بل أغارت في اليوم الأخير للقمة على مقر منتدى جنوى الاجتماعي وقامت باعتقال قادته في عملية خلّفت وراءها مزيداً من الدماء في صفوف المحتجين الذين كانوا يعقدون مؤتمراتهم الموازية الهادفة إلى تقديم بدائل عن السياسات الرأسمالية والمطالبة على سبيل المثال بإسقاط ديون العالم الثالث وعدم استخدامها سلاح ضغط عليها من قبل القوى الكبرى الدائنة.
عنف موجه
إن عنف الشرطة ميدانياً وانتهاءً بإطلاق الرصاص الحي لم يأت من الفراغ بل جاء تنفيذاً لسياسة قادة الدول الثمان أنفسهم. فرئيس الوزراء الإيطالي بيرلسكوني وجد في ما وصفه بعنف المتظاهرين على الطرقات عاراً كبيراً فيما أكد نظيره البريطاني طوني بلير عدم اكتراثه بالمظاهرات والاحتجاجات التي اجتاحت المدينة حسب توصيفه لتهاجم المحال والمشافي والشرطة متسائلاً إن كان ذلك كله يعني توقف قادة الدول الثمان «المنتخبين ديمقراطياً» عن عقد اجتماعاتهم(!!؟)
ويبدو أن المتظاهرين من جانبهم لم يأخذوا بهذا التفسير الساذج التسويفي للتناقض الجذري بين مصالح المؤتمرين والمتظاهرين. وقد أكد بطرس كونستانتينو رئيس منتدى جنوى 2001 اليوناني أن الاحتجاجات أظهرت وجود آلاف المناضلين ضد الرأسمالية في إيطاليا كما أن «المعركة التي خضناها أظهرتنا متحدين وسعداء بنضالنا المشترك.. ولكن ما زال أمام حركتنا الكثير..»
حركة «شعب سياتل»
وبالفعل فإن حركة «شعب سياتل» كما باتت تسمى تيمناً بالانتفاضة الشعبية التي انطلقت في عقر الدار الأمريكية معطلة اجتماع منظمة التجارة العالمية أواخر العام 1999 وتواصلت من بعدها في كل مدينة استضافت مؤتمراً واجتماعاً للتكتلات الرأسمالية والمالية الدولية احتجاجاً على طريقة التعامل الإمبريالي مع ذات القضايا الشائكة في العالم هي حركة آخذة في التطور والتنامي باطراد ولكن يخشى عليها من الوقوع في أحد ثلاثة مطبات قبل تبلورها المنطقي: الاحتواء من قبل السلطات وهو ما تمت محاولته في بانكوك مثلاً ويتوقع أن لا ينجح تماماً، العنف والتخريب الذي قد يولده الإفراط في ردات الأفعال تجاه وحشية السياسات الرأسمالية أو عنف الشرطة المسبق، والشكلانية التي قد يريدها بعض المندسين في صفوف المحتجين وحركاتهم المنتشرة في مختلف بلدان العالم.
«العودة إلى الشارع»!
ومن اللافت في الحركة المناهضة للعولمة أيضاً أنها تضم بشكل أساسي طيفاً واسعاً من قوى اليسار الناشطة في شوارع بلدانها حقاً إلى جانب المحتجين من أنصار البيئة وحقوق الإنسان حيث تغيب قوى اليمين كلياً عن صفوف هذا النسق المتحرك من جديد إذ أنها ممثلة في قادة الدول المؤتمرة ومسؤوليها عادة. وتستخدم قوى اليسار هذه والتي تبنت شعار العودة إلى الشارع أحدث وسائل الاتصال في عملها ونشاطها متعدد الأوجه.
عولمة الفقر
وإذا كان الجامع بين مختلف المتظاهرين القادمين من مختلف أنحاء العالم هو تنامي الفجوة بين الشمال الغني والجنوب الفقير فإن المحرك الأساسي لاحتجاجهم هو أن ما سمي بالنظام العالمي الجديد لم يجلب بسياساته العولمية الرفاه للمجتمعات كما كان موعوداً بل ازدادت مشاكل البطالة والفقر والضمان الاجتماعي حتى في البلدان الرأسمالية ذاتها والتي بدأت بسحب المكتسبات العمالية المحصلة بنضال عشرات السنين إلى جانب الانعكاسات الاجتماعية والبيئية لعمل الشركات متعددة الجنسيات.
خيبة الأمل
ويبدو أن للمتظاهر الأوربي أسباباً أخرى للاستياء تتعلق بخيبة أملهم من سياسات حكوماته التي انجرت وراء السياسات الأمريكية «العالمية الجديدة» رغم كون هذه الحكومات محسوبة على اليسار بشقه الاشتراكي الديمقراطي أو العمالي الأوربي.
رداً على مقتل جولياني
إلى ذلك انتقلت فعاليات جنوى وبعد مقتل جولياني إلى لندن وأثينا، ففي المدينة الأولى هاجم أكثر من 150 متظاهراً سفارتي إيطاليا وكندا فيما قالت الشرطة اليونانية إن مناهضين للعولمة ألقوا قنبلتين حارقتين على أحد البنوك اليونانية وعلى مركز الأبحاث الأوربية في أثينا، وذلك رداً على مقتل جولياني.
وفي كل الأحوال يبقى الأبرز في فعاليات جنوى هو كشفها زيف ادعاءات الديمقراطية الغربية فلو كانت الاحتجاجات تجري في أي بلد لا تنصاع حكومته لإرادة النظام العالمي الجديد برموزه وسياساته وأدواته ومنفذيها لخرج قادة الدول الغربية وأبواقهم الإعلامية منددين ومطالبين بضرورة الاستماع لمطالب المحتجين. غير أن المؤتمرين في قصر جنوى تحت الحراسة المشددة لم يكلفوا أنفسهم عناء الخروج للاستماع لمطالب المتظاهرين حسبما تقتضيه ادعاءاتهم الديمقراطية عادة وربما يعود ذلك إلى أنهم باتوا يبحثون عن مكان يحميهم من غضبة المحتجين وقد يكون ذلك في الفضاء قريباً بعد أن ضاقت بهم المدن على الأرض حسبما تهكم أحد المتظاهرين في جنوى.
لقطات
* اقترح أحد سكان جنوى على قادة الدول الثمان أن يغلقوا كندا كلياً وهي المكان المقرر لاجتماعهم في العام القادم لأنهم لن يتمكنوا من منع المتظاهرين من دخول أية مدينة تجمعهم.
* بعد قيام الشرطة الإيطالية وبشكل سافر بسحب بطاقات عشرات الصحفيين اليساريين ومنعهم من دخول جنوى وردت بعض الأخبار تقول أن الديمقراطية الغربية في السويد بدأت تحاكم السويديين الذين شاركوا في مظاهرات غوتنبرغ إبان اجتماع قادة الاتحاد الأوربي الشهر الماضي.. وتبدأ الأحكام القضائية من سنتين فما فوق!!