منبر الحوار الوطني من أجل قانون أحزاب عصري إطلاق حرية الأحزاب ـ خطوة أساس

تحت عنوان: «من أجل قانون أحزاب عصري»،  تتابع «قاسيون» هذا الملف مع الاستاذ حمدان حمدان ـ عضو المكتب السياسي لحركة الاشتراكيين العرب ـ مسؤول الإعلام المركزي:

منذ عصبة العمل القومي، التي وجدت طريقها القومي قبل الوصول إلى بلدة قرنايل اللبنانية أواسط الثلاثينات، وحتى تأسيس الجبهة الوطنية التقدمية بعد حركة التصحيح، تكون سورية قد شهدت ما يربو على ثلاثين حزباً سياسياً، جلها في مواقع المعارضة لأنظمتها  السياسية وليس معها، ولدى استعراض الشريط التاريخي دون «بروفيلات» جانبية، فإن المشهد يسمح بالقول عموماً، بأن اطروحات المعارضة وآلياتها، كانت سلمية الحكم فيها لصندوق الانتخاب، خلا حوادث متفرقة لا يمكنها طبع التاريخ بميسمها حيث بدت شاذة ومنفرة، بعيدة عن أخلاق الجماهير ومزاجها، وكان هذا يعني أن تعدد الأحزاب السياسية على كثرتها وتنوع أيديولوجياتها من النقيض إلى النقيض، لم يكن يسمح للعنف والعنف المضاد، أن يجرفا طريق الحياة السياسية إلى الهاوية، مثلما يتم التذرع به عن حياة سورية السياسية بعيد الانتهاء من عهود الانقلابات العسكرية،  وهذه الفرية عن اقتران التعددية الحزبية بالفوضى، لاأساس  لها إلا في الاستثناء، وأن الشعب الذي تم تسليحه بكافة فئاته وطبقاته وأطيافه المذهبية، أيام الحشود التركية شمال سورية، لم يرتكب واقعة جرم واحدة، لا ثأرية ولامذهبية أو مادية، وهو ما دونته سجلات الداخلية السورية السنوية في ختام حوادث العام 1957، وحسبما هو مدون، وتأييداً للوقائع التاريخية فإن معظم الأنظمة السياسية العربية بُعيد الاستقلال الوطني آثرت الأخذ بمبدأ حرية تأسيس الأحزاب السياسية وأشباهها من الجمعيات الأهلية التي قد لاتكون أهدافها سياسية بل اجتماعية مدنية أو مهنية.

يقول الدستور السوري الصادر عام 1950 في مادته السابعة عشرة ما يلي:

■ للسوريين حق تأليف الجمعيات والانتساب إليها على ألا يكون هدف من أهدافها محرماً في القانون.

وتقول المادة الثامنة عشرة من الدستور المذكور:

■ يحق للسوريين حق تأليف أحزاب سياسية على أن تكون غاياتها مشروعة ووسائلها سلمية وذات نظم ديمقراطية.

■ ينظم القانون طريقة إخبار السلطات الإدارية بتأليف الأحزاب ومراقبة تحصيل مواردها.

ولم يتدخل الشارع الدستوري في شؤون الأحزاب ضمانة لاستقلالها، إلا في ثلاث:

■ مشروعية الغايات والأهداف، وسلمية الأداء والوسائل، وديمقراطية النظم الداخلية في الأحزاب، وكلها تجول في الحقل العام لأي تطور مدني سليم، ونتيجة لهذه البداهة المنطقية، فإن العديد من المشرعين الدستوريين كانوا  قد طالبوا بإلغاء مبدأ (الترخيص) لأي حزب سياسي يلتزم بمبادئ الدستور، والاكتفاء بمبدأ الإشهار التلقائي بدلاً من بيروقراطية المراجعة وآليات الترخيص الإدارية.

وبعيداً عن الماضي ومعالجاته، فقد وصلنا إلى ما وصلنا إليه الآن، سواء على الصعيد القومي بتمامه، أو على الصعيد الإقليمي بقطريته، فليس لقطر عربي أن يفخر على قطر آخر، إلا بنسبية التخلف، فإذا كانت الأمية في سورية تصل إلى نسبة 26% من مجموع الإناث والذكور، فإنها في قطر آخر تصل إلى نسبة 60%، ويبقى الوطن العربي في عداد أكثر الأوطان تخلفاً في شيوع الأمية، كذلك هو في متوسطات الدخول الفردية، إذ هي تهبط من سنة إلى أخرى، حيث التباين عند أسفل السلم العالمي من قطر عربي إلى آخر، باستثناء ثلاث دول عربية نفطية، يقل متوسط الدخل الفردي فيها، مع ذلك، عن دولة مثل أسبانيا. ويقول تقرير التنمية الإنسانية العربية الصادر عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي للعام 2002 بأن العالم العربي فشل في أن يرتفع فوق المعدلات الدنيا في  مؤشرات حساسة، مثل بناء المؤسسات وإشاعة الحريات وغيرها من معايير التمثيل والمساءلة واستقلال القضاء وصلاحيات السلطات التشريعية، وفعاليات السلطات التنفيذية ومقاييس حكم القانون. والتصدي لمظاهر الفساد،ومعاينة الاستقرار السياسي (المبني على توافقات رضائية بين السلطة والناس، وليس المبني على الخوف من عصا الحجاج) كذلك أشارت المعدلات القابلة للقياس إلى التدخلات السلطوية المريعة في موضوعات مفصلية، على رأسها مسائل الانتخابات للمجالس التمثيلية التشريعية والنقابية والبلدية... بحيث يشعر الناس بأن هذه المجالس إنما هي شأن النظام السياسي وليس شأن الشعب، وهناك معدلات القياس المتصلة بموضوعة التناوب على الحكم، أو ما يسمى بتداول السلطة، على أسس من معاني التقابل بين سلطة شعبية بمعايير دستورية، ومعارضة حقيقية يحميها القانون ويكفل استمرارها بما لا يحده حد، إلا حدود القانون نفسه..

ومن هنا، فإنه لا يمكن  استكمال المشهد الديمقراطي المطلوب دون حياة سياسية تمرع بالأحزاب من كل طيف. فالتعددية الحزبية والقوى التحالفية والتوافقية الاجتماعية والمدنية، هي جوهر الحياة السياسية التي لا يمكن أن تكون بانعدامها، كما أنه لا يمكن أن توجد إمكانية حقيقية، لإصلاح نظام حكم ما، أو تحرير القدرات البشرية تحريراً حقيقياً بدون تمثيل سياسي شامل في مجالس تشريعية فعالة تقوم على انتخابات حرة ونزيهة وكفوءة ومنتظمة، وذلك كي يتسنى للشعب التعبير عن خياراته الحقة وصون مصالحه دون انكسار في ميزان العدالة  الاجتماعي.

إن السلطة التشريعية هي حلقة الوصل الحصرية بين الحكم والشعب، وفي النظم الديمقراطية. تأخذ حلقة الوصل هذه صورة مجالس تشريعية هدفها صقل القواعد القانونية التي تحكم مختلف القوى الفاعلة في المجتمع، بل وتنظم على وجه الخصوص، سيطرة الحكومة أو السلطة التنفيذية التي يرأسها حزب الأكثرية المنتخب الذي حصل على ثقة الأغلبية في الانتخابات الشعبية النزيهة ـ إضافة إلى الأحزاب السياسية التي يمكن أن تشكل إئتلافاً حكومياً لمرحلة ما، مع حزب الأغلبية الفائز، ولعل أفضل ضمانة لعملية التنظيم هذه، لا تكمن في انتخابات تحفها النزاهة والأمانة والدورية.. فقط، بل في توافر حزب أو أحزاب حرة وفعالة، تلعب دور المعارضة الفعلي والمسؤول (لا الشكلي والاسترضائي) في المجلس التشريعي الذي يمثل كافة طبقات الشعب ومصالحه الجوهرية.

إن الدولة الحديثة التي فشلنا في إقامتها حتى اليوم، قوامها الأساس، ما اصطلح على تسميته بدولة القانون، التي يتساوى أمامه مواطنوها دون تمييز، وهي الدولة التي تسود فيها حياة ديمقراطية حزبية ومدنية وأهلية ذات رؤى وأطياف. فالتعددية الناجمة عن التباين الخالق للتضاد، هي الأصل في عوالم الإنسان والطبيعة والحيوان.. أما القضاء على التعددية بأحادية صنعية قهرية وإكراهية، فإنها لا تستقيم مع طبائع الأمور وحقائق الحياة الطبيعية إنه، وبإعادة البحث إلى أساسه مع تلخيصه نقول:

إن علتنا الأساسية في الوطن العربي، تعود إلى انعدام الديمقراطية (أو إعدامها). فمنذ نُظم الانقلابات العسكرية أواخر الأربعينات وبدايات الخمسينات في أقطار عربية عديدة، فإن أول ما تم القضاء عليه، هو الحياة الحزبية من باب أنها جلابة فوضى، ومع تداعيات السلسلة الديكتاتورية، فإن القضاء الثاني جاء على المؤسسات التمثيلية بحل مجالس النواب والإتيان بمجالس صنعية ليس لها إلا مديح السلاطين وإطرائهم فيما يفعلون ولا يفعلون، ثم جاءت الطامة على حرية التعبير بإقفال الصحافة أو وسائل التعبير الأخرى من حرية اجتماع تحت سقف أو بدونه.. ونختم بالقول: إنه لا حياة سياسية بدون تعددية حزبية، مدنية أو نقابية أو مؤسساتية، فإذا كان لنا أن نخطو الخطوة الأولى باتجاه قرع باب العصر، فإن روح الحياة السياسي يعيش على هواء الحرية، وسوى ذلك فإنه لعب في الوقت  الضائع.

من أجل نظام انتخابي فعَّال ومتقدم

نظام الانتخاب النسبي  مدخلاً للديمقراطية

وتحت عنوان: «من أجل نظام انتخابي فعال ومتقدم»  تتابع «قاسيون» هذا الملف، حيث ننشر هذه المادة بالاتفاق مع  الكاتب والباحث د. محمد جمال باروت:

إن إجراء الانتخابات التشريعية السورية القادمة على أساس تعددي حزبي - سياسي ينظمه، لأول مرة في سورية منذ ثلاثين عاماً ونيّف، قانون للأحزاب، يجب أن يترافق ضرورةً مع إعادة النظر بقانون الانتخابات العامة لعام 1973 وتعديلاته، بما ينسجم مع تمثيل الانتخابات التشريعية لاتجاهات الرأي العام السوري.

ما يحدد قيمة وجدوى قانون الأحزاب المرتقب، هو قانون الانتخاب وليس قانون الأحزاب نفسه، ولعل هذا ما يفسر أن الاتجاهات الدستورية الجديدة أخذت تنظر إلى قانون الانتخاب بوصفه من القوانين الأساسية في الدولة أي من نوع القانون الأول وليس القوانين العادية.

إن قانون الانتخابات العامة لعام 1973 وتعديلاته هو الذي ينظم الانتخابات التشريعية السورية، غير أن عقلية الاحتكار السياسي زيّفت وظيفة القانون إلى عكسه تماماً، من قانون «يعطي الناخب حق الاختيار» إلى قانون يغطي حلول «القيادات محل الناخب في اختيار المرشحين، عندما جعلت النتائج تقرر سلفاً بعد إقرار قوائم الترشيح من قيادة الحزب، مما أبقى الشكل ديمقراطياً لكن المضمون غير ديمقراطي» على حد تعبير دليل العمل البعثي نفسه وليس غيره، أي تحويل العملية الانتخابية إلى مجرد مسرحيةٍ صورية لمرشحين فائزين محددين سلفاً.

إن مدى تمثيلية الانتخابات التشريعية القادمة لاتجاهات الرأي العام تتوقف حقيقةً على مدى ضمان البعث وحلفائه لنزاهة الانتخابات وشفافيتها، والتمهيد السياسي لذلك بالإفراج عمن تبقى من المعتقلين السياسيين، وتجميد حالة الأحكام العرفية وتحديدها في مجالاتٍ مضبوطة تتعلق بمجال السيادة وليس بمجال السياسة، وصولاً إلى رفعها نهائياً، لكنها تتوقف من الناحية الشكلية أو القانونية على إجراء تعديلٍ في مفهومين أساسيين مترابطين من مفاهيم نظام الانتخاب القائم، هما: مفهوم الدائرة الانتخابية ومفهوم نظام الاقتراع أو الانتخاب. إذ يقوم مفهوم الدائرة الانتخابية في ظل القانون الحالي على مفهوم الدائرة الجغرافية الكبيرة التي تعتبر فيها كل محافظة دائرة انتخابية باستثناء محافظتي حلب ودمشق اللتين قُسم كل منهما إلى دائرتين، الأولى للريف والثانية للمدينة. وكي نكوّن صورة عن حجم الدائرة الانتخابية يكفي ان نشير إلى أن دائرة ريف دمشق تعادل جغرافياً مساحة لبنان، وأن دائرة ريف حلب تضم ثماني مناطق جغرافية كبيرة مترامية الأطراف والحدود الإدارية، ويصل تعداد سكانها إلى أكثر من مليونين و600 ألف نسمة.

ويخصص القانون عضو مجلس شعب واحد لكل 50 ألف ناخب، غير أن تعديلاته أفضت فعلياً إلى اعتبار سورية كلها دائرةً انتخابية واحدة مقسمة بشكل اصطناعي إلى دوائر جغرافية، فلقد ألغت تعديلات عام 1981 مفهوم الجدول الانتخابي، كما أتاحت لكل مواطن يحق له الترشح شكلياً أن يترشح في الدائرة الانتخابية التي يختارها بغض النظر عن موطنه الانتخابي، وهذا ما سمح في إطار صورية الانتخابات بترشيح بعض من لم يزر الريف في حياته لمرة واحدة عن مناطق الريف.

إن عدالة التمثيل تربط إلى حدٍ كبير في بعض الوجوه بحجم الدائرة الانتخابية، فكلما كانت الدائرة صغيرة على مستوى المنطقة الإدارية كان التمثيل أكثر عدالةً وتنافسيةً، وتوفيراً لعلاقة مباشرة ما بين الناخب والمرشّح، غير أنه يشجع على تكثير عدد المرشحين المناطقيين أو الجهويي النزعات، بالاستناد إلى قواعدهم العائلية الممتدة أو العشائرية أو اعتبارات النفوذ والقوة والمال والوجاهة، في حين يوفر مفهوم الدائرة الانتخابية الكبيرة ميزة تمثيل المصالح الكبرى والاتجاهات السياسية الوطنية العامة، غير أن تحقيق هذه الميزة سواء اعتبرت المحافظة دائرة انتخابية واحدة، أو حتى اعتبرت سورية كلها دائرة واحدة، مشروط حكماً باعتماد نظام الانتخاب النسبي.

إن كل نظم الاقتراع تتميز بما يسميه فقهاء الحقوق الدستورية بتثقيل الانتخابات، أي عكسها لنتائج لاتمثل إرادات الناخبين، لكن نظام الاقتراع الأكثري على دورةٍ واحدة، والمعمول به شكلياً (أي قانونياً) في سورية هو في الشروط السورية من أكثر النظم الانتخابية التي تتميز بالتثقيل، وبالتالي بلا عدالة التمثيل حتى على فرض إجراء انتخابات نزيهة في صناديق زجاج شفافة تحت إشراف القضاء، فهذا النظام يناسب أساساً نظم الثنائية الحزبية، بحيث يكون الاصطفاف والاستقطاب على المستوى الوطني ما بين حزبين أو جبهتين رئيسيتين تستقطبان الحياة الحزبية، وتدفع بأحزابها إلى التكتل. وفي غياب مثل هذا الحزب الكبير المنافس أو الجبهة المقابلة، بفعل نظام الحزب الواحد ونصف أي الشكل الجبهوي السوري الرسمي لنظام الحزب الواحد الأوروبي الشرقي السابق، فإن نظام الاقتراع الأغلبي يحسم النتائج مسبقاً لصالح الحزب الكبير المسيطر.

إذا ما تم سن قانون للأحزاب مع إبقاء نظام الاقتراع الأكثري فإن حزب البعث يستطيع أن ينتقل ببساطة وعبر آلية تصويتية من نظام الحزب الواحد إلى نظام الحزب المسيطر في إطار تعددية حزبية - سياسية شكلية، لكن في هذه الحالة يكون الحزب قد قلّص العملية الديمقراطية إلى عمليةٍ عددية وليس إلى عملية تمثيلية. التمثيل الأقرب إلى الصحة هو الذي يعتمد نظام الانتخاب النسبي أو يمزج ما بين نظامي الانتخاب والأكثري على مستوى الدائرة الانتخابية صغُرت أم كبُرت، أو يعتمد الحق المزدوج كما هو الأمر في ألمانيا في الانتخاب الشخصي وانتخاب الأحزاب، فهو يتيح لمعظم الأحزاب الصغيرة أن تصل إلى عضوية البرلمان. إن نظام الانتخاب النسبي وأشكاله متعددة للغاية ويشكل اليوم نوعاً من وصفة ناجعة أو مدخلاً مؤسسياً فيما إذا كانت هناك جدية لدمقرطة الانتخابات التشريعية القادمة.