الحركة الشعبية.. وترابط المهام

يمارس السوريون اليوم الفعل السياسي بأقصى أشكاله، بعد سبات ظاهري واحتقان باطني متراكم، وفراغ سياسي «مديد»، بعد أن تُركوا ليعودوا إلى المكونات الاجتماعية الضيقة الطائفية والعشائرية والمناطقية، للاستقواء بها كمرجعية وضمانة في ظل الغياب الكبير لأهم مكونات الكرامة والحقوق الطبيعية ووسائل بلوغها وغياب أدوات تأطير القوة الشعبية من قوى سياسية على منابر ديمقراطية حقيقية ضاغطة تساهم في بناء العلاقة الحقيقية بين المواطن السوري ووطنه، وتؤسس لحقيقة مفهوم الوطن عن طريق المشاركة الحقيقية في بنائه وفي التمتع بثرواته أيضاً.

لم يعلم كل من أبعد الشارع السوري عن صناعة القرار الوطني بكل مستوياته الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، أنه كان يؤسس لتفريغ مفهوم الوطن من عمقه الشعبي ومن روابطه الموضوعية القائمة على فكرة بسيطة أنك تحمي من يحميك، وتعيل من يعيلك، وتنبذ من ينفيك.

فما أنتجت طبول الفراغ السياسي، التي تغالي في رفع الشعارات الوطنية إلا تسطيحاً لمضمون هذه الشعارات، وزيفاً أو لا مبالاة في ترديدها، فالشعب السوري الذي كان دائماً ولا يزال الحامل الرئيسي للقضية الوطنية كان تاريخيا يبني بلاده بعدائه لأعدائه الحقيقيين وببوصلة لا تخطئ، قائمة على إدراك أن مصلحته اليومية الحياتية لا تنفصل عن مصلحته في استقلال بلاده واستقلال قرارها وجاهزيتها الدائمة لمواجهة العدو، فالبلاد التي كانت تبنى كانت تبنى على أنقاض الاستعمار والمكاسب التي كانت تجنى كان شرطها الاستقلال فالبناء.

ولا تزال هذه المعادلة صحيحة، أي لا مكاسب اجتماعية وبناء بلا استقلال وطني حقيقي، إلا أن مفردات هذه المعادلة أصبحت أكثر تعقيداً، وأبعد عن الشكل المباشر السابق، فالعدو لم يعد مباشرة هو الناهب، واختلت سلسلة: الاستقلال – البناء- توزيع المكاسب، ففي ظل «الاستقلال»  والاستقرار الحالي والسابق لم تتم عملية ربط البناء بتوزيع المكاسب الاقتصادية والاجتماعية، وبالمقابل تمت المغالاة في التغني بالاستقلال و ممانعة العدو ومصادرة القرار الوطني والممارسة الوطنية واحتكار قرار الحرب أو المفاوضات وفتح الجبهات أو عدم فتحها واختيار أشكال «النضال» ومستوياته نيابة عن الشعب السوري. وكل هذا كان يؤسس لاغتراب الجماهير عن القضية الوطنية ويؤسس لإعطاء العدو الحقيقي موقعاً جانبياً ولا يضعه في المقدمة، بينما يولد عدو آخر ناجم عن الضغط المباشر واليومي وغياب الحقوق الأساسية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، أي يتوارى العدو الحقيقي أمام التهميش الاجتماعي بكل أشكاله ومستوياته كعدو يومي وحاضر بقوة في كل التفاصيل، وعدو جاثم لا توجد أدوات لمحاربته في ظل الفراغ السياسي الكبير.

يظهر الاحتقان المنفجر اليوم، مدى تلاشي وتغييب فكرة التلازم الوثيق بين القضية الوطنية ومطالب الناس ومصالحها وكرامتها، حيث يجري اليوم موضوعياً في الشارع السوري تجاهل للأولويات الوطنية مقابل التركيز على مكونات الكرامة الضائعة الأخرى.. يجري  موضوعياً أن يسيطر رد الفعل على الحراك الشعبي ويغيب مؤقتاً العدو الوطني الحقيقي مقابل ضغط التهميش الاجتماعي والعنف كعدو قريب وملموس، وكل هذا خطر حقيقي يهدد الوطن حيث يتيح فرز الأعداء وفصلهم فرزاً إضافياً للشارع والشعب السوري وضعضعة الموقف السوري الوطني، بإصابة جذره وهو الالتفاف الشعبي الحقيقي ضد العدو الخارجي، ويرسخ لهذا التشتيت جانبين أساسيين أولهما:

- فرز النظام للشارع على أساس: وطني- غير وطني، باعتبار الحراك الشعبي أداة من أدوات المؤامرة التي تستهدف «موقف النظام السوري الممانع». فالمتظاهر متآمر، وبالتالي خائن للوطن، وهو الفرز الذي يدمر مفهوم الوطن بالمغالاة بتمجيده مقابل تغييب مقومات الشعور الوطني الحقيقي القائم على صون الكرامة، وتحويل الوطن إلى منفى اجتماعي لأبنائه، الذين يلتهمهم التهميش بينما «تصرعهم»، طبول الفراغ السياسي «الوطنية» المفرغة.

- وثانيهما هو موقف المتآمرين الحقيقيين أي القوى السياسية التي تتنطح لتملأ الفراغ السياسي الحالي وتنال رضا الحركة الشعبية الوليدة وذلك بركوب دم السوريين النازف وتصعيد الاحتقان الشعبي، قارعة أيضاً طبول «الثورية الثأرية» بعيداً عن أي عمق ومسؤولية وطنية، سعياً لإيجاد قاعدة جماهيرية تحمل مواقفها اللاوطنية والتي تهدف بالمدى البعيد إلى تغييب العدو الحقيقي، وتسعى إلى تهديم مكونات الثقافة الوطنية السورية الجامعة، مستفيدة من الظرف الحالي الذي يبعد العدو الخارجي عن الاستهداف المباشر، ومحاولة أن توصل المزاج الشعبي إلى الشرخ العميق الذي يقبل الاستعانة بأعداء الخارج على سبيل المثال.

إن تجاهل الفقر والبطالة والتهميش وانتقاص الحقوق والكرامة الوطنية، كأعداء حقيقيين للسوريين وللوطن، تؤسس لردة فعل تغيب العدو الخارجي، وتدفع نحو تحييده، وتقبّل القوى السياسية التي لا تأخذ موقفاً واضحاً منه، وهي ردة الفعل التي يجب على الشارع السوري والحركة الشعبية تجاوزها، فتعميق الوعي السياسي والتجربة السياسية التي يخوضها السوريون ستعيد موضوعياً وضع الأمور في نصابها الصحيح، أي ستلغي الفصل بين الوطني والاقتصادي- الاجتماعي، وستعيد لمعادلة الاستقلال- البناء- التوزيع، مكانتها الحقيقية مع تعميق فهم مكوناتها وأدوات بلوغها، ولكن هذه العملية محكومة بآجال زمنية، ولا يمكن استمرار هذا الانحراف وفرز الأعداء الخاطئ، فكرامة المواطن مكوناتها واضحة، وهي شرط لكرامة الوطن، وتحقيق هذا هو واجب على كل من يغالي في الشعارات الوطنية، وهو كذلك شرط على كل من يغالي في الشعارات الثأرية لكرامة المواطنين المهدورة.

ولن يسعى لتحقيق هذا التطابق إلا كل من يتمتع بمسؤولية وطنية ووعي سياسي، سواء في الحركة الشعبية أو في النظام.