بين الاتفاق الروسي- الأمريكي و«مبادرة» دي ميستورا
كانت نقطة الاختراق الجوهرية، المدونة والمعلنة في صلب الوثائق الخمسة للاتفاق الروسي- الأمريكي حول سورية، تتمثل في جرّ واشنطن نحو توجيه ضربات جوية مشتركة للتنظيمات المتفق في القرارات الدولية على كونها إرهابية، من شاكلة «داعش» و«النصرة»، مع تركيز على استهداف «النصرة» في حلب لتصفيتها. غير أن أمراء الحرب وأساطين الفاشية الجديدة في واشنطن دفعوا بالإدارة الأمريكية نحو تعليق العمل بالاتفاق المذكور، وهو المنجز تحت ضغط موسكو بعد أشهر من المماطلة الأمريكية، لأنهم ببساطة ومن خلال مشاركتهم في استهداف التنظيمات الإرهابية سيكونون كمن يطلق النار على قدميه شخصياً..!
واليوم تأتي مبادرة المبعوث الدولي الخاص إلى سورية لتتحدث عن «إخراج» عناصر النصرة فقط من حلب، وليس تصفيتهم، بل ومرافقتهم بالحماية إلى خارج الأحياء الشرقية من المدينة، مع الإبقاء على بقية المسلحين الآخرين فيها، تحت مسميات الاعتدال، علماً بأن الغالبية العظمى من هؤلاء يدينون علناً بالولاء للنصرة وينسقون معها، ومع الحديث عن بقاء الجزء الشرقي تحت «الإدارة الحالية»..!
ربما يكون السؤال المشروع بالتالي: لماذا سارع حزب الإرادة الشعبية، وجبهة التغيير والتحرير، إلى الترحيب بـ«جوهر» مبادرة دي ميستورا، التي يتضح فيها حجم الالتواء والابتعاد عن الاتفاق الروسي- الأمريكي؟
أولا: لأن المنطق الوطني السليم يستدعي الموافقة، الجزئية أو الكلية، على كل ما من شأنه حقن دماء المواطنين السوريين، ولاسيما النساء والأطفال، أينما كانوا.
ثانياً: لأن هذا الطرح الملتوي ذاته لم يأت من العدم، أو من رهافة إحساس الأمم المتحدة، ومكتب مبعوثها الخاص، بقدر ما هو «وحي يوحى» من واشنطن، بما يشكل تراجعاً أمريكياً، وبداية النزول عن سلم «التعليق». ولهذا السبب تحديداً، على الأرجح، سارعت موسكو للترحيب بالمبادرة أيضاً.
وعليه، يصبح السؤال: وما هي المآلات؟
الآن، ستشكل مبادرة دي ميستورا السقف الجديد لدى الإدارة الأمريكية، وهي للمفارقة تشكل فضيحة جديدة لواشنطن التي أصبحت تتبنى حماية «النصرة» علانية، وليس عبر وسائل المواربة والتلميح والإعاقة المستخدمة إلى تاريخه. غير أن هذا السقف ذاته، وسط الجدال الدائر في أروقة مجلس الأمن حول مشاريع قرارات متعددة المصادر بخصوص سورية، لن يتحقق كما هو، بل سيضطر «الأمريكي» للعودة إلى أقرب صيغة ممكنة للاتفاق الروسي- الأمريكي، بعد احتساب مستجدات موازين القوى الميدانية في سورية.
وبهذا المعنى في المقابل، ولكن من زاوية أوسع، فإن «المبادرة/ التراجع» تشكل منظاراً يمكن من خلاله رؤية موازين القوى داخل الإدارة الأمريكية ذاتها بين التيارين الفاشي و«العقلاني»، والذي أضحى صراعهما معلناً على الملأ، تثبيتاً لحقيقة التراجع الأمريكي في نهاية المطاف، والتي لن تغطيها طويلاً القنابل الدخانية والصوتية «الحربجية» الأمريكية المغامرة.
وللمفارقة أيضاً وسط موازين القوى الدولية المتبلورة تباعاً، فإن حالة الانقسام والارتباك الأمريكيَين، تشكل عامل إعاقة للحل في سورية مؤقتاً، بمقدار ما هي عامل تسريع له على المدى المنظور، ولاسيما إذا ما أخذنا دور الوزن الروسي المتعاظم دولياً وإقليمياً في الحسبان، والذي يدفع بالدرجة الأولى نحو تطبيق القرارات الدولية ذات الصلة، وخاصة 2254، الذي يتضمن إطلاق عملية التغيير المطلوبة في البلاد، على أساس وحدتها وسيادتها، بالتوازي مع تطبيق بقية البيانات والقرارات والاتفاقات الخاصة بمكافحة الإرهاب. وإن هذا التساوق هو ما ينبغي أن يُعلي السوريون صوتهم بشأنه، فلا بديل موضوعياً وجدياً عنه.