إعادة توزيع الثروة.. بين من و من ؟
تطفو على المشهد السوري اليوم, بعيداً عن الشارع الشعبي المتظاهر, المترقب, المتابع, المتهيب, المؤيد... وجوه وفئات سياسية معارضة تتباين نسبياً في خطابها وفي مساحات قربها وبعدها عن السلطة والنظام, وتتم عملية فرز وتصنيف حالية لهذه المعارضة في هذه المرحلة، في مؤتمرات وبيانات، وفي التمسك بشعارات أو طرح بدائل لها, وفي الشرعية التي يضفيها عليها النظام وإعلامه, أو التي يخلعها عنها.. وفي الشرعية التي تضفيها وتخلعها جهات أخرى.
ويغيب محدد الشرعية الأساسي وهو مطالب الناس الحقيقية الجذرية, ويغيب الشعار السياسي- الاجتماعي الجذري الذي يصيب موطن الخلل ومنبته, وهو مطلب إعادة توزيع الثروة بين الشعب وسارقيه.. بين المنتجين والطفيليين, يغيب هذا الشعار حالياً حتى عن صياغات الشارع العفوية, ويختبئ وراء آلام الناس واحتقانهم وخوفهم, وتأييدهم ومعارضتهم, يبقى ملجوماً, ولكنه يبقى المحدد الأساسي لحالة انعدام الثقة عند الأغلبية, وشعورهم بأن الفئات المتناطحة إعلامياً وعلى المنابر وفي المؤتمرات وفي الخطابات غير موثوقة وبعيدة..
فينادي أصحاب المنابر كافة بكل ما يشعل قلوب الناس, ويزيد من فرز الساحات, ويعملون بكل الوسائل على بناء ما يسمونه شارعهم, ومن يدعون أنهم يمثلونه ويعكسون مزاجه بمفرداتهم الإلغائية, ويتمسكون بعملية التسطيح وإبعاد الحراك السياسي عن العمق الحقيقي له, العمق الشعبي الجامع والمطلب الموحد للجميع, مطلب إعادة توزيع الثروة كهدف أساسي, مع ما يتطلبه من أدوات سياسية اجتماعية اقتصادية, وما ينتجه من وحدة وطنية وحالة إلغاء إنتاج الفقر والفساد السائدة, والتي يبدو أن أياً منهم مهما تشدق بمطلب اجتثاث الفساد والفاسدين إلا أن الجميع يبتعد عن الآلية الجذرية التي تمنع إعادة إنتاجهم, والتي تحصن الناس من قوتهم وجبروتهم..
وهنا يتقاطع الكثيرون على الابتعاد عن ضرب آليات إنتاج القوة, ضاربين عرض الحائط بكل منهج, بمناداتهم بحقوق الضعفاء وادعائهم بقداسة تمثيل الشعب وحقهم بقيادته وتوجيهه والتكلم والتحاور والتنسيق والمطالبة نيابة عنه، وهم بالمقابل يبتعدون عمداً أو سهواً عن إيضاح موقفهم من آليات إنتاج الأقوياء والفاسدين..
العدالة الاجتماعية, وضرب الفساد, والعيش الكريم... كلها شعارات رنانة يلتقي عليها الجميع معارضة ونظاماً.. ويبتعد الجميع عن الجذرية في التوجه لها.. عن بناء موقف و طريقة وآلية لتحقيقها، وذلك ليس جهلاً، وإنما عمداً عند الأغلبية.. لأن المتفق على تجاهله هو مطلب كل المتصارعين سياسياً على أكثر المنابر تطرفاً, وهو ما يجمعهم ويفرقهم عنا, عن الأغلبية الشعبية المترقبة والمتخوفة, والتي لا تعتمد التخوين والتكفير والإلغاء، إلا أنها تجاهد باحثة عن ممثل حقيقي, يغيب في العملية الممنهجة لفرز الشوارع بين مؤيد ومعارض, الفرز المطلوب ليكون استعراضاً للقوى المتصارعة على النهب والحصص وحاملاً لطرفي الصراع المتلاقيين على بعدهم عن مطالب الناس الجذرية, الطرفين اللذين تجمعهما الرغبة الحقيقية بإبعاد الشارع عن النضج وعن إفراز مطالبه, والتوجه نحو توصيفها توصيفاً دقيقاً، والعمل السياسي الجدي على بلورة آليات تحقيقها ووضع الاستراتيجيات والتكتيكات المطلوبة, فيكون العنف سيد الموقف, ووليد اللحظة وشعار المرحلة, حتى تصل القوى المتصارعة إلى نقطة اللاعودة, وتولد التوافقات السياسية وتقوم التقاسمات, ولهذا العنف مطلوب، أولاً لأنه أداة لإبعاد الشارع الشعبي عن تكوين فضائه السياسي الجذري القائم على مطلب التوزيع الحقيقي للثروة وآلياته ونتائجه, وهذا الإبعاد هو ما يتفق عليه الكثيرون وهو ما يلغي الفروق الجذرية بينهما, وثانياً العنف أداة لاستعراض القوى والدخول إلى المفاوضات السياسية واقتسام الغنائم من موقع القوة, وهنا وجه الخلاف بين بعض المختلفين ، أي حجم الحصص وتوزيعها بينهما..
لا تخلو الساحة السياسية السورية سواء في المعارضة والنظام من وجوه وطنية بعيدة عن مقايضات الفاسدين في الطرفين, وبعيدة عن ركوب موجة العنف والدماء, إلا أن غياب المنهجية يسمح بتغييب العناصر الجذرية للصراع, يسمح بإبعاد طرح إعادة توزيع الثروة كمطلب أول للانطلاق منه, ذاك الشعار الذي يؤدي إلى تصويب المطالب السياسية ويمنع عملية تحميلها أوجه متعددة, فالحريات السياسية تصبح حرية الشعب بالتأطير السياسي لحماية حقوقه في الثروة ومنع تجاوزات نهبها, والإصلاح الاقتصادي يصبح قائما على خلق النمو وتوزيعه بشكل عادل, بدعم المنتجين والإنتاج ونبذ الطفيليين والريع, أما الإصلاح الاجتماعي فيصب في تأمين الحياة الكريمة للمواطنين كأولوية لخلق البيئات الصحيحة اجتماعياً.. وغيرها من المطالب التي يشكل مطلب التوزيع الحقيقي للثروة بوصلة محددة لمحتواها, وضمانة لاستمرارها.