متى يصبح المناخ جاهزاً للحوار؟
مضى على انطلاق الحركة الشعبية في سورية أكثر من ثلاثة أشهر ونصف، كانت الأحداث تتشابه خلالها، والمشهد نفسه يتكرر: تظاهرات احتجاجية في مناطق مختلفة، ورجال أمن يتعاملون معها على أنها خارجة على القانون، يطلقون النار عليها تارة، أو ينهالون على المنتظمين فيها بالهراوات والعصي الكهربائية والركل واللكم تارة أخرى، وروايات تختلف عن مسلّحين، تأكد وجودهم لاحقاً في بعض المناطق، يستهدفون قوى الأمن والجيش ومؤسسات الدولة...ألخ
ووعود آجلة من جانب النظام بالإصلاحات، ومعارضة ذات شقّين: إحداهما تعمل تحت سقف الوطن وتسعى إلى الخروج الآمن من الأزمة، والأخرى يهرول «نجومها» خلف المؤتمرات في الخارج تحت وصاية ما يسمى بالمجتمع الدولي وأحلافه العسكرية، وتصريحات تصدر عن مسؤولين غربيين وإقليميين، بعضها يجد في ما يحصل فرصة مناسبة لفرض تنازلات سياسية على النظام السوري في سياسته الخارجية، وبعضها الآخر يدعم النظام السوري في محنته مع تأكيده على ضرورة الشروع في عملية الإصلاح...
هذا الوضع أصبح معروفاً بشكل واضح لدى معظم السوريين، لذا فهم اليوم بحالة ترقب شديد لظهور الحلول الجديّة والآمنة للمسائل السياسية والاقتصادية والاجتماعية، والتي لا يمكن أن تشق طريقها، عاجلاً أم آجلاً، إلا عبر عملية حوار تشمل كل قوى الوطن السياسية والاجتماعية بما يساهم بتكوين حركة سياسية جديدة قادرة على دفع الإصلاحات إلى موضع التنفيذ، وبإمكانها خلق المناخ الوطني والنظيف للعمل والتمثيل السياسي في المرحلة المقبلة.
وكون الحوار هو صراع سلمي وحضاري للآراء، لذا فمن الضروري له أن يفضي إلى نتائج ملموسة وعملية كي يؤدي وظيفته الحقيقية وهي: توافق قوى المجتمع المختلفة على عناوين سياسية مؤقتة ودائمة ستخضع لاحقاً للتدقيق المستمر عبر آليات ديمقراطية تضمن أوسع مشاركة لقوى المجتمع، لذا سيكون من الضروري تهيئة تلك القوى وتشجيعها على البدء بالحوار.
وقد شهدت البلاد في الآونة الأخيرة محاولات عدة لعقد مؤتمرات واجتماعات تشاورية للبدء في عملية الحوار، سواء على مستوى المعارضة في فندق سميراميس، وعلى مستوى النظام من خلال اللجنة المكلفة بتنظيم عملية الحوار، ولم تستطع تلك الاجتماعات الخروج برؤية واضحة ومنسجمة، وكانت في الغالب تتعرض لهجوم إعلامي شديد من داخل صفوفها أكثر من الصفوف الأخرى. فما الذي يعيق الحوار حتى في خطواته الأولى؟
يلعب العنف بشكليه: الأمني في مواجهة التظاهرات السلمية، وعنف المجموعات المسلحة في المقابل، دوراً أساسياً في عرقلة عملية الحوار، ومنع وصولها إلى نتائجها المبتغاة، الأمر الذي يكشف باستمرار أن هذين العنفين المتسترين ببعضهما يلعبان الدور ذاته في حماية قوى الفساد داخل جهاز الدولة وخارجه من الخضوع للمساءلة على الجرائم المرتكبة الماضية والحالية بحق البلاد شعبها واقتصادها وقضيتها الوطنية، وهذا أمر تعيه القوى الوطنية والنظيفة في المعارضة والموالاة، ولكن الجرأة في تسليط الضوء على هذه القضية لم توات إلا بعض تلك القوى التي سعت من خلال ذلك إلى إيقاف الفرز الوهمي للقوى السياسية، حتى لو عرضّها ذلك لمحاولات الإقصاء في بعض الأحيان..
لا يسهم الفرز الوهمي في عرقلة الحوار فحسب، بل يلعب دوراً في تشتيت التيارات السياسية الوطنية الناشئة والتحكم في تكوينها، وهذا دور تلعبه بشكل أساسي الضغوطات الخارجية عبر بعض من يسمون أنفسهم معارضين في الخارج، بهدف الإبقاء على الاستعصاء، ليسهل أخذ البلاد إلى النماذج التي أصبحت معروفة لشعوب الشرق: الليبي والعراقي واليمني.. ضمن منطق إحياء الفوالق الماقبل وطنية لدفع الشرق إلى الفوضى الخلاقة وإقامة سايكس بيكو جديد يلائم التغيرات التي طرأت على القوى الاستعمارية،ويساعدها في الخروج من أزمتها الاقتصادية – السياسية- الفكرية الخانقة...
وهذا يضيف أساساً ليس بجديد للحوار في سورية وهو أن يتم تحت سقف الوطن، أي يجب استبعاد القوى المرتبطة أو المستقوية بالخارج من صفوفه...
القضية الأخيرة التي تعيق الحوار هي المنطق السياسي الذي يختبئ وراء الحل الأمني، فما زال البعض يراهن على «إيقاف» الحركة الشعبية باستخدام العنف، أو على استخدام الورقة الأمنية على طاولة الحوار، فلم يستطع البعض حتى الآن قراءة وفهم الإصرار المتجدد لدى الناس في نيل مطالبهم على الرغم من القمع المفرط، فهذه الحركة موضوعية بطبيعتها وليست مؤامرة، بل إن المؤامرة تجد لنفسها طريقاً سهلاً من خلال تلك «الحلول» التي لن تحل الأزمة بل تزيدها تعقيداً، الأمر الذي من شأنه إفشال عملية الحوار وإفقاد الناس الثقة في نوايا المتحاورين وفي نتائج الحوار وزيادة انكفائهم عنه.
فالشعب يريد دولة مواطنة وحقوق وواجبات متساوية لجميع الأفراد، لا أحد يملك الوطن فيها أو يفصله على مقاسه..
والقوى الاجتماعية الناشئة بحاجة إلى أن تكون قادرة على تنظيم حوارها بذاتها بعيداً عن أي بطش أو قهر أو إقصاء..
نحن بحاجة إلى ساحات حوار مكانية وزمانية وفكرية كي نكون قادرين على صناعة مستقبل بلادنا، وكي تتلاقى جميع القوى الوطنية وتصوغ هويتها ومطالبها ولتصنع حريتها وكرامتها...