أية حرية تلك التي نريد؟
تعيش سورية في هذه الأيام مرحلة حساسة، من المتوقع والمطلوب منها أن تؤثر على مستقبل البلاد لسنوات, وتؤسس لعقد اجتماعي جديد يمثل صفحة جديدة في علاقة السوريين بعضهم ببعض, فالشعب السوري اليوم على موعد مع إصلاحات كبرى من المطلوب إعلانها قريباً وبالتزامن مع عمل لجان الحوار الوطني التي لا بد من تحديد آفاقها الزمنية للقطيعة التامة مع ماضي اللجان.
من الواضح تماماً أن مطلب الحرية قد اختير شعبياً ليكون تكثيفاً لجملة من المطالب المشروعة للشعب السوري ديمقراطياً سياسياً واقتصادياً, وليس غريباً ما يمتلكه هذا الشعار من قابلية عالية للتأويل والتفسير ومن ثم التجريف والتفريغ, فإن هذه المرحلة لا بد أن تشهد صراعاً نظرياً عليه أن يحتدم حول جملة من المفاهيم والاصطلاحات التي ومن المتوقع أن تكون العناوين العامة لسورية في الفترة القادمة, وأخص منها بالذكر تلك المفاهيم حمالة الأوجه والتي من الممكن عبر تفريغها من محتواها تحويل الحراك الشعبي – أي حراك شعبي – إلى حراك ملون كـ«الثورات البرتقالية» عبر شكل فقاعي عدمي من أشكال الحرية والإصلاح السياسي.
نسعى هنا للتعمق في مفصلية أساسية لطالما أكدنا عليها, ألا وهي وجود ربط جدلي بين الإصلاح السياسي والإصلاح الاقتصادي, بمعنى أن أي حديث عن إصلاح سياسي دون توضيح شكل الإصلاح الاقتصادي المرافق، كفيل بتحويل الإصلاح السياسي من حالة شعبية هدفها التغيير الاجتماعي إلى شكل عدمي فضفاض لا يقدم أية قيمة اجتماعية أو سياسية مضافة على الواقع الحالي، بل يدخلنا عصر التآكل الذاتي.
وللتوضيح فإننا عندما نتحدث عن الإصلاح الاقتصادي فإننا نتحدث بالضرورة عن ترحيل السياسات الليبرالية والتي لم تجلب لسورية الوطن والمواطن إلا الكوارث بمعدلات بطالة وفقر وتضخم مرتفعة جداً, والتجربة هي التي تسقط هذه السياسات, كذلك فإننا نتحدث عن إعادة الاعتبار للقطاعات المنتجة اقتصادياً أي في فروع الإنتاج الحقيقي المؤهلة لتحقيق النمو والتراكم اللازم للوصول إلى التنمية, وكذلك فلا بد من محاسبة الفساد واستعادة الأموال المنهوبة تراكمياً إلى صاحبها الحقيقي «المجتمع» عبر مشاريع تنموية جديدة, وهي عملية يختلط فيها السياسي بالاقتصادي, فهي وإن كانت تنفيذياً عملية سياسية, فإنها تنعكس ازدهاراً ونمواً في مجال الاقتصاد.
الليبرالية اقتصادياً لم تجلب لسورية خلال عهدنا القصير بها سوى الويلات, في النهاية هي المسؤول الأساسي عن حالة الاحتقان التي دفعت بالأمور إلى هذه المرحلة, فهل سيكون نصيب الديمقراطية الليبرالية أكثر حظاً,
لنذهب هنا في رحلة نحو الكلاسيك بحثاً في الأبعاد التي قدمها أحد أهم منظري الليبرالية الكلاسكية «جون لوك» للحرية المرتبطة عنده ارتباطاً وثيقاً بالحرية, فالبعد الأول يتحدث وفق جون لوك عن تصرف الفرد في ذاته, والثاني يتحدث عن حرية الفرد في التصرف والتفكير (الرأي, الدين, العقيدة), والثالث في حرية الفرد في التصرف بالأشياء الخاصة به قانونياً.
وقد أكد على هذه الفكرة أو تطرف بها الكثيرون من منظري الليبرالية تباعاً من أدم سميث وصولاً إلى فريدريك هايك في القرن العشرين, معتبرين أن حرية التملك هي الشرط السابق لأي حرية سياسية.
والحديث هنا وإن كان جذاباً فإنه ينطوي على مفارقات عدة, بداية لا يختلف عاقلان حول مشروعية الحديث في البعدين الأولين فهما في صميم الخيارات الشخصية للأفراد ولا يمسان أحداً أخر, ولكن, عندما نصل إلى البعد الثالث فإن إشكالية تطفو على السطح لتقول بأن البعد الثالث للحرية لدى جون لوك إذا ما أسقط اقتصادياً فإنه يمس حريات الآخرين, كذلك فإن الملكية الفردية في الإنتاج بحاجة إلى طاقات وخبرات الآخرين لكي تحقق أهدافها, ولذلك فإننا هنا نتحدث عن علاقات تبادلية بين الأشخاص فهل يعقل أن تبقى هذه العلاقات التبادلية حكراً على حرية الفرد يتمتع بحق التصرف الكامل فيها؟
من هنا يأتي الحديث عن مأزق ديمقراطية ليبرالية تقصي حق الدولة في التدخل في الاقتصاد بغية توجيه الموارد المتاحة لتحقيق أعلى نمو ممكن , كذلك بغية حماية حقوق الأفراد الاقتصادية من فرط «الحرية», تلك الحقوق التي لا يمكن دونها الحديث عن حقوق سياسية, ستكون منقوصة بالضرورة, فمن لا يملك سيضطر إلى خسارة حقوقه السياسية تباعاً لمصلحة من يملك, ويعبر توماس ماير عن ذلك بقوله «تكون فرص الحرية لعديمي الملكية رهناً بيد أصحاب الملك».
في خضم الحراك الشعبي في سورية اعتدنا أن يطل بعض قيادات «المعارضة» من الليبراليين أو أشباههم على شاشات التلفزة, بكلمات مخملية معومة عن الديمقراطية وحقوق الإنسان والدولة المدنية «ودولة العشائر إن شاءت براجماتيتهم لهم ذلك» متناسين بخطابهم «الحر» أن للحرية السياسية شرطاً ضرورياً ولازماً يتعلق بالمساواة بين الناس بالحقوق الاقتصادية والتي تفتح الباب على سؤال مشروع في حال غيابها: هل يستوي الذين يملكون والذين لا يملكون؟
كذلك فإن هيرمان هيللر يرى أن الديمقراطية الليبرالية – بمعنى حقوق إنسان معومة وديمقراطية مريضة- تمثل خطراً قائماً يهدد بالرجوع إلى نظام حكم استعبادي, وهذا حقاً ما يحصل في الدول المتقدمة, عبر مجتمع استهلاكي متآكل, حرية التصرف بالأملاك هي ما أوصلنا إليه وغياب دور الدولة هو ما عمم شكله.. (المجتمع الاستهلاكي).
بناء على ما تقدم يمكن القول بأن التساؤل الجوهري: «أية حرية تلك التي نريدها؟»، يمكن الإجابة عليه بأنها الحرية التي تساوي بين المواطنين في الحقوق الاقتصادية قبل كل شيء، وتضمن للدولة لعب دور أساسي في توجيه الاقتصاد نحو تأمين أكبر قدر ممكن من الحقوق الأساسية للمواطن عبر فوائد النمو وضرب الفساد، وهذا الدور لا ينفصل أبداً عن ضرورة وجود قوة حية وحرة في المجتمع السوري تعمل لكي تكون جزءاً من قوة ضغط تخضع جهاز الدولة للرقابة الحقيقية والمباشرة من الجماهير، وتغلق أي باب ممكن للفساد.