سورية بين ظلال الملائكة وأشباح الشياطين
يدور جدل واسع في الشارع السوري حول الوضع الراهن بين من يضع الحركة الشعبية من ألفها إلى يائها تحت خانة المؤامرة، وبين من ينفي وجود المؤامرة جملة وتفصيلا. فأين تكمن الحقيقة؟
بغض النظر عن النيّات الطيبة للبعض هنا وهناك، نحن أمام رأيين يبدو كل منهما وكأنه يناقض الآخر، ولكن نعتقد أنهما يتكاملان معاً من الناحية الموضوعية في تزييف الوعي الاجتماعي وتشويه الحقيقة, وهذا التزييف الآن يضر أول ما يضر الحراك نفسه، إذ يمنع تكوّن الشرط المعرفي الذي لابد منه لنجاح أي جديد، وبالتالي يمنع تبلور الحراك ويحد من وصوله إلى غاياته التي وجد من أجلها،ألا وهي إحداث انعطاف تاريخي في حياة البلاد لمصلحة أغلبية الشعب السوري الذي أصبح ضحية فساد مزمن, بالتزاوج مع آلة قمع أنتجا مسخاً رأسمالياً دمر العالم المادي للشعب السوري، ولوّث عالمه الروحي في وطن كان ومازال دريئة لمشاريع الخارج الاستعماري القديمة المتجددة.
ماذا نتوقع من مئات الآلاف من خريجي الجامعات والمعاهد الذين لم يحصلوا على فرص عمل؟ أجيال سُدّت في وجهها أبواب العمل والسكن والزواج والرفاهية، في مرحلة بات فيها العالم مفتوحا على كل الجهات من خلال ثورة الاتصالات أجيال تعيش حياة رتيبة وروتيناً يومياً مملاً، في زمن يمضي بتسارع، وفي ظل واقع همّش دور الفرد ككائن اجتماعي منتج وفاعل؟ ماذا نتوقع من أبناء المناطق الريفية بعد التدمير المنهجي للزراعة في البلاد, وبعد أن جاءت مدحلة النموذج الرأسمالي الربوي، بكل ما تعنيه من جشع وأنانية لتسحق مصادر دخلهم، وتهشّم شبكة العلاقات الاجتماعية، وتدمر منظومة القيم والعادات والتقاليد الإنسانية السائدة وتجعلهم يعيشون حالة خواء؟أعمى من لم يكن يرى كل ذلك، وساذج إلى حد البلاهة من ظن أن هؤلاء سيسكتون إلى الأبد, وقصير النظر وحده من توهم أن هؤلاء سيقتنعون بالشعارات فقط في ظل جهاز دولة لم يعمل إلا بمنطق إدارة الأزمات, وراكم المشكلات واحدة أثر أخرى لتبدو وكأنها دوامة لا تنتهي؟ أبسط قوانين علم الاجتماع تجزم أن بنية كهذه مهددة بالانفجار إذا اكتملت الشروط، فسورية لا تعيش خارج التاريخ، والقوانين الموضوعية ستفعل فعلها خارج إرادة الجميع، ومن هنا يمكننا القول أن الحركة الشعبية ليست من صنع احد بل هي انعكاس لواقع موضوعي، فكل فعل يقابله رد فعل يساويه في الشدّة ويعكسه في الاتجاه... ولكن يجب ألا ينسى المتابع الحريص أن هذا الانعكاس يتجلى ضمن واقع مشخص له خصائصه وشروطه، تتفاعل فيه قوى داخلية وخارجية لها مصالح ومواقف متناقضة مرة ومتوافقة تارة... أريد القول إنه لا يمكن قراءة الحدث السوري قراءة صحيحة، وتحديد الموقف الصحيح منه دون الأخذ بعين الاعتبار المعادلة الإقليمية ودور سورية في هذه المعادلة بحكم الجغرافيا السياسية على أقل تقدير، والتي تختزل في الحالة السورية الراهنة بوجود السرطان الإسرائيلي، ومشروع الشرق الأوسط الجديد وذلك حتى تكون القراءة واقعية ومتكاملة.
- من يتجاهل أن سورية، ومنذ تشكل الدولة السورية، مستهدفة من قبل أصحاب المشاريع الدولية (سايكس بيكو, وعد بلفور، مبدأ إيزنهاور، النقطة الرابعة الأمريكية، حلف بغداد، وحتى مشروع الشرق الأوسط الجديد) من يتجاهل كل ذلك إنما يفتري على التاريخ، ويفتري على الحاضر ويقدم من حيث يدري أو لايدري صك براءة لأصحاب تلك المشاريع ويصبح شاهد زور مثله مثل من ينكر مشروعية الحركة الشعبية الراهنة ويقزمها إلى مجرد مؤامرة خارجية.
سنتجنب الحديث عن الرواية الرسمية،عن العصابات المسلحة، ودور الاستخبارات الدولية والعربية، والقناصة، والتمويل ومن صدقها أو لم يصدقها، وسنتحدث فقط في الملموس في ما لايحتاج إلى أدلة وتحقيقات، ونتساءل في هذا السياق بماذا يفسر الذين ينكرون (أو على الأقل يطنّشون) التدخل الخارجي، تصريح المسز كلينتون بأن المطلوب من النظام السوري تغيير سلوكه في الملفات الإقليمية، بينما كان الدم السوري يراق؟ وكيف يمكن أن يفسر احتضان أردوغان لرياض الشقفة بكل ما يمثله الأخير من رمزيّة وماض أسود؟ كيف ينظر خصوم نظرية المؤامرة إلى تصريحات الفاسد السابق، والديمقراطي الحالي مأمون الحمصي والدعوة إلى تدخل مجلس الأمن في اليوم الثاني من الحراك؟ وماذا يطلقون على تصريحات القرضاوي الصريحة في إثارة النزعة الطائفية؟ وما سر التهويل الإعلامي المفضوح في الإعلام الغربي واستطالاته من إعلام البترودولار الفتنوي؟ وما علاقة الحرية والكرامة التي ينشدها الشعب السوري بالتدخل اليومي الوقح للمراكز الدولية والقوى الإقليمية في شؤون الحراك الشعبي السوري, ومحاولة التحكم به لتنفيذ مشاريعها فقط, وكأنّ المواطن السوري يرفض اهانة الشبيحة ورجل الأمن المحلي، ليبدلها بإهانة من يمارس دور الشبيحة ورجال الأمن على المستوى الدولي من اوباما إلى ساركوزي.
حقا نحن أمام مشهد سريالي، مشهد يختلط فيه الأبيض والأسود،يتجاور فيه الشياطين والملائكة، فمن جهة حركة شعبية لها مطالب مشروعة، ومن جهة أخرى عدو خارجي يسعى للدخول على الخط لتجيير الحركة لتنفيذ مشاريعه عبر فرض شروطه على النظام فكيف يمكن تفكيك هذه العقدة؟
إن منطق الأمور يقودنا إلى الاستنتاج بضرورة العمل على خطين متكاملين مع الأخذ بعين الاعتبار ما يتفرع عنهما:
- اعتبار الحركة الشعبية حقاً مشروعاً للشعب السوري من أجل الإصلاح الحقيقي والشامل، لا بل إن استمرار الحركة ضمانة الإصلاح.
- اعتبار التدخل الخارجي الدولي والإقليمي جزءاً من مشروع يستهدف بنية الدولة والمجتمع، وهو بالضد من مصالح الشعب السوري ويفرغ الحركة من مضمونها.
إن تجاهل أي جانب مما سبق يقودنا إلى موقع نحشر الشعب السوري من خلاله في زاوية ضيقة ، وضمن ثنائية وهمية إما التعايش القسري مع الفساد والقمع، بحجة وجود تدخل خارجي، أو قبول تدخل الخارج الاستعماري ومشاريعه وخططه المتنوعة، بحجة مواجهة النظام.
فقوى الفساد تسعى إلى وأد الحركة الشعبية مستندة على وجود خطر التدخل الخارجي فتتباكى على الدور الوطني لسورية، ودورها في دعم المقاومة، مستغلة وطنية الشعب السوري بينما مشكلتها الحقيقية تكمن في خوفها من الحركة على نهبها وثروتها المتكدسة نتيجة نهب الدولة والمجتمع، أما قوى الخارج تتباكى على الدم السوري وحقوق الإنسان والديمقراطية متكئة على الاستياء الشعبي لإرباك النظام وفرض شروطه السياسية بينما المصلحة الحقيقية للشعب السوري لاتكمن عند هؤلاء ولا أولئك، وبعبارة أوضح إن مشكلة الشعب السوري مع هؤلاء وأولئك وهما موضوعياً يتكاملان.
نختصر ونقول إن الحراك الشعبي له سبب موضوعي ومن هنا يكتسب مشروعيته, وان الخارج يحاول توظيف هذا الحراك من أجل مصالحه، فلنكن مع الحركة الشعبية من أجل إصلاح جذري وحقيقي وشامل رغم كل «الضجيج» الوطني والقمع الذي يثيره الفاسدون، ولنكن ضد التدخل الخارجي رغم دموع التماسيح التي تذرف على دماء السوريين وحريتهم.
بعد كل ما سبق مرة أخرى نعود إلى السؤال، أين تكمن الحقيقة، هل ثمة مؤامرة أم لا؟..بعيداً عن المقاربة السطحية والجزئية للمؤامرة كما يتناولها الإعلام الحكومي وشبه الحكومي نقول نعم ثمة مؤامرة تستهدف بنية الدولة السورية،نقول ذلك مدركين سلفاً أننا سنصطدم بتلال من «زبالة» الموقف السطحي من هنا وهناك والذي فرضه الإعلام البرجوازي المنافق بشقيه الرسمي والعربي والعالمي، لأن أدوات التآمر على الشعب السوري برأينا موزعون في مختلف المواقع، بدءاً من مراكز الفساد في النظام الذين تعاملوا مع الشعب كعبيد وخدم وحولوا البلاد إلى ملكية خاصة، مروراً ببعض من يركب موجة الحراك الشعبي شاهراً سيوف الطائفية، وانتهاء بنخب سياسية «معارضة» تكرّشت سياسياً وعضوياً على موائد أصحاب ديمقراطية طائرات الشبح.. الكل يحاول أن يمارس دوره على المسرح السوري، فالأول يقتل بدم بارد ويستبيح كرامة بني الوطن ليُبكي حتى حجارة ميسلون وتمثال يوسف العظمة، والثاني ينفخ في البوق الطائفي حتى بتنا نحسد أهالي تورا بورا، والثالث ليبرالي إنساني يقيم المؤتمرات، ويستدعي الخارج ويتحفنا بفكرة مجلس حكم انتقالي لإنتاج ديمقراطية على جماجم ودماء الشعب السوري... ألا يستدعي العقل السليم أن نستنتج انه ثمة مُخرِج يقبع في مكان ما يوزع الأدوار على الجميع طالما أن لسلوك هؤلاء جميعاً نتيجة واحدة؟ ألا وهي تهيئة المقدمات وخلق المناخ المطلوب لتسويق الفوضى الخلاقة.
إن الشعب السوري وحركته لا علاقة حقيقية له بكل هذه المسخرة، لا من حيث ثقافته، أو أهدافه، أو تقاليده لا بل هو في العمق ضد كل هؤلاء، والوطني الحقيقي، الديمقراطي الحقيقي، وإذا شئتم حتى المؤمن الحقيقي الذي يخاف ربه عليه اليوم أن يقف مع الحركة الشعبية ضد كل هؤلاء.